نورالدين ناصر ، طبيب، وكاتب سوري
أوراق 19- 20
نقد
ولد الأديب إبراهيم الخليل في مدينة الرقة عام 1944، وهو يحمل إجازة في اللغة العربية من جامعة دمشق منذ عام 1970. انصرف منذ مطلع شبابه إلى العناية بالأدب واللغة، وكتب في معظم الأجناس الأدبية “قصة، شعر، رواية، نقد”.
ويشتغل الآن على إحفورات لغوية تعنى بالأنثروبولوجيا والمقاربات بين اللغة العربية وغيرها، من خلال البحث عن جذور لهجة الرقة العامية، وما حفظته من الفصيح المنسي، سواء أكان عربياً أم سامياً “الآرامية والعبرية”.
أسس مع مجموعة من الشباب في بداية الستينات من القرن الماضي جماعة ثورة الحرف، وكان قد سبقها في العراق جماعة رفاق الوقت الضائع، وجاء بعدها في جمهورية مصر “غاليري 68″، ويبدو أن المرحلة في تلك الأيام كانت تتجه إلى الجماعات، وليس الأفراد، ومازال معظم المؤسسين معه في ثورة الحرف يتواجدون في الساحة الإبداعية ولهم حضورهم القوي في المشهد الثقافي السوري والعربي، ومنهم: الدكتور إبراهيم الجرادي، الدكتور عبد الله أبو هيف، خليل جاسم الحميدي، وفيق خنسة، ونبيل سليمان؛ وغيرهم.
وكانت ثورة الحرف تنزع إلى محاولة تأسيس لأدب جديد في الشكل والمضمون، وهذا ما وسم معظم أعمال الجماعة منذ بداياتها الأولى، وقد جرت معركة أدبية بين أعضاء الجماعة ومناصريهم، وبين الدكتور عبد السلام العجيلي (رحمه الله) في بداية الستينات، وهذا إن دل يدل على الحالة الصحية في الاختلاف المفيد والهادف إلى التعبير عن نزوع كل جهة دون البحث عن إلغاء الآخر.
وكان من أهداف الجماعة: الكلام بين الأعضاء يكون باللغة العربية الفصحى، لأن معظمهم من متابعي وخريجي الآداب، فالسلوك والطموح تداخلا، واتخذ التجريب عند الجماعة، خاصة الخليل والجرادي، منحى تجريدياً، حيث البحث عن تفجير اللغة أولاً، والاستفادة من كل طاقاتها، ومحاولة إيجاد نص مرجعيته عربية عند الأوائل، وخاصة الصوفية في نصوصهم العرفانية، وهذه النصوص التي عبرّت باكراً عن اتجاه جديد في النص العربي، وهو ما يمكن أن نسميه بنص عابر للأشكال، الحامل فيه اللغة أحياناً كثيراً، وليست الحكاية، وإنما قد تأتي الحكاية كزينة للعمل على شكل نمنمات.
أما الآن فيعمل الخليل على تجسيد المشروع على المستوى الروائي أو المستوى القصصي والشعري، حيث تتداخل فيها التخوم، ومشروعه الصوفي أنجز هدفه، وينتقل الآن في هذه المرحلة للعناية بالرواية، لأنها وحدها القادرة على التعبير عمّا يجري ويحدث.
في “سدوم” كتب الرواية بمعناها، وبشروطها الأدبية، وفي “حارس الماعز” أيضاً، وعمله الجديد “صيارفة الرنين”، عني بالنوفيل لأنها تحقق التداخل بين القصة الطويلة والرواية القصيرة.
زار الخليل أمريكا أولاً ثم الصين، ويقول: في أمريكا الكاتب مستقل عن السلطة، والأدب هناك ثلاثة أنواع: أدب البيض وهو السائد، وأدب الزنوج وله خصوصيته الخاصة، وأدب الملونين، وقد يشتهر كاتب فيقرأه الكل، في أمريكا اطلعت على عالم جديد، وحياة جديدة وأفكار قد تكون معها أو ضدها، ويذكر حادثة أثناء زيارته لمعهد تعليم الأدب (البوكركي)، فيقول: سألت الأدباء الأمريكان بأنكم تقولون أنّ الأدب موهبة وجهد، ويستطيع المعهد أن يقدم الجهد، فماذا عن الموهبة؟ فأصر أحد المدرسين الكبار على الإجابة، فقال: ليس شرطاً أن نصنع من كل طالب شكسبير لكننا على الأقل نستطيع أن ننظف الحياة الأدبية من الخنازير.!
أما الصين فيقول عنها: هي الأقرب إلينا في كل شيء، الحياة ونمط التفكير والثقافة والعلاقات التاريخية، والصين أو الصيني كالحرير رقيق وناعم، ولكنه لا ينقطع، فهو قوي ومتين.
كتب الخليل الكثير ونشر معظم نتاجه الأدبي في الصحف والمجلات المحلية والعربية، وترجم بعض نتاجه إلى لغات أخرى،
يُعتبر الروائي السوري إبراهيم الخليل من أهم الروائيين السوريين، إلا أنه من الروائيين المنسيين الذين لا يجيدون التزلف والتملق لبلوغ غاياتهم كما فعل من هم أقلّ شأناً منه على المستوى الأدبي والثقافي، ووصلوا إلى الشهرة التي يبتغونها، وكانت هي غايتهم بحد ذاتها، بينما بقي إبراهيم الخليل ملتزماً بمبادئه وإيمانه بدور الأديب والكاتب المنحاز إلى أدبه والمسؤول عن كلمته والمؤمن بها.
لم يُعرف عن الروائي إبراهيم الخليل حب الشهرة والظهور والأضواء، إنما عُرف عنه أنه يظل معتكفاً في صومعته مع كتبه، نادراً ما يُغادر بيته، وقد رفض مغادرة مدينة الرقة رغم كل المآسي التي عاشتها المدينة وأهلها.
أراد الخليل أن يكون شاهداً حياً على كل ما جرى ويجري في المدينة التي ولد وعاش فيها كل سني حياته، وكتب عنها وعن أهلها وبيئتها الاجتماعية، وكل ما طرأ عليها من تغيرات عبر التاريخ، فكانت الرقة حاضرة بكل قضاياها وتفاصيلها في رواياته وقصصه.
أنجز الروائي الرقّي روايات عدة، هي: “حارة البدو 1980″، و”الضباع 1985″، و”الهدس 1987″، و”حارس الماعز 2002″، و”سودوم.. سباق الإوز البرّي 2003″، و”صيارفة الرنين 2008”. وله في القصة: “البحث عن سعدون الطّيب 1969″، و”البازيار الجميل 1998″، و”مال الحضرة 1998″، و”غدير الحجر 1998″، و”أرغفة النعاس 2001″، و”الورل 2002”.
وفي الشعر: موكب من رذاذ المودة والشبهات (مشترك) 1986
وفي النقد: الميراث الدموي 1998.
وامتازت رواياته بجزالة اللغة ورصانة الأسلوب، وحظيت باهتمام النقّاد، فيقول الروائي والناقد نذير جعفر: “يُعدّ إبراهيم الخليل أحد أهم الأصوات القصصيّة والروائية في الرّقة وفي المشهد الإبداعي السوري، لما اشتملت عليه تجربته من إنجاز على مستويي النوع والكم، والشكل والمحتوى”.
وقال عنه الدكتور الراحل عبد السلام العجيلي، الذي قدم روايته، «حارة البدو»: “إن تصلبه صراحته ولذع لسانه على خشبته التي يحملها على كتفه منذ الآن.”
لم يهتم إبراهيم الخليل بتسليع أدبه والترويج له، بل كان يكتفي بإنجاز نتاجه السردي بغية إضافته إلى المكتبة السردية السورية، وبقي بعيداً عن لوثة وسائل الاتصالات والتكنولوجيا، وزاهداً في كل ما هو دون الورق والقلم مما أتاح له تمكين القارئ من الاستمتاع بقراءة نتاج روائي مختلف عن السائد الذي تم تعويمه وفق اعتبارات لم تأخذ بسوية النتاج الأدبي بقدر ما اعتمدت على ثقافة “التطبيل والتزمير” التي تهم المؤسسات الثقافية الرسمية بالدرجة الأولى أكثر من جودة المنتج مما ساهم في زيادة عدد المقبلين على الكتابة الروائية رغم افتقارهم إلى الأدوات الأساسية اللازمة لخوض غمار الكتابة، مستغلين ضعف النقد وانشغال النقاد بالتزلف للكاتبات والتقرب منهن عبر كيل المديح لهن.
تميز ابراهيم الخليل بعنايته الفائقة بالعناوين؛ حيث تكشف استراتيجية العنونة عند إبراهيم الخليل عن شغف عميق بالعنوان وإدراك لأهميّته بوصفه عتبة الإغواء الأولى في شدّ انتباه القارئ، وتحفيزه على الولوج في النّص واستنطاقه. وتقوم هذه الاستراتيجية على استثمار مختلف أنواع ومستويات ووظائف العنوان الرئيس، والفرعي، وما يحيط بهما من إشارات وتنبيهات وإهداءات ومقدّمات لتوجيه مسار التلقّي من جهة، والانفتاح على الإيحاءات والدلالات المتعدّدة من جهة ثانية.
رحل بعض رفاق الخليل عن الدنيا، وارتحل بعضهم الآخر عن الرقة، وبقي وحيداً في صومعته كما كان دائماً مع كتبه وأوراقه، وحين سيطر شذاذ الآفاق على المدينة ونُكبت، نُكب معها إبراهيم الخليل، والتزم بيته أكثر، وفقد مكتبته الضخمة، وقد كان أبناء الرقة يُفاخرون بمكتباتهم وعدد قراءاتهم، ولطالما تحولت جلساتهم إلى حوارات ثقافية وأدبية لا تخلو من المشاحانت والمناكفات والمبارزات اللغوية، وكان إبراهيم الخليل ندّاً قوياً ومرجعاً مهماً.
رغم كل التضييق، بقي إبراهيم الخليل في المدينة، ولم يغادرها، وقد بدأ العدوان الأمريكي عليها وهو فيها، يراقب الأحداث عن كثب، إلا أنه اضطر لمغادرتها مع اشتداد القصف الهمجي، وقد قُصف بيته، وكُتبت له النجاة. ومازال مثابرا في عطائه وكأنه ينهل من نبع لا ينضب.