كثيراً ما كنا نعود إلى اللعبة الذهنية التي صنعها الكاتب والمفكر البولندي إسحق دويتشر، ليصوّر بها العلاقة المعقدة ما بين الفلسطينيين والإسرائيليين على النحو الآتي؛ بيت من طابقين، احترق الطابق الأعلى. فقفز السكان من شرفاته ووجدوا أنفسهم وقد وقعوا فوق ظهور سكان الطابق الأرضي، ليبقي الهاربون من الحريق مثبتين أنظارهم إلى الأعلى حيث النار، غير مكترثين بمن هم تحت، والمبتلون بمن هبطوا عليهم مثبتون أنظارهم على الأرض التي تحت أقدامهم تحت ثقل من فوقهم. وفي مشهد مشابه، أطال السوريون النظر تحت أقدامهم، مثقلين بمن جثم على صدورهم وأكتافهم طوال العقود الماضية، من دون أن يفكّروا في أمر آخر.
ولا شكّ أن التمرّد على الاستبداد يوجب معه التركيز على طبيعة ذلك السرطان الذي يعشش في الحياة العامة، وينتشر في أركانها، منتقلاً من لعبة السلطة في الأعلى إلى المجتمع والقواعد الشعبية العريضة في الأسفل، والحفاظ على هدف محدّد يجسّده شعار الربيع العربي “إسقاط النظام” يبدو بحدّ ذاته مطمحاً نبيلاً احتاجت الشعوب العربية، ومن بينها الشعب السوري، إليه لاسترداد كرامتها معنوياً أولاً قبل أن يكون ذلك متحققاً بالفعل على أرض الواقع.
غير أن ذلك لن يجعل من الأحداث تتقدم إلى الأمام، ولن يكون بوسعه منفرداً، وسط كل تلك التعقيدات التي أحاطت وتحيط بنظام الأسد، الذي بقي مركّزاً نظره إلى هرم السلطة، من دون أن ينشغل بالبحث عن مكانه في التاريخ، ولا عن الآثار المدمّرة التي خلفتها سياساته على سوريا ككيان، فضلاً عن الشعب السوري كلّه.
ديويتشر ذاته صاحب ثلاثية “النبي الأعزل” و”النبي المسلّح” في استعراضه لسيرة تروتكسي التي توّجها بـ “النبي المنبوذ”، يبدو اليوم وكأنه كان يروي سيرة السوريين في تضاريسها الوعرة التي قادتها إلى التحولات نفسها. من أعزل إلى مسلح إلى منبوذ.
يصف المترجم اللبناني كميل داغر في مقدمة الطبعة الجديدة من “النبي المسلّح” علاقة تروتسكي بالثورة بأنها كانت العلاقة الأكثر بروزاً وعمقاً على امتداد حياته، ويضيف “قد لخصتْ هذا الواقع زوجته الأولى، بعد عشرات السنين من انفصاله عنها. قالت ألكسندرا سوكولوفسكايا، وكانت مناضلة ثورية هي الأخرى، متحدثة عن الشاب الذي لعبت دوراً مهماً في كسبه للماركسية: لم يقيض لي أن ألتقي يوماً، طوال عملي النضالي، شخصاً يكنُّ مثله كل ذلك الإخلاص للثورة والتفاني في سبيلها. ثم إن إخلاص تروتسكي تلازم مع تفاؤل ثوري لم يفارقه حتى في أسوأ لحظات الشدة التي عاشتها الثورة وعاشها هو. وشخصية الرائي التي تميّز بها، جعلته يشرف من عل على المستقبل وآفاقه، وقدرته على تبيّن حركة التاريخ بوضوح، لا بما هي تعبير عما مضى وحسب، بل كذلك بما هي حدس بالآتي، لا بل رؤية لهذا الآتي، ساعدتاه على الارتفاع بذلك التفاؤل إلى درجاته القصوى”.
الرائي القادر على قراءة الغد، لم تكن شخصية مثل هذه، متوافرة بالقدر الكافي في الحالة السورية، وكل ما كان لدينا ماضويون يريدون إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، أو عالقون في الرمال المتحركة للواقع واللحظة. أما الغد فمتروك لآخرين يصوغونه وفق ما تتيحه لهم قواهم.
تمكن تروتسكي من “توقّع مسار الأحداث” بصورة صحيحة، وكان يضع “خطط عمل” تصف ما سوف يحدث فعلاً، وبشكل دقيق، بعد سنوات طويلة.
تمكن تروتسكي من “توقع مسار الأحداث” بصورة صحيحة، وكان يضع “خطط عمل” تصف ما سوف يحدث فعلاً، وبشكل دقيق، بعد سنوات طويلة. هذا بالضبط ما لم يحسن مفكرو الثورة السورية القيام به، وكان دأبهم طوال الوقت محصوراً في رصد اللحظة التي تمرّ بهم. وحسناً فعل القليلون منهم حين فكروا في “اليوم التالي”، إلا أن هذا الجهد البارز لم يكن متركزاً على الفكر، بقدر ما كان يقرأ في السياسة والاقتصاد. والفكر أوسع وتغييبه جرمٌ أكبر وأخطر من أن يُغتفر.
التبس الأمر على السوريين، وتوهّموا أن غياب الدولة -النظام، هيمنة الدولة- رعاية الدولة، بانحسار سلطة الأسد عن كثير من المناطق على امتداد الخريطة الوطنية، إنما هو حالة غياب للإيديولوجيا. وثقب أسود انهارت في ظلامه الأفكار التي سادت قبل ثورة العام 2011. لكن الإيديولوجيا حين تغيب فهي تخلي المكان مؤقتاً ريثما تحلّ محلها إيديولوجيا جديدة، وهو ما حدث عندما اندفعت الأفكار العابرة للوطنية، سواء كانت دينية أو قومية لتعبّر عن ذاتها مرّة بالحضور السياسي، ومرّة عبر الميليشيا، وأيضا حين اعتبر البعض أن الفكرة العربية كلّها، كهوية ثقافية فوق العرق، على سبيل المثال، ستمضي مع نظام الأسد وهو ينحسر. ولا ضرورة لتكرار الإيضاح حول الطابع الانتهازي الذي شاب علاقة النظام مع العروبة ومع البعث ذاته. وبدأ الأمر يتحوّل إلى ما هو أبعد من تغييب الأفكار إلى تغييب الكيان كلّه، تمهيداً لتفكيك سوريا وتحويلها إلى (غيتوات) قومية وطائفية مستجدّة.
الأمر ذاته ينطبق على فكرة الدولة ذاتها، وقبلها المواطنة، والانتماء والهوية. دون أن يشغل أحد تفكيره في ما يدور حقاً داخل العقل الجمعي السوري الذي تعصف به الأحداث من جانب، ومن جانب آخر، دون الوقوف لحظة أمام حاجة غير السوريين من العرب، شعوباً ومثقفين لا أنظمة، إلى سوريا، وإلى كل تلك المفاهيم التي انبثقت أساساً من دمشق أول الأمر في لحظة تشكل الوعي العربي بذاته مطالع القرن العشرين. ولم يسأل كثيرون من مثقفي سوريا أنفسهم: ماذا سيفعل العرب غداً بسوريا غير عربية؟ وما مصلحة الإقليم كلّه في المستقبل بولادة عباءة مرقّعة مخلّطة الألوان كان اسمها سوريا؟ وما دور الثقافة السورية في مصير كهذا؟ معه أو ضدّه أو بمحاذاته؟ وكيف سيكون شكل المستقبل آنذاك، ثقافيا أعني؟
يضاف إلى ذلك كلّه، السؤال عن المجتمع نفسه، والذي بات في أمسّ الحاجة إلى بوصلة واضحة، بعيداً عن التهويمات والشعارات والهتافات، وأكثر ما يثير مخاوفه الحديث عن عقد اجتماعي جديد، وكأنه كان على باطل. في الوقت الذي استمرّت فيه سوريا آلاف السنين مسرحاً للحضارات ومجتمعاً استطاع استيعاب كل العابرين خلاله من دون أن يتفكّك. فهل تدفع تلك المخاوف بالسوريين إلى القول إن الركون إلى عقد اجتماعي منجز مسبقاً هو الأسلم عوضاً عن تجريب جديد غير مضمون؟ أفكارٌ جديدة وخلاقة؟ وهل يظهر بين السوريين ذات يوم، كما ظهر في عالم الشتات الفلسطيني، بدلاً من مدجّجٍ منبوذ، مقتول أو أعزل، ذلك “الرائي المسلّح” المنتظر؟.
(سوريا)