خرج الغواني يحتججن ورحت أرقب جمعهنه
فإذا بهن تَخذن من سود الثياب شعارهن
فطلعن مثل كواكب يسطعن في وسط الدجنّه
وإذا بجيش مقبل والخيل مطلقة الأعنه
وإذا الجنود سيوفها قد صوبت لنحورهنه
وإذا المدافع والبنادق والصوارم والأسنة
والخيل والفرسان قد ضربت نطاقاً حولهنه
والورد والريحان في ذاك النهار سلاحهنه
فتطاحن الجيشان ساعات تشيب لها الأجنه
ثم انهزمن مشتتات الشمل نحو قصورهنه
فليهنأ الجيش الفخور بنصره وبكسرهنه
فكأنما الألمان قد لبسوا البراقع بينهنه
وأتوا بهندنبرج مختفيا بمصر يقودهنه
فلذلك خافوا بأسهن وأشفقوا من كيدهنه!
هذه القصيدة التي نادراً ما يؤتى على ذكراها في أيامنا هذه، هي من نظم شاعر النيل حافظ ابراهيم، وهو قالها، كما يتبدى للقارئ، في نساء مصر وقد خرجن ثائرات ضد العسكر، فإذا بالعسكر ينتصر عليهن بقوته. لكنه في انتصاره يسجل أسوأ هزيمة حاقت به. أما العسكر المذكور هنا فهو عسكر الإنجليز، وأما ثورة نساء مصر فكانت يوم السادس عشر من مارس (آذار) 1919، في عز اندلاع الثورة الوطنية المصرية على الإنجليز احتجاجاً على اعتقال قيادات الوفد.
نساء سافرات إلى الشارع
إبان تلك الثورة، ومع إطلالة أسبوعها الثالث، خرجت المرأة المصرية إلى الشارع محجبة وسافرة، صامتة وصارخة، معلنة وقوفها ضد المحتل وضد ممارساته، والحال أن أهل مصر كانوا أول المندهشين إزاء ذلك التجمع النسائي الذي كان الأول من نوعه، ولم يكن بعد ذلك الأخير؛ إذ منذ تلك الساعة عرفت المرأة المصرية، من الطبقات والفئات والطوائف كافة، كيف تنتهزها فرصة لإطلاق صوتها إلى جانب صوت الرجل.
ولعل أفضل رواية لتلك المظاهرة التي سجلت انعطافاً في تاريخ ثورة 1919، هي تلك التي يرويها لنا، في مذكراته عن الثورة عبد الرحمن فهمي، أحد قياديي الوفد، حيث يقول، “لم تشأ المرأة المصرية أن تحجم عن المساهمة في تلك الثورة التي اشتد لهيبها، فأرادت أن تحظى بشرف هذا العمل المجيد، هي تبرهن على أنها ليست أقل قوة وعزيمة عن أختها الغربية، وهي تذكي نار الحماسة الوطنية في قلوب الرجال. ففي 16 مارس انطلق كثير من عقائل العائلات الراقية بين أنحاء القاهرة هاتفات بحياة الحرية والاستقلال، مناديات بسقوط الحماية، وقد مررن بموكبهن بدور القنصليات ومعتمدي الدول الأجنبية والناس من حولهن يصفقون لهن، ويهتفون والنساء من نوافذ بيوتهن يزغردن ويهتفن، فكان ذلك منظراً رهيباً يأخذ بمجامع القلوب”.
يتابع عبد الرحمن فهمي روايته قائلاً، “ولكن لم يكن للسلطة أن تترك مثل هذا الموكب الرائع دون أن تشوه من جلاله، فضرب الجنود الإنجليز نطاقاً حولهن وسددوا إليهن فوهات بنادقهم وحرابهم، على أن السيدات لم يرهبهن هذا التهديد، ولم يفتّ من عضدهن مشهد أولئك الجند المسلحين، بل تقدمت واحدة منهن إلى جندي كان قد وجه إليها بندقيته وقالت له بالإنجليزية، «اطلق بندقيتك في صدري لتجعلوا في مصر (مس كافل) ثانية”. وتقصد بهذه الإشارة إلى “مس كافل” الممرضة الإنجليزية التي أسرها الألمان خلال الحرب العالمية الأولى واتهموها بالجاسوسية وأعدموها رمياً بالرصاص، وكان لمقتلها ضجة كبرى في العالم. عندما قالت السيدة المتظاهرة هذا الكلام خجل الجندي، حسبما يروي عبد الرحمن فهمي، “تنحى للسيدات عن الطريق بعد أن لبثن في وهج الشمس أكثر من ساعتين”.
رائدات على مستوى العرب والمسلمات
نساء مصر هؤلاء كن في ذلك اليوم رائدات في ذلك التحرك النسائي العربي والمسلم الذي لم يهدأ بعد ذلك، فإن كان في حالة تظاهرة مارس (آذار) 1919 تحركاً ضد المحتل، ومن أجل القضية الوطنية، فإنه عاد بعد ذلك واتخذ على مدى العقود التالية أشكالاً مختلفة؛ اجتماعية وسياسية وثقافية.
المدهش اليوم، أن هذه المرأة المصرية (العربية والمسلمة)، التي عرفت كيف تخوض نضالاً طويلاً من أجل القضايا الوطنية والاجتماعية، التي في حالة ثورة 1919 عرفت كيف تفرض حضورها وتثير تعاطف المراقبين الأجانب، الذين شددوا من ضغطهم على حلفائهم الإنجليز.
هذه المرأة نفسها باتت بعد ذلك بثلاثة أرباع القرن مرغمة على خوض نضال ما كان يخيّل إليها أنها ستخوضه يوما؛ نضال من أجل حريتها الأساسية، ومن أجل تثبيت كيانها كإنسان في أوطان أسهمت في بنائها، وتطالبها اليوم بأن تعود إلى المنزل وإلى شتى أنواع الأَسر، من حجاب وسيطرة للرجل وغيره، لتعيش عالة على المجتمع أسيرة تقاليد ليست لها علاقة لا بالدين ولا بالتقاليد الاجتماعية العربية والإسلامية، ولا بالعصر الذي نعيش فيه.
أما بالنسبة إلى حافظ إبراهيم، “شاعر النيل”، الذي خلّد تلك اللحظة بشعره، فإنه كان من ألمع نجوم الشعر في زمنه إلى جانب أحمد شوقي وخليل مطران. ولقد اشتهر خاصة بنظمه العديد من القصائد التي تنتمي إلى ما يُعرف بـ”شعر المناسبات” وهي قصائد كان ذواقة الشعر العرب يتلقفونها ويرددونها جاعلين منها شعارات تحركهم. وكان أولئك الذواقة يتعاطفون مع حافظ ابراهيم، ربما أكثر من تعاطفهم مع زميليه الكبيرين انطلاقاً من “بلدية” حافظ ابراهيم وعصاميته المعروفة، ومصريته الأصيلة، غافرين له أنه من أم تركية الأصل، مقابل أرستقراطية أحمد شوقي ذي الأصول الكردية و”شامية” خليل مطران الآتي من بعلبك اللبنانية.
ومن هنا ربما كان حافظ هو المفضل عندهم، بخاصة أنه كان ثمة تعادل دائماً في الموهبة الشعرية بين الشعراء الثلاثة، وتعاطٍ مع الشعر يجعل منه مخزوناً للحكايات الوطنية والتواريخ العالمية، علماً بأن الثلاثة كانوا سواء في تعاطيهم مع شعر المناسبات من دون أن ننسى أنه فيما كان شعر حافظ ونثره يتسم بمخيلة إبداعية، كانت ثقافة خليل مطران تعطيه أرجحية ما، فيما تلعب هذا الدور لدى شوقي قدرته الفائقة على إيجاد اللغة التي تسعفه في أي موقف يجابهه، هو الذي قال في رثاء حافظ نفسه تلك القصيدة الرائعة التي يقول في أبياتها الأولى:
قد كنت أُوثر أَن تـولَ رِثائي يا منصف الموتى من الأحياء
لكن سبقت وكل طول سلامة قدر وكل منيّة بقضاء
الحق نادى فاستجبت ولم تزل بالحق تحفل عند كل نداء
وأتيت صحراء الإمام تذوب من طول الحنين لساكن الصحراء
المبدع الذي صنع نفسه
وتقول لنا سيرة حافظ إبراهيم أنه ولد على ظهر مركب نهرية راسية غير بعيد من بلدة ديروط بمحافظة أسيوط في شهر فبراير (شباط) 1872، وتوفي في شهر يونيو (حزيران) 1932 وهو في الستين من عمره، لكن والديه توفيا وهو صغير تباعاً حيث رحل أبوه باكراً، ما اضطر أمه التي أحست بالعجز عن تربيته إلى الانتقال به إلى القاهرة حيث وضعته في عهدة أخيها قبل أن تسلم الروح. وهذا الأخ لم يلبث أن انتقل إلى طنطا مصطحباً معه الفتى، الذي بعد دراسة في كتّاب هذه المدينة ترك خاله وعاد إلى العاصمة حيث راح يدرس على نفسه متنقلاً بين الكتب ودواوين الشعر، معتمداً على ذاكرة لم تخذله حتى أيامه الأخيرة، ما مكنه من حفظ نصوص كاملة وألوف القصائد، وشكّل “جامعته” الحقيقية، ناهيك عن أنه وجد نفسه تلقائياً يكتب الشعر تعليقاً على ما كانت مصر تمر به من أحداث جسيمة في تلك السنوات التي افتتحت القرن العشرين.
وقد لامس في نفسه اهتماماً لا شك فيه بكل ما هو وطني ونضاليّ، دون أن يواكب ذلك توق حقيقي إلى التثقف عبر الكتب، رغم تسلمه وظيفة في دار الكتب عيّشته بين الكتب والأفكار.
وسيرى عباس محمود العقاد في الأمر “أعجوبة فكرية حقيقية”. ولسوف يمضي حافظ سنوات حياته متابعاً للأحداث معلقاً عليها، مبذراً كل ما يدخله من مال قليل، متبرماً بأي وظيفة يضطر لشغلها بما في ذلك رئاسته لاحقاً لدار الكتب، التي كان يقول إنها سوف تقضي عليه يوماً. لكن ذلك لم يمنعه من القيام برحلات كثيرة في صحبة أحمد شوقي الذي كان يعتبره من أقرب أصدقائه.
*المصدر: اندبندنت