ابتهال الخطيب: لا تطبش

0

القسوة قبيحة، حتى في الدفاع عن الحق (مع التحفظ على كلمة حق) هي قبيحة حتى وهي ضرب من حرية التعبير، هي قبيحة حتى وهي مطلوبة ومفيدة. القسوة والعنف بشعان حتى عندما يكونان وسيلة تبررهما غاية يعتقدها صاحبها نبيلة أو مبدئية.
وللقسوة مصدران، أولهما الشعور بملكية الحق المطلق التي تبرر للإنسان أن يقسو ويتوحش في سبيل إحقاق «حقه» وثانيهما هو الشعور باليأس وبانسداد الطرق اللذين يدفعان صاحبهما لا إرادياً لأن «يطبش» عنفاً ولو في الهواء محاولة للخروج من المأزق. أتفهم دافع القسوة في الحالتين ولا أتقبله تبريراً، فالإنسان المتمدن يفترض أنه وصل لمرحلة تجاوز بها اعتقاده بحق منفرد مطلق يؤمن به كل البشر كما وتجاوز أسلوب «التطبيش» الذي لا يغني ولا يسمن من جوع.
إلا أن واقع الحال يقول بأن الإنسان «المتمدن» لم يتجاوز شيئاً مطلقاً، ما زال هذا الإنسان يدور في حلقاته البدائية غير قادر على أخذ خطوة حقيقية «نفسية» للأمام. تقدم الإنسان علمياً كثيراً، حقق إنجازات هائلة، وسيطر، نسبياً، على الأرض ووصل إلى القمر، إلا أنه لا يزال يؤمن بالخرافات، لا يزال يخلط عالمه المادي بعوالم خيالية، لا يزال يرمي بهزائمه على أسباب ما فوق طبيعية، لا يزال يمارس عنصريات قديمة أقل ما توصف به أنها خالصة الغباء وخالصة النقاء من كل حس أو مفهوم علمي، فيعتقد بأفضلية الأبيض على الأسود، والذكر على الأنثى، بل ولا يزال يعتقد بمفاهيم مثل نقاوة الدم وأصالة العرق، التي لربما هي المفاهيم الأكثر جهالة وبدائية على مدى تاريخ البشرية.
وهكذا، ومنذ أن ظهرت الأديان الذكورية على الأرض عموماً واستتب الأمر للأديان الحديثة خصوصاً، استقرت القسوة كأسلوب تعامل بعد أن أخذت فكرة الحق المطلق لب البشرية. لم يعد هناك قوة عظمى يتطلع لها البشر جمعاً وسواء في السماء، لم يعد هناك صانع له طرق عدة قد يسلكها البشر بوسائل وعبر ممرات مختلفة، أصبح هناك إله خاص بكل مجموعة، وأصبحت كل مجموعة كافرة بكل الآلهة عدا إله مجموعتها، لا تختلف هذه المجموعات بذلك عن المجموعة اللادينية، الفرق أن المجموعة اللادينية لا تعتقد بكل الآلهة، فيما المجموعات الدينية تكفر بكل الآلهة إلا إلهها، الفرق فعلياً هو إله واحد. وهكذا، ولأن كل مجموعة باتت تعتقد بأنها صاحبة الحق الأوحد والإله الأوحد، استتبت القسوة وساد العنف وتجاهل الجميع مفاهيم الرحمة والعدالة والمحبة التي يفترض أن يمثلها صانع هذا الكون بفيزيائه العجيبة وبيولوجيته الخلابة التي نرى شيئاً طفيفاً منها في أنفسنا.
ولربما أقرب مثال لي شخصياً على استتباب القسوة بسبب من تمكن حالة اليأس من النفوس هو المثال المتجلي حالياً في الحالة الكويتية، حين تغير الخطاب السياسي وارتفع الصراخ النيابي وسادت حالة من العنف والفوضى بين الحكومة والمجلس نظراً لوصول الجمع المتعارك إلى حائط سد. حقيقة الأمر أن مؤشرات الفساد ارتفعت بشكل غير مسبوق، وأن مؤشرات التعاون النيابي الحكومي انخفضت بشكل غير مسبوق، وأن مؤشرات العناد والتجاهل الحكومي للبرلمان ولفئة كبيرة من الشعب تجلت بوضوح وفظاظة بشكل غير مسبوق كذلك. كل ذلك قاد إلى حالة من العنف غير المسبوقة على المستوى النيابي، فامتدت الأيادي وطالت الألسن وأصبح التراشق عبر وسائل التواصل حالة يومية يعيشها المجتمع الكويتي. وحين يطال المعارضة النقد بسبب من أسلوبها المتدهور (حيث حافظت الحكومة على خطابها برفاهية أدب الطرف الأقوى) يأتي رد المعارضة اليائس والحقيقي مباشرة بأن الوضع أشبه بزاوية ضيقة خانقة انحصرت هي فيها داخلياً وبمنافٍ باردة تشتت أعضاؤها فيها خارجياً، فأي أدب وهدوء خطاب ممكن طلبه منهم بعدها؟
ولربما هناك سبب ثالث لاستتباب القسوة ألا وهو الخوف، فالخوف يدفع بالإنسان لتبني كل سبل حماية النفس بما فيها القسوة والعنف إلى أقصى حدودهما. يحضرني مثال اجتماعي يومي نعيشه مع معارضي لقاح كورونا من حيث قسوة مقاومتهم لتلقي هذا اللقاح الحيوي، حيث تبنوا نظريات المؤامرة في أقصى وأفظع صورها والتي، أي هذه النظريات، تمثل نوعاً من العنف ضد النفس. كما وأن مقاومتهم أصبحت تأخذ صورة من صور التحدي المغلف بالغضب الشديد، اللذين يخفيان في طياتهما رعباً شديداً من المجهول وآلاماً شديدة جراء ما يبدو نزاعاً داخلياً نفسياً بين الإيمان بالعلم الحديث الذي يتطلب الثقة المبنية على الفهم، وبين الاقتناع بالخرافات ونظريات المؤامرة التي تتطلب الاستسلام للأسباب الميسرة الساذجة «اللذيذة».
نقسو جميعاً على أنفسنا وعلى بعضنا البعض، نقسو حين نؤمن ونقسو حين نَظلِم ونقسو حين نُظلَم ونقسو حين نخاف. نحتاج لأن نجرب علاجاً جديداً لآلامنا ومخاوفنا التي لا تؤثر فيها القسوة إلا اطراداً، بصبها لزيت الغضب على نيرانها. الهدوء والحكمة وتحكيم العقل والمنطق والتواضع أمام جهلنا البشري، كلها تبدو رفاهيات وقت الأزمات الحقيقية، رفاهيات غير متوفرة لنا جميعاً باختلاف نفسياتنا وثقافاتنا واعتقاداتنا، رفاهيات هي الأهم في أن نسعى لتحقيقها وتفعيلها، ليكون لجنسنا البشري فرصة صغيرة في البقاء.

*القدس العربي