كنت أستمع لأحد خطابات «تيد» التي كانت عبارة عن فيديو مسجل لهيوجو ميرسير، بعنوان «كيف تغير من رأي الآخر؟» ويتعامل هذا الفيديو مع فن الحوار والتأثير في رأي الآخر، مشيراً إلى أن تقديم الحجج، بل والحقائق، قد لا يكون كافياً لإقناع الآخرين مهما كانت قوة الحجج والحقائق المقدمة، فأهم عناصر إنجاح عملية الإقناع هي فهم طبيعة الجمهور الذي تتم مخاطبته من حيث «ما يؤمنون به، ومن يثقون فيه، وما يقيمونه». الفيديو يبدأ بجملة لديزموند توتو تقول «لا ترفع صوتك، حَسّن من حجتك»، إلا أنه يذهب ليقول بأن عملية تحسين الحجة هذه تتطلب فهماً عميقاً للمستمعين، ومخاطبة لقيمهم وتوجهاتهم وإيمانياتهم. وعلى الرغم من اقتناعي التام بهذا التوجه الجدلي الإقناعي، إلا أنني أجد في تنفيذه صعوبة بالغة حين الحديث عن المفاهيم الحقوقية والحرياتية في عالمنا العربي الإسلامي.
بكل تأكيد، الأشخاص الأكثر قدرة على التغيير هم هؤلاء الذين يخاطبون الناس من داخل الدائرة الأيديولوجية لا من خارجها، هم من يستطيعون إقناع الآخرين انطلاقاً من قيمهم ومفاهيمهم، إلا أن المساحة الشاسعة اليوم بين كثير من المفاهيم الشرقية والغربية.. بين القيم المعجونة بالعادات والتقاليد والمعتقدات الدينية وتلك المصوغة حديثاً نسبياً للحقوق والحريات، تجعل من اتخاذ خطاب التغيير من الداخل مهمة صعبة. إن أحد أهم منطلقات الإقناع -كما تبدو لي- حين الحديث عن الحريات والحقوق، هو في إيجاد جذورها في المفاهيم الدينية والتقاليدية لعالمنا العربي الإسلامي، ثم التأكيد أن هذه الجذور ما وجدت إلا لتنمو وتكبر وتفرع أوراقاً خضراء نحتاج إلى أن نسقيها ونرعاها من خلال القراءات الجديدة للنصوص الدينية والرؤى الجديدة للعادات والتقاليد عميقة القدم. بمعنى أن إقناع عالمنا العربي الإسلامي بالحريات والحقوق يتطلب إيجاد جذور هذه الحريات والحقوق في المفاهيم الدينية والتقاليدية، والإشارة إلى ضرورة تطوير هذه الجذور، ثم ربط هذا التطوير بذاك الإنساني العام تأكيداً على أن البشرية في النهاية هي كينونة واحدة، مهما اختلفت، وأن طريقها الزمني هو دوماً للأمام. وعليه، فإن كل التطورات المفاهيمية للحقوق والحريات مصدرها جنسنا البشري الموحد مهما اختلفت تقديراتنا ودرجات قبولنا، مما يستوجب عدم نفورنا من هذه التطويرات بحجة خصوصية مجتمعاتنا أو بحجة أن المنبع الفكري ليس عربياً أو إسلامياً. في النهاية، إذا كان المنبع الفكري إنسانياً فسينطبق علينا جميعاً.
وعلى ما يبدو من حتمية تأثير هذا النوع من المقاربة على الخطاب العام، إلا أن الواقع شيء آخر. فمفكرونا وفلاسفتنا الذين حاولوا التغيير من الداخل، دع عنك هؤلاء الذين حاولوا التغيير من الخارج بحياد ودون محاولة صنع المقاربة هذه، قد دفعوا الثمن غالياً دون تحقيق النتائج المرجوة لا بالدرجة ولا بالسرعة المقبولين. نصر حامد أبو زيد، وفرج فودة، ونبيل فياض، وجورج طرابيشي، وفاطمة المرنيسي، وسعيد ناشيد، وغيرهم كثيرون، دفعوا الثمن غالياً لأنهم، بدرجات مختلفة، حاولوا أن يناقشوا الخطاب السائد، ويسائلوه، ويغيروا بعض جوانبه. إن المسافة الزمنية الشاسعة بين مفاهيم الحقوق والحريات الحالية وبين موقعنا الفكري تجعل أي محاولة تقريب وجهات النظر ليست صعبة فحسب، بل ومعجونة دوماً باتهام التآمر على الدين والتقاليد، حيث ينظر لأي محاولة إصلاح للخطاب الديني أو المجتمعي على أنها «تخريب» داخلي ومؤامرة غربية استحواذية، وهو منظور له أسبابه العميقة السياسية والدينية والفكرية، غير أنه منظور مشل تماماً لأي محاولة لأخذ أي خطوة إلى الأمام.
في المواضيع بالغة الحساسية والصعوبة، خصوصاً تلك الحقوقية منها، دوماً ما يتصاعد الغضب، مشفوعاً بالاتهامات والشتائم تجاه أي محاولة لمجادلة السائد قبل الوصول إلى النقطة الواضحة النهائية. العمل الإنساني العالمي اليوم يتطلب مثلاً تمسكاً تاماً بمفاهيم حماية حق الحياة، ومن ثم مناهضة عقوبة الإعدام، وحماية حق الاختيار، فحماية حق التوجه الجسدي الخاص، وحماية حق العبادة من عدمها، وحماية حق التفرد بالمظهر مهما بدت من غرابته، وحماية حق التعبير عن الرأي مهما بلغ من تطرفه وغيرها. وما محاولة مقاربة هذه المفاهيم مع السائد التقاليدي والديني عندنا سوى خوض في بحيرة طين لا فكاك منها. وعلى حين أنه يمكن إيجاد جذور لهذه المفاهيم الحرياتية اجتماعياً وفكرياً ودينياً، بل ويمكن إيجاد مقاربات لها حتى بين الآراء المعاكسة لتوجهها تطويراً للقراءات والمفاهيم ومراعاة للزمن المتغير تماماً بكل اكتشافاته الجديدة، إلا أن كل محاولة من هذه تجد مقاومة شديدة معبرة بوضوح عن الخوف النفسي العظيم من التغيير بكل ما يصحبه من المحاولات المتعبة والمؤذية والمرعبة لتحدي الأفكار القديمة، وهي معبرة أيضاً عن الارتياح الإنساني الفطري للسائد مهما كان بدائياً. محاولة التطوير والتغيير تعني تحدي للنفس ولكل ما عرفه الإنسان وجبل وعليه واطمأن إليه، وهذه مهمة مؤذية ومؤلمة ومكلفة، ولكن التخلي عنها سيكون أكثر إيذاء وكلفة، ويبقى السؤال أن أيّ السبل سيكون أكثر يسراً وأقل إيذاء وتخويفاً لإقناع الناس بالنظر إلى أبعد من السائد والتفكير أنهم لربما، فقط لربما، يمكن أن يكونواعلى صواب يحتمل شيئاً من الخطأ؟
المصدر: القدس العربي