لي أيام تدور في رأسي تساؤلات يلح عليّ قلمي أن أضعها في مقال، فأتهرب منها هنا، وأتفاداها هناك، وكأن عقلي يجري خلفي يريد أن «يفضح» جريمة فكرة لا يد لي فيها، لم أستدعها إرادياً ولم أرحب بهجومها القاسي. لكن، أليس التفادي لفكرة بحد ذاته مشكلة؟ ألا يبين عمق الخلل الاجتماعي والثقافي الديني والقانوني الذي ينظمها جميعاً؟ لماذا يخشى «رجال الدين» الأفكار والتساؤلات؟ لماذا يحرمون التأمل والتحليل من خلال وضع ألف خط أحمر وألف حرام حتى على ومضة فكرة تباغتك من حيث لا تدري وتمضي بك حيث لا تريد؟ لماذا لا يأخذون بيد السائل رفقاً ومحبة مهما تطرف تساؤله وهم يدعون امتلاك الحقيقة المطلقة والحق الأعظم والأخير؟
كنت أقرأ قبل أيام مقالاً لسيد القمني، يتساءل فيه عن حكمة التحليل والتحريم إذا ما لم يصاحبها «تأثيم المقصرين والمطالبة بمحاكمتهم»، كان يتكلم عن حادثة مهاجمة الجراد لمصر منذ سنوات مضت، وانطلاق بعض الفتاوى التي فَرَضَت ثم خيَّرت الناس في أكل هذا الجراد كأحد حلول المعضلة. هذه الفتوى لم يصاحبها تأثيم لسوء الإدارة ولأصحاب مراكز القوى، الذين بالتأكيد لن ينحون لأكل الجراد وإنما سيتركونه للفقراء يأكلونه في الغالب مسمماً بعد أن رشته دول أخرى بمبيدات حشرية قبل وصوله إلى مصر، إنما أتت لتساند أصحاب السلطة وتحل لهم مشكلتهم على حساب الفقراء المعوزين. هذا التحالف القديم المتجدد بين الفتوى الدينية والسلطة نهش الضعفاء واستعبدهم بكل ما للكلمة من معنى، ليلتف على بقية المجتمع، يكتم أنفاسه وتساؤلاته، مستعبداً إياه إن لم يكن بالحاجة فبالخوف والترهيب.
تنطلق حولنا فتوى تحرم الانتحار دائماً، لكننا لم نسمع قط رأياً دينياً أو فتوى تعالج سبب الانتحار، تُؤثّم النظام المتسبب به، تتعامل مع الجانب الصعب الحقيقي الواقعي الذي يشكله. في الكويت لنا فترة ندور في رحى فتاوى تحرم ممارسة اليوغا، وهي فتاوى قديمة سبق أن صدرت من مصر وغيرها من الدول كذلك في الواقع، مع الأخذ بعين الاعتبار غرابة ربط الدولة بالفتوى، وثانية تحرم «التشبه بالجنس الآخر»، وثالثة تحرم مشاركة المرأة في الجيش، ولم نسمع بعد رأياً تحليلياً مصاحباً لهذه الفتاوى. إذا كان رجل الدين قادراً على أن يطلق تحليلاً أو تحريماً قطعيين، أليس من المفترض أن يكون قادراً كذلك على تبريرهما، على مساندتهما بالآراء العلمية الاجتماعية الاقتصادية التي تؤيدهما؟
بكل تأكيد، لا يستطيع رجل الدين تقديم هذه المساندة، فهو ليس دكتور فوستيس، الذي باع روحه للشيطان من أجل المعرفة الشاملة، هو إنسان محدود العلم والمعرفة مثل بقية البشر كلهم. المشكلة أن رجل الدين يتصرف وكأنه قطعي الرأي، غيبي العلم شامله، لا شيء يخفى عليه، ولا معلومة تفوته، ولا علم يعصي عليه. هو يستطيع أن يقدم رأياً في كل موضوع ومنحى من مناحي الحياة، ولم لا، إذا كان كل المطلوب ينحصر في كلمتين: حرام، حلال؟
تعتبر المواضيع الجندرية من أصعب وأعقد القضايا البشرية النفسية والبيولوجية، التي ما زال العلم يبحثها حثيثاً وعميقاً. اليوم تذهب بعض الأبحاث للتشكيك حتى في التقسيم الأنثوي الذكوري للجسد البشري، موعزة أن الأجساد البشرية على درجة كبيرة من التنوع والاختلاف حد إمكانية أن يكون كل جسد نوعاً بذاته. بالتأكيد، هذا رأي يبدو متطرفاً الآن في «رحابته»، غير أنه يدق جرس حوار علمي ونفسي واجتماعي غاية في الأهمية، هو جرس يفتح بابه للغرب مرحباً بالتطورات العلمية الجديدة التي ستساعد في الترحيب بالمزيد من التنوع البشري، وفي رفع درجة الإنسانية والمنطقية في التعامل مع هذا التنوع، وهو الجرس ذاته الذي سنتجاهله نحن، بل ونعاقب كل من يحاول أن ينظر من عين بابه الزجاجية على ما يقف خلفه، لتموت خلف هذا الباب في صقيع الجهل والتخلف كل فرصنا في التقدم والتطور والفهم الحقيقي لأنفسنا وللحياة.
يتساءل القمني في مقال آخر، لماذا ينحو الكليرجي الإسلامي للتحريم والمعاقبة دوماً؟ إلى متى سيعتقدون هذا الأسلوب الأنجع في إرضاخ الناس؟ إلى متى سيبقى الإرضاخ غايتهم؟ هل يمكن أن نسأل مثلاً، كما تساءل القمني ولكن دون أن نلقى مصيره، لماذا تفسر قصة النبي نوح على أنها قصة إبادة جماعية لتخلص الأرض من الكفار، في حين أن واقع الحال أنه وبعد قرون من الزمان، لم تصبح الأرض كلها مسلمة ولم يتحول كل البشر إلى «الدين المطلوب»؟ هل خيار الإبادة الجماعية، كما يقرأه المتدينون، صالح فعلاً؟ وهل يعصى على الخالق أن يعاقب المذنب ويترك البريء عوضاً عن أخذ الكل بجريرة البعض؟ هذه عينة من أسئلة فلسفية هي بأشد الحاجة للبحث، لإعادة القراءة، ولإعادة الفهم للغاية القصصية في القرآن الكريم. إلا أن المعضلة تبدأ بعيداً، ليس عند الأسئلة بحد ذاتها، ولكن عند إمكانية وتبعات طرحها.
أسأل خائفة، لست أخشى الفتاوى التكفيرية؛ فتلك اعتدناها حد افتقادها إذا غابت، ولست أخشى حكم الناس؛ فذاك تعديته بعمري وخبرتي في الحياة، إنما أخشى اليوم، ويا لسخرية القدر! قوانين الدولة المدنية، تلك التي قد تعاقب وتحاسب على سؤال أو اعتراض. أستعين ببعض خبرتي لأطرح فكرتي بدرجة من الحرص المطلوب، ولكن ماذا عن الشابات والشباب الذين تحوم أسئلتهم ثعابين لاسعة في صدورهم دون منفذ لها؟ من ينفس عن صدورهم ويوفر لهم فرجة صدق في الحياة حتى لا يكبروا متطرفين، إما تديناً متطرفاً حتى يتفادوا التعامل مع الأسئلة اللاذعة، أو هجراً متطرفاً للدين إغراقاً في أسئلة لا أحد يريد أن يتعامل مــــعها؟
*القدس العربي