أحدث مسلسل “الجابرية: الرحلة 422” ضجة مبالغاً بها على الساحة الكويتية بعد أن عُرضت الحلقات الثلاث الأولى منه على منصة “شاهد”، وعلى الرغم من أن المسلسل كان مُقدماً بجملة تفيد أنه عمل درامي “مستوحى من أحداث حقيقية” وأن قصص الركاب الحقيقيين لم يتم استعراضها حفاظاً على خصوصيتهم، وعليه فإن هناك تغييرات ولربما مبالغات درامية لخدمة العمل، إلا أن الشارع الكويتي انتفض بغضبة شديدة تدل في الواقع ليس على سوء أو إساءة العمل الدرامي وإنما على حساسية الحقبة المعنية في العمل، ومن ثم حساسية الشارع الكويتي المرتفعة تجاهها وتجاه كل ما يخص الداخل الكويتي في الواقع وبالعموم.
لقد كانت فترة الثمانينيات من القرن الماضي فترة مفعمة بالأحداث السياسية والأمنية على الساحة الكويتية، والتي أتت، في جزء منها، كنتاج للموجة التي اجتاحت العالم العربي على إثر قيام الثورة الإيرانية في نهاية السبعينيات من القرن ذاته، مما تسبب في شحن الخطاب الطائفي وإشعال جذوة خلاف كان راكداً وسلمياً فيما قبل ذلك الزمن. تتوجت أحداث الثمانينيات للكويتيين بتاج من الشوك مع حل مجلس الأمة حلاً غير دستوري في 1986 ثم اختطاف طائرة الجابرية في 1988 ثم الغزو العراقي في 1990. كان هذا العقد الثمانيني عقد شؤم وعلى أكثر من صعيد، حدث فيه ما يُمكن ذكره وما لا يُفضل إيقاظه في الذاكرة، تاركاً المجتمع الكويتي قلقاً، متوجساً، فاقداً الثقة في المحيط العربي الذي تخلت عدد من أنظمته عنه في أشد محنه.
وعليه، فمن المتوقع أن يُحدث أي عمل درامي حول أي من أحداث هذه الحقبة ضجة رنانة، مرة أخرى ليس فقط بسبب إشكاليات الحقبة بحد ذاتها ولكن بسبب الحساسية المرتفعة جداً في الشارع الكويتي تجاه كل ما يخصه بسياساته وقيادته. الواقع أننا نفتقر تماماً، على الساحة الكويتية، إلى أعمال تؤرخ وتوثق الكثير من حقبنا المهمة، تلك التي شكلت ليس فقط الشارع الكويتي، ولكن حتى المحيط الخليجي إلى حد كبير، على ما هم عليه اليوم. ليس لدينا فعلياً الكثير من المكتوب، وبالكاد لدينا من المرئي ما يؤرخ ويوثق ويحلل ويحاسب، وحين أتى أول عمل من نوعه ليتعامل مع القضية كان الانفجار المتوقع.
لا يخلو أي عمل درامي من أخطاء وثغرات، هو عمل إنساني في النهاية قابل دوماً للتعديل والتحسين والإضافة. لم أر في المسلسل في الواقع ضعفاً إنتاجياً، كان المسلسل جيد الصورة، قوي الإخراج، بأداء معقول جداً من الممثلين وبالأخص المعروفون منهم والمتمكنون من وظيفتهم الفنية. بالطبع هناك الكثير من الأحداث السياسية والوقائعية التي نختلف عليها كمشاهدين كويتيين، خصوصاً كشيعة وسنة، وهذا الخلاف لم ينبع من طرح المسلسل، هو خلاف قديم بزغ مع الأحداث بحد ذاتها، ولا يقدم المسلسل سوى إحدى وجهات النظر التي تستحق النقاش والنقد، اتفقنا معها أم لم نتفق، بضعفها الدرامي أو بقوتها، بجودة إنتاجها أو بركاكته. وكعادة الحكومات العربية التي تتخذ الكثير من قراراتها بناء على ضجة تويتر، اتخذت وزارة الإعلام موقفاً عدائياً من المسلسل مطالبة قناة MBC بإيقافه والتي قامت مباشرة بالتجاوب مع الطلب ليتم حذف المسلسل وحرمان المشاهدين من الحلقات الثلاث المتبقية منه.
كانت إحدى نقاط نقد المسلسل هي الإساءة للرموز القيادية الكويتية، وهي إساءة لم تكن فعلياً موجودة في المسلسل بخلاف بعض الأخطاء الشكلية والوقائعية. في الواقع، بدت القيادة الكويتية، في الحلقات الثلاث من المسلسل، قوية وحكيمة وقادرة على إدارة مشهد خطير جداً، هو الأول من نوعه في التاريخ، لحادث اختطاف طائرة استمر على مدى ستة عشر يوماً لينتهي بنجاة الأغلبية العظمى من الركاب دون تنازل من القيادة الكويتية، وهي القوة والحكمة التي تجلت في وقتها فعلياً على أرض الواقع والتي قام المسلسل بتوثيقها بقوة وجرأة. كما وأتت نقطة النقد الثانية لتشير إلى ما ارتكبه المسلسل من “إساءة لمكون كويتي” والمقصود فيه هنا شيعة الكويت، من حيث الإشارة إلى شيعية الخاطفين. وعلى أن موضوع الاختطاف والمعنيين فيه لا يزال غير واضح تماماً وغير محسوم عند أطياف الشعب الكويتي كافة، إلا أن القصة الأقوى كانت لتورط عماد مغنية ومجموعة من أنصاره في هذه الجريمة، وهي القصة التي تبناها المسلسل.
في الواقع لم يهاجم المسلسل الشيعة، بل إنه وفي أكثر من مشهد قوي وجريء إبان حلقاته الثلاث كان يشير بشكل ناقد إلى الخطاب الطائفي الرائج وقتها ضد الشيعة ويشيد بمواقف كل الأشخاص الشيعة على الطائرة، الذين أصروا على البقاء على متنها تكاتفاً مع أبناء بلدهم السنة رغم محاولة إنزالهم من الطائرة “لشق الصف الكويتي”، كما تشير شخصية عماد مغنية في المسلسل في حوار لربما هو ساذج ومباشر بعض الشيء، لكنه لا يخلو من كثير من الجرأة. بكل تأكيد، يهاجم المسلسل التشيع السياسي ويتبنى تماماً وجهة نظر اختطاف مغنية للطائرة، وبالتالي تورط الأحزاب التي ارتبط اسمه بها في هذه الأعمال الإرهابية. لربما يختلف بعض الشيعة مع هذه السردية، ولربما يعتقدون بذهاب الأحداث مذهباً مختلفاً تماماً، وأن إلصاق الجريمة بسياسي شيعي كمغنية إنما أتى تماشياً مع الغضبة السنية التي كانت حين ذاك تحمى وتغلي كرد فعل على الثورة الشيعية الإيرانية والتي تسببت، بسبب رد الفعل السني المستريب ورد الفعل الشيعي المتعاطف، بشق صف الشارع الخليجي. ولربما الموضوع أبعد وأعمق وأخطر بما فيه من تورط لجهات خارجية تحيك لهذا العالم العربي المسكين ما تحيك. هذه وجهات نظر أخرى مطروحة وبقوة على الساحة، إلا أننا لن نعرف الحقيقة ولن نتمكن من التحليل الواضح والصريح إلا حين نواجه التاريخ، نواجهه بكتاب تاريخ وبنص رواية وبعمل مرئي ومسموع. وللحديث بقية في المقال القادم.
*القدس العربي