بعد سفر دام ساعات، بين باريس، وألمانيا، وجدنا أنفسنا في بيت الشاعر
مروان علي، مستعدين لندوة يوم غد، في مدينة هرنة، حيث أقيمت هناك، حضرها عدد من
أهلنا الكرد، منهم من كنا قد فارقناه منذ وقت طويل، ومنهم من كنا قد فارقناه منذ
وقت قصير، ومنهم من لم يكن بيننا أية معرفة مباشرة، بيد أننا التقينا هناك، كانت
ندوتنا – ككل الندوات التي أقيمت – حول مجريات انتفاضة 12 آذار/مارس 2004، وواقع
وآفاق القضية الكردية في سوريا، حوارات جميلة تمت بيننا وأهلنا، اتسمت بالحميمية. ولعل القرص المدمج
للحوار لا يزال في حوزة عدد من الأصدقاء، وإن كان لم يتسن لنا جلبه معنا – آنذاك-
بسبب رقابة الطريق، وإن كان الأخوة الذين وعدونا بإرساله –لاحقاً – بالبريد
الإلكتروني، ولم يتمكنوا من ذلك، بسبب رداءة خدمة الإنترنت، لاسيما في المناطق
الكردية في سوريا.
مداخلتانا
أنا ومشعل في هذه الندوة والأسئلة والأجوبة التي تلتها – وكانت الأولى في أوروبا-
بعد ندوة باريس، أجدها الآن، بعد تسعة أعوام مرت عليها، وكنت أتصور أنها مؤرشفة في
ذاكرتي، بيد أن السنوات يبدو قادرة – بحق – أن تمحو التفاصيل التي لابد من أن تتم
الاستعانة بتلك الأقراص المدمجة كي تستعيدها، كاملة، بدءاً بلحظة دخولنا مكان
الندوة، وكان- على ما أذكر- صالة أعراس للشاب شويش، ومروراً باحتفاء الأصدقاء بنا
هناك، ومنهم محمد ملا أحمد وجان كرد وآخرون كثيرون، كانوا يرون فينا من عداد من
لهم وقفاتهم في مواجهة قتلة الكرد، وإن كان ما فعلناه، قد تم من خلال الدور
الإعلامي الذي قمنا به، آنذاك، وكان ذلك مهماً لاسيما في تلك المرحلة التي لم يكن
لدى كردنا غير بعض المواقع الإلكترونية التي أدت دورها بشجاعة، وهي في غالبها كانت
في الخارج، باستثناء موقع واحد هو “كسكسور” الذي كان يطلق من الداخل. في
الندوة استطعنا إيصال رسالتنا إلى أهلنا، لاسيما وأن شباب أورةبا وقفوا بشكل مائز،
خلال هاتيك الأيام العصيبة، ضاغطين، من خلال مسيراتهم على نظام دمشق، في أول تحد
من نوعه في تاريخ سوريا على الإطلاق.
– كيف تريان بيتي؟
يسأل
مروان
نجيب:
الآن
بدأنا نشعر بالراحة. إنها إمبراطوريتك. لكن زيارتنا جاءت على حساب راحة ملك ومينا.
يرد
مروان:
ملك
تحس أن كل أهلها جاؤوا من الوطن، وهي صاحبة الفكرة، في أن نفرغ لكما البيت، كانت
أمامنا خيارات أخرى، لكني لا أقبل، إلا وأن تقيما عندي، أحس أن سوريا كلها هنا،
أحس أن قامشلي كلها هنا، أحس أن أهلي كلهم يزورونني معكما.
أجل،
بيت مروان علي، بات عنواننا، خلال فترة بقائنا في إيسن، فور وصولنا إليه، وجدناه
في انتظارنا، حيث رغم ضيقه، إلا أن سعة قلب مروان الذي كنت أعرفه في ما قبل صديقاً
شاعراً، ذا روح مشاكسة، متمردة، وبيننا علاقة عميقة، بدت أوضح، حيث فرغ لنا بيته،
لا سيما وأن بيت عمه – والد زوجته كان في المدينة ذاتها فلجأت إليه زوجته وطفلته –
لنقيم فيه حوالي أسبوعين من الزمن، ننطلق منه إلى مدن أخرى، نقيم فيها ندواتنا،
ونعود إليه مرة أخرى، وهو يرافقنا – في الغالب- وإن كنا سنستعين بصديقنا محمد
سليمان عندما نذهب إلى بون – كي نزور الصديقين حسين حبش وعنايت ديكو في بيت حسين- ونعود ليلتنا، وقد أتركه أنا لأزور بعض أقربائي،
ويذهب مشعل لزيارة بعض أقربائه، بيد أن عنواننا الأخير كان دائماً بيت مروان، وإن
كنا سنقيم في بيوت أصدقاء آخري في مدن ألمانية كبيت عبدالحميد خليل في هانوفر، أو
بيت سيامند حاجو في برلين.
– ألم
ضرسي اشتدَّ
يقول مشعل، وهو ما يفسد عليه مشاركته لحظة استقبالنا الأولى في بيت
مروان، حيث يبتكر مروان طريقة، يمضي به هو ومحمد سليمان إلى مستوصف قريب، يعود
مشعل بفم عليه آثار المخدر، وهو يعض على قطنة وضعت فوق موضع الألم، من دون أن
يمنعه ذلك من الانخراط، في الحديث، كي يستمر ذلك إلى أيام، وهو يتحايل على ألمه،
بروحه المرحة، كي يقول: إنها مؤامرة من بشار الأسد.
يلفظ
اسم بشار الأسد، يبدي رأيه فيه، كما سيفعل ذلك الآن، بعضهم، بعد الثورة، بشجاعة،
وكأننا لن نعود إلى سوريا، كي أستمد منه القوة، بين لحظة وأخرى، كلما استبد بي
الشوق إلى قامشلو، والأهل، حيث لا أستبدلها بكل العالم.
– ابقوا هنا في ألمانيا، ستحصلون على الإقامة، في أقصر مدة ممكنة،
يعرض علينا عدد من الأصدقاء، بيد أننا – الاثنين- نرفض ذلك – رغم أن العودة إلى
سوريا محفوفة، بالخطر، الخطر الحقيقي.
-سنقيم الاعتصامات
مرة أخرى إن اعتقلوكما.
يقولها
الأصدقاء، هناك، ويطمئنني مشعل، لا تقلق، الإقدام على اعتقالنا ليس سهلاً، لاسيما
وأن الآخرين الذين شاركوا في لقاء باريس، من داخل الوطن، عادوا جميعا.
في
بيت مروان علي، وإن كان الأصدقاء سيزوروننا، هكذا، على الدوام، ونلتقيهم فيه في
سهراتنا الطويلة، كي يمضي بنا مروان نهاراً إلى مدينته، نجوب أسواقها، وأحياءها،
كي نعود إليه، ليحضن تفاصيل أيامنا هناك، نخطط فيه لبعض الندوات التي كنا سنقيمها،
نتوزع الموضوعات التي سنتحدثها، كي يترك لي – في الغالب – ما له صلة بالجانب
الإعلامي، للانتفاضة، حيث كنت فرغت نفسي، وأسرتي لها، وبشكل صريح، ومن دون التقنع
وراء الأسماء المستعارة، بينما كان مشعل يتحدث عن دور الأحزاب الكردية في
الانتفاضة، باعتباره كان قد عمل في صفوف الاتحاد الشعبي، لوقت طويل. وهنا، أتذكر-
ونحن في بيت عم لي في مدينة أخرى – أننا تفاجأنا بأن شخصية قيادية قد أرسل رفيقاً
له، يحمل رسالة استفزازية صعق مشعل وهو يتلقاها، لا سيما بعد أن وجد أن أداء مشعل
في الانتفاضة بات يشكل خطراً عليه، وعلى أمثاله، وهو ما سنكتشفه – أيضاً – في بيت
د. عبدالباسط سيدا عندما يتصل به سكرتير في حزب آخر، كان يستقتل للحصول على
المكاسب قائلاً له: إبراهيم ومشعل مستقلان، فلم لم تتم دعوتنا، ليرد عليه د.
عبدالباسط: أجل، من دعاهما يعلم ذلك، ولم تتم دعوتهما إلا نتيجة أدائهما، وهم
يعرفون أنكم أنتم سكرتيرو الأحزاب وقياداتها.
ثمة
كتب وجدتها في مكتبة مروان، وإن كانت قليلة، بيد أنها كانت متميزة، صرت أختار
بعضها-لاسيما في ما يتعلق منها بالشعر أو النقد – وكان مشعل يقرأ ما هو قصصي، أو
سياسي، أو فكري، فلسفي، وما أن نغرق في القراءة، ينبهنا مروان، قائلاً: لندع الآن
قراءة الكتب، خذوها معكم، أريد – الآن – أن نتحدث، هيا، ثم يحاول برفق إغلاق ما
بين أيدينا من كتب، بعد أن يشير إلى الصفحات التي وصلنا إليها، كي يطلعنا على خبر
مهم، قرأه، أو يسرد لنا انطباعاً من قبل أحد المتصلين به عن ندوة لنا، أو دعوة من
هذا أو ذاك، قائلاً:
حسناً،
لقد أفهمته أن لا وقت لديكما، وألف أهلاً به فليأت هو بنفسه.
كنت أحسُّ بإحراج شديد، نتيجة تفريغ مروان نفسه- وكان آنذاك بلا عمل- لاستضافتنا، وهو عمل مضن، لاسيما عندما يستغرق أياماً، وكان هناك أصدقاء كثيرون يدعوننا، بيد أنه كان يلحُّ على أن نظل عنده، وكأنه كان يعلم أنها الفرصة الأخيرة للقاء مشعل، وإن كنت سأسافر معه – في ما بعد إلى هولير- ولزيارتنا الهوليرية هذه أيضاً تفاصيلها، في بيت مروان وجدنا فضاء من الحرية، فضاء خاصاً، كي نعيش الاثنين مع مشعل، في لحظات حميمية، عميقة، وهو ما كان يتجلى-على نحو أقل- في بعض البيوت الأخرى التي أقمنا فيها، خلال رحلتنا إلى أوربا، ما دمنا نمضي أوقاتنا، على مدى الأربع والعشرين ساعة في اليوم، معاً، يستيقظ مشعل صباحاً، قبلي، ينتهي من الحلاقة، يطرق باب غرفتي:
– صباح الخير!
أرد: صباح الخير، كم الساعة؟
فيتابع: هيا انهض، ها نحن نعد القهوة، إلى أن تنتهي من حمامك، كي أنضم إليهما- هو ومروان- أراه ينقل لي آخر أخبار الأهل، وصدى زيارتنا، لدى بعض الأصدقاء الذين يتصلون معه من هناك، أسرع نحو الكمبيوتر، أفتح بريدي، أجيب على بعض الرسائل، ونخطط للظهيرة، ولعلي لا أنسى حتى الآن نكهة” المعكرون” التي أعدها مشعل، إلى جانب طعام الغذاء، أتذكر تفاصيل اللحظة، وهو يعمل في المطبخ، وأنا أتابعه مندهشاً، يعمل بمهارة شيف طباخ عريق، كي أذكره، أنى التقينا، ومتى ستعد لنا “معكرونة” أخرى، فيضحك. يقرأ مروان بعض نصوصه، يقرأ مشعل بعض قصصه بالكردية، أنى وجدنا وقتاً خارج التخطيط للندوات، واللقاءات، حيث أجندة صديقنا مروان، وغيره من مضيفينا ممتلئة بأسماء الزوار، أو الذين يدعوننا – هاتفياً – لتخصيص يوم لنا بينهم. كي يأتينا بعضهم حتى من هولندا، أو من السويد، كما سيفعل الشاعر مرفان كلش، وينام معنا ليلة، في بيته، ونسهر في بيت محمد سليمان، نتناقش في أمور كثيرة.
-غداً نذهب إلى هولندا!
يقول مشعل
يرد مروان: أنا جاهز!
نستيقظ صباحاً، وإذا بسلمان سعيد قاسم، قد جاء كي ننطلق بسيارته إلى المدينة المتاخمة لألمانية والتي يقيم فيها، لنبات ليلتنا الأولى عنده، نلتقي مجموعة من شبابنا الناشطين الكرد في بيته، أمازحه قائلاً: أنت مدين لنا، لأن أبي خطب لك زوجتك من والدها، وهو عمه، وكان لا يزال من ناشطي اتحاد الشعب، وهو ممن عملوا مع أبي فارس، عن قرب، كي ينطلق بنا الثلاثة إلى العاصمة أمستردام في يومين مائزين، مدهشين، أيضاً، لاسيما وأن لهذين اليومين اللذين سنمضيهما في رحلتنا-هذه- وقعاً خاصاً في نفوسنا، وهو ما لم يتكرر في أوربا، كما يخيل إلي، لأننا طالما تذكرناه، ونحن نستعيد أبرز ملامح زيارتنا، ليعود بنا صاحب الدعوة مرة أخرى إلى بيت مروان، بعد يومين، نواصل نشاطاتنا، إلى أن نسافر إلى مدينة اوبرهاوزن.
*خاص بالموقع
مجلة أوراق