ابراهيم خليل: ” دعوة عشاء” بين القصة والقصة القصيرة

0

بعد إصداراته « عراة على ضفة النهر « 1972 و«محاكمة مديد القامة « (1975) و«أميرة الماء» (1979) و«وجوه تعرفُ الحب» (1992) و«قصص بلون الحب» (2001). ومساهماته في النقد الأدبي، الذي صنف فيه: «فلسطين في الرواية العربية» 1975 و«قراءات في الأدب» 1978 و«الحركة الشعرية في فلسطين المحتلة» 2009 و«الرواية الفلسطينية والمنفى»2001، تصدر للقاص صالح أبو إصبع مجموعة أخرى بعنوان «دعوة عشاء وقصص أخرى».
واللافت أن الكاتب لا يقيم وزنا لتلك التقاليع التي سادت القصة القصيرة في العقود الأخيرة، كالذهاب باتجاه القصة الرمزية، أو القصة التي تقوم على توظيف المرجعيات الأسطورية والميثولوجية، مما يعد لدى كتّاب هذا النوع من القصة حداثة وتجديدًا. ولا يُهرول باتجاه القصة القصيرة جدا، وهذا لا يعني أن للكاتب موقفا من الضروب الفنية المتبعة في كتابة القصص، بيد أنه – في ما نظن ونحْسَبُ- يأنس إلى الشكل القصصي التقليدي الأصيل، المتَّبَع، في كتابة القصة منذ أزمان، ظنا منه ـ وهذا له ما يسوغه ـ أن القارئ حين يقرأ القصة لا يبحث فيها عن الألغاز والأحاجي، التي تتطلب منه قدرًا كبيرًا، أو غير كبير، من التأويل أو التخمين، للوقوف على فحوى الرسالة التي نيطت بالحكاية، أو الهدف، أو الانطباع، الذي يريدُ القاصُّ إحداثة لدى المتلقي، ولكنه مطمئنٌ إلى أنَّ القارئ يبحث، قبل كل شيء، عما يثير في نفسه التوق لمعرفة المآلات، التي تسفرُ عنها الواقعة المحْكيَّة، وما تتمخَّض عنه من دلالات. فإذا حقق القارئ ما يصبو إليه، فبها ونعمت، وإلا فمِنَ الخير للكاتب – في هذه الحال – أن يمزق ما كتب، وأن يلقي به في المهملات، لاسيما وأن الحاجة لهذه المهملات أضحت ماسَّة، في زمن تطرَّق الترشيد فيه لأبخس الأشياء، وفي مقدِّمتها الورق.
ففي قصة «الحاجَّة هنية»، وهي من أفضل القصص، يُذكّرُنا الكاتب برواد القصة؛ فهو يذكر اسم االشخصية ابتداءً متلاعبًا بالدلالة المعجمية لكلمة (هنية) واسم السيدة التي تدور حولها القصة، فهي هانئة في حياتها، سواءٌ في المهجر الأمريكي، أو أثناء رحلاتها إلى الوطن ـ فلسطين- أو بُعيد عودتها النهائية، واستقرارها في البيرة. والقصة ـ على عادة الأوائل – تبدأ بوقائع تمهيدية، يمكن الزعم بأنها ليست جزءًا من القصة، وإنما هي توطئة لمجرياتٍ سوف تُروى لاحقا عن السيدة. فهو، على سبيل المثال، يذكر لنا أنها نوديت بعدة أسماء؛ فاطمة، ثم إليزابيث، ثم ليزا، والأخير اختصارٌ للثاني. وأما (هنية) فاسمٌ لم تعرف به إلا وهي في الخمسين. بعد ذلك يروي لنا سلسلة من المحطات في سيرة هذه المرأة، التي غادرت البيرة فيمن غادر من العائلة، ولمّا تتجاوز الخامسة عشرة. وهناك تابع الراوي دراستها إلى أن ظفرت ببكالوريوس في علم الاجتماع. وعلى الرغم من زواجها الناجح من خليل، البقال، إلا أنها- مع ذلك – تزداد ارتباطا بمراتع الطفولة، ومدارج الصبا، خلافا لآخرين نَسَوْا، أو تناسَوْا الوطن. فهي لا يُسعدُها شيءٌ قدر سعادتها بالعودة إلى بلدتها البيرة، ولو على سبيل الزيارة. وهي تفضِّل الحياة في البيرة على الحياة في أمريكا التي تتلخص لديها بكلمتين هما: هاي وي. حيثُ كلُّ شيءٍ يسير بسرعة جنونية بدون توقف، أو تريُّث.
على أنَّ هذه الهناءة التي تنعم بها السيدة هنية ينغّص عليها شيءٌ واحدٌ، وهو الصعوبات التي تواجهها للحصول على هويَّة تسمح لها بالإقامة في البيرة، كغيرها ممن عادوا للضفة بعد اتفاق الإذْعان في أوسلو.
وزادها نكدَا رحيل زوجها المفاجئ، ورغم هذا كله تراءى لها في إحدى زياراتها، أنها تستطيع البقاء مع ابنتها الوحيدة في البيرة، وأن تمارس نشاطا في جمعية إنعاش الأسرة، لتذهب الهوية، والحاكم العسكري إلى الجحيم. وفي الأثناء يتابع الراوي اليقظ هذه الحكاية، بدون أن يُصاب بالملل، أو الشعور بالاكتفاء بما رواه، فلا يلبث حتى يروي لنا بعض ما أدى إلى اندلاع انتفاضة الأقصى سنة 2000. وقد انفرجت، بهذه الإشارة، أزمة الراوي، الذي يحتاج لما يختتم به حكاية السيدة هنيّة بخاتمة مناسبة، وملائمة، فلا تكون إيجابية فاقعة تضفي على القصة طابعَ المَواعِظ، ولا سلبية مفرطة تثبّط الهمم، وتضعف العزائم، ولهذا سرعان ما اغتنم الفرصة، وهيَّأ للشخصية أن تضحي بنفسها، وتخالط المتظاهرين الصاخبين في صحن الجامع الأقصى، وتتعرَّضُ لما تعرَّض له الآخرون. ويختتم الحكاية بكلمة لا تخلو من دلالةٍ على نهاية الحدَث «كان مستشفى رام الله يعُجُّ بالمصابين، وكانت الحاجّة هنية أحَدَهم».

تذكرنا هذه القصة بقصص الرواد الأوائل ممَّن لم يفرقوا تفرقة دقيقة بين القصة القصيرة short story والقصة story. ولو سُئلنا عمّا إذا كانت «الحاجة هنية» من النوع الأول، أم الثاني لأجبنا على الفور، وبلا تحفظ، إنها من النوع الثاني، لأن هذه القصة تتبعت الشخصية في أطوار متقلبة، ومتباعدة، وجرت فيها حوادث كثيرة، ولولا الانتفاضة الثانية، التي أتاحت للكاتب العثورَ على نهاية مناسبة لبقي تتبُّعُ الوقائع مستمرًا، وربما طالت القصة فأصبحت رواية. وكان الأحرى بالمؤلف، والأجْدر، أن يختار لحظة من حياة السيدة هنية، فيسلط عليها الضوء، كاشفا عبر تداعياتٍ ومونولوجاتٍ، لا تتوافق مع دورة عقارب الساعة عن هاتيك المقدمات، فلو لجأ لهذا النوع من التشكيل السردي، غير الخطّي لكانت النتيجة قصة قصيرة بالمعنى الدقيق للمُصْطلح.

المتفرجون…

ولربَّ سائلٍ يسأل: ما الرسالة التي يريد المؤلف أبو إصبع أن يبعث بها للقارئ في هذه القصة؟ جوابًا عن هذا يمكن القول: إنه أراد أن يلقي الضوء على الدور الذي تنهض به المرأة في مقاومة الاحتلال، وهذه السيدة، على الرغم من أنها تحيا مطمئنة البال، ميسورة الحال، في المهجر الذي تقيم فيه، إلا أنها تتشبَّثُ بالعودة. وتريد الاستقرار في مدينتها البيرة، على الرغم من صعوبة الحصول على الهوية، التي تسمح لها بتلك الإقامة. وحين تنفجر الأوضاع، تبادر مع من يبادرون للتظاهر والاحتجاج، ضد الاحتلال الفاشي، فالقصة – بكلمة موجزة – تلقي الضوء على الممْسكات بجمر القضية في أداءٍ سَلِسٍ يُغري القراءَ باتخاذها قدوة.
والسؤال الثاني المتوقع هو: هل تنفرد هذه القصة بهذا الموضوع؟ أم أن لها أشباها في القصة العربية القصيرة عامة، والفلسطينية بوجه خاص؟
تذكرنا الحاجة هنية بقصة «المتفرّجون» للقاص الراحل خليل السواحري (أنظر الأعمال الإبداعية الكاملة، ط1، عمان: منشورات الدائرة الثقافية في أمانة عمان الكبرى، 2008) ففي تلك القصة يُسلط القاص الضوء على الدور الذي تضطلع به المرأة في النشاط الحزبي، والسياسي. فالبطلة وهي سيدة في الخمسين، ابتليت بأحد العاملين في الفنادق فاستأجر الحُجْرة المقابلة لمنْزلها في حيّ باب الواد في القدس. وهذا العامل سرعان ما ساورته الشكوك في سيرة المرأة؛ لا لشيء إلا لتعاقب الزوار من الناشطين السياسيين إلى منزلها، فما كان منه إلا أنْ ظنَّها بائعة هوى. ومما زاد الطين بِلّةً أن صاحب الحُجْرة المسْتأجَرة أكَّد له ذلك. وهكذا طفق هذا العامل يراقب.. ويراقب.. وكأنه كُلِّف بذلك من قوة قاهرة غامضة إلى أن فوجئ بها تتصدر المتظاهرين في المسجد الأقصى في الذكرى الأولى لاحتلال القدس. واكتشف هذا المراقب أنه هو، ومَنْ على شاكلته، يكتفون بدوْر المتفرِّجين، فيما تقوم النساء بدور المناضلين، فيعتقلون، أو يصابون، أو يستشهدون، وتنشُر الصحف اليومية أخبار استشهادهم على صدور صفحاتها الأولى.
ويبدو لنا الفرق ـ في الواقع – كبيرًا بين القصتين، لا من هذه الزاوية حسب، بل من زاوية البنية السردية أيضًا. فالسواحري – رحمه الله – لم يقم بكتابة رواية ملخَّصة، مضغوطة ضغطاً، في صفحات قليلة، بل اختار لحظة من حياة هذه الشخصية: نعني شخصية العامل الفندقي، الذي استأجر بيتا، وراقب المرأة في بضعة أيام متلاحقة لا تباعد بينها، مدفوعًا بما في نفسه من وَساوس، وهَواجِس، وأخيرًا حانت لحظة التنوير، والكشف، التي تنبثق منها عادةً وَحْدة الانطباع. صحيحٌ أن (المتفرجون) من حيث الحجمُ، وعدد الكلمات (ص342- 353) ليست أقل حجمًا، أوْ أقلّ عددًا من قصة صالح أبو إصبع، وربما كانت أكبر حجمًا، وأكثر عددًا، لكنَّ المؤلف السواحري لم يسمح للراوي المشارك فيها بالتمدُّد، والاسترخاء، بحيث يروي وقائع عديدة تمتد من الولادة إلى الشهادة، بل اختار تلك اللحظة التي لا علاقة لها بما قبلها، ولا بما بعدها من لحظات. مِصْداقا للقاعدة الأساسيّة التي راعاها موباسان وغيره من أساتذة هذا الفن، وذلك يتسق مع اختيار السواحري للمكان الذي يشكّلُ، عبر تحركات العامل، ومراقبته للمرأة، إطارًا حافظ فيه على وَحْدة النسْج. علاوة على أن عقدة الحدث، وهي العثور على مَخْرج لوساوس الراوي، وشكوكه، جاءت مناسبة لطبيعة هذا الشخص الفضولي، أو البصّاص، بكلمة أدقّ. فالسَعْيُ لمعرفة الحقيقة أسْفرَ عمّا لا يتوقعه، ولا يتوخاه، وجاء الكشفُ- في نهاية القصة ـ صاعقًا، لقَّنه درسًا أخلاقيًا واجتماعيًا قاسيًا في غير اضطرار من الكاتبِ للوعظ، أو النُصْح. فقد حافظ الساردُ على ديناميكية الحركة في القصة إلى أنْ بلغت الكلمات الأخيرة، في حين ظلَّ الكاتبُ في «الحاجَّة هنيّة» يُلحُّ على ما هو مُتوقَّع، وعلى ما هو مُضْمَر، فجاء الخبَر بما انتهت إليه من إصابة، أو اسْتشهاد، فاترًا. فهو لا يعدو التأكيد على أن الحاجَّة هنيّة تمثل، بشخصيَّتها السردية، دورًا نِسْويًا في الحركة الفلسطينية إبّانَ انتفاضَة الأقْصى.

*القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here