تحتلّ السورية ابتسام تريسي (مواليد إدلب 1959) مكانة مميّزة بين الروائيات العربيات اللواتي عرفن مبكرا القيمة الجمالية والأسلوبية لجنس أدبي أصبح اليوم بمثابة ديوان جديد للعرب، فكتبت القصة والمقالة والدراسة النقدية، ولكنها أفردت لمشروعها الروائي السنين الطوال ووضعت فيه خلاصة أدبها المهموم بقضايا الإنسان السوري والعربي.
ومنذ باكورة أعمالها “جبل السمّاق: سوق الحدّادين” (2004) كان التاريخ والواقع السياسي والاجتماعي لسوريا هاجسها الأساس الذي قادها إلى بلورة مشروع أدبي يبدو في معظمه كحفر متأنٍّ، عبر آلاف الصفحات ومئات الشخوص، بتاريخ مجتمع مقهور ومُضلَّل تحتاج أحداثه الكبرى وسِيَر مكوناته إلى إعادة اكتشافها في مختبرات السرد وفضاءات المتخيّل.
ومع اندلاع الثورة السورية، في مارس/آذار 2011، انشغلت هذه الروائية -كملايين السوريين- بالحدث التاريخي، فأفردت له مجموعة من الأعمال كـ “مدن اليمام” (2014)، “لمار” (2015)، “لعنة الكادميوم” (2016)، التي أكّدت من خلالها على سردية الشعب الثائر في مواجهة نظام الاستبداد، ورصدت مسارات الأحداث بأعين شخوص مدفوعة بحرارتي الحبّ والحرّية، قبل أن تواجه معظمها ما واجهه السوريون من مآسي الاعتقال والقتل والتهجير.
ومؤخرا صدرت للأديبة السورية رواية “كاليغولا دمشق” عن دار ميسلون للدراسات والترجمة والنشر، والتي انتقلت عبرها من معالجة آثار الاستبداد على المجتمع السوري خلال 5 عقود إلى معالجة المستبدّ ومن يحيطون به، ومحاولة “الإحاطة بسلوكياتهم ودوافعهم النفسية”.
وبمناسبة صدور “كاليغولا دمشق” التي رفعت رصيد هذه الأديبة إلى 15 رواية، كان للجزيرة نت هذا الحوار مع تريسي.
صورة الطغاة لا تتغيّر عبر العصور
- من العتبة الأولى لروايتك الجديدة “كاليغولا دمشق” يلاحظ القارئ هذا التناص التاريخي مع طغمة الإمبراطورية الرومانية البائدة، ومع تقدّمه في القراءة يرصد تلك المحاكاة المسهبة من خلال خطابات سيكوسردية لجنون وهلوسات نخب النظم الدكتاتورية. فهل هي محاولة لتشريح عقلية المستبدّ ومن يحيطون به؟ وما الغرض الذي أدّاه هذا التناص التاريخي (والأدبي لاحقا مع عطيل وبوفاري)؟
أعتقد أنّ محاولة تشريح عقلية المستبد هي مهمة المفكّرين من أساتذة التاريخ، وعلماء النفس، والنقاد. وتقتصر مهمة الروائي على (إيجاد) صورة متكاملة تستطيع قدر الإمكان الإحاطة بسلوكيات الطاغية والدخول قدر الإمكان إلى دوافعه النفسية والشخصية، والتي قد تساعد المحلّلين والمفكّرين على رسم صورة متكاملة لهذه الشخصية، ومهما حاول الروائي أن يستفيد من تجارب طغاة سابقين فسيبقى لكل طاغية خصوصيته. وأما الغرض من التناص، فهو الارتكاز على شخصية تاريخية تشترك مع الطاغية الجديد بكثير من الصفات.
لقد كان الامبراطور الروماني “جايوس” لصا يسرق بصراحة، وقاتلا باردا يتلذّذ بالقتل. يضع القوانين، ويخترقها. وقد أطلق عليه الرومان لقب “كاليغولا” والذي يعني (الحذاء الروماني) على سبيل السخرية والاستهزاء، وهو بهذه الصفات يتطابق إلى حدٍ بعيد مع طاغية دمشق، لكن الفارق بينهما أن الأول يتصرّف بجنون وأما الثاني فيتصرّف ببلاهة وحمق.
الأوّل بقي الرجل الأوّل في إمبراطوريته، وأما الثاني فقد سلّم بلده للأغراب (إيران وروسيا) وبالتالي خضع لهم، وفقد القرار السيادي بالمطلق، وأصبح مجرّد صورة، رهينة، يتسلّى فقط بما لديه من معتقلين وما لديه من مؤيّدين أو خائفين.
بالنسبة لعطيل وإيما، كلّ منهما حمل اسم شخصية أدبية معروفة فـ “عطيل” شكسبير كان يمثّل الخير، بينما عطيل في الرواية لبس قناع الخير فقط وهو الوجه الظاهر للآخرين، وإيما كانت تسعى لفرض سلطتها على الآخرين ولم تكن مثل إيما بوفاري كما قدّمها “فلوبير” في روايته.
الشخصيتان تحملان صفات مخفيّة يكتشفها القارئ، ويعرف أن المقصود هو التضاد مع الشخصية الأدبية وليس التناص أو التوافق، فإيما في الرواية تختلف عن إيما فلوبير، المرأة الهوائية العاطفية المستهترة.
إيما هنا متسلّطة وعصابية وتسعى لإخضاع واستعباد الآخرين وسلبهم كل ما هو جميل في حياتهم. إيما بوفاري تناولت السم وانتحرت، أما في روايتي فكانت إيما مستعدّة لقتل كل من حولها، وموتها لم يكن بيدها.
- استلهمت في “كاليغولا دمشق” قصصا من أحداث واقعية أحيانا وشائعات متناقلة شفاهيا في أحيان أخرى عن حياة سكان وموظّفي قصر الشعب (تشرين) في دمشق، وهذه الأخيرة تعتبر مثار جدل بين السوريين. فهل ذلك يعني أن ما لا يمكن تأكيده حقيقة يمكن المغامرة به استعاريا؟ وما القيمة التي تضفيها هذه “المغامرة السردية”؟
كل عمل روائي مهما كانت صفته يتكئ على واقع ما، ويأخذ منه أحداثًا وشخصيات قد تبقى ضمن إطارها التاريخي زمنيا ومكانيا، وقد ينقلها الروائي إلى مكان وزمان مختلفين.
ولا تحمل الشخصية الروائية عادة بساطة الشخصية في الواقع وأحاديتها، لأن الروائي يريد لتلك الشخصيات أن تعيش أكثر من حياة، بمعنى أنه يقدّم لنا عدّة شخصيات في شخصية واحدة.
المغامرة هنا ليست في تقديم المعلومات، بل في العمل على الشخصية وتركيبتها النفسية والعقلية، هذا العمل الذي سيحدّد نجاح النصّ أو فشله.
كذلك الأحداث لا يمكن سردها كما وقعت تماما، وإلا سنكون مجرّد مؤرّخين على طريقة الجبرتي، ولذلك يتدخّل المخيال الأدبي (لإيجاد) واقع جديد يخدم سيرورة الخطّ الدرامي للرواية ويحقّق الغاية من الرسالة التواصلية عبر شيفرات خاصّة تمنح هذه “المغامرة السردية” بُعدها الأدبي.
وأما القيمة المتوخّاة من هذه المغامرة فيحدّدها المتلقي -حصرا- عبر تفاعله مع النصّ. بالنسبة لي سعيت لأقدّم تفسيرا لتصرفات الدكتاتور المختلّ عقليا وعاطفيا، ومدى نجاحي في ذلك متروك للزمن والتاريخ.
- وهذا بدوره يطرح سؤال الحدود بين الواقعي والمتخيّل في “كاليغولا دمشق”؟
تندمج الحكايات في النصّ حدّ ضياع الخيط الفاصل بين المتخيّل والواقعي، ولم يأت ذلك اعتباطًا، بل بقصدية تامّة، فالشخصية في الواقع وكما يعرفها الناس لن تقدّم جديدا للقارئ، لا على سبيل الحكاية ولا تناول الشخصية، وإن كان التناول سيكولوجيا. وجاء هذا الدمج لينقذ الحكاية من واقعيتها ويعطيها بعد جماليا “جمالية القبح” وأيضا لتستطيع أن تلبس لبوس الشخصية المهزوزة التي تتأرجح بين العقل والجنون.
اختيار كاليغولا -تحديدا- كان لاشتراك الشخصيتين في الاضطرابات النفسية التي تحكم تصرفاتهما. والدمج بينهما يمنح القارئ فرصة للبحث في التاريخ، ومعرفة هؤلاء المهووسين الذين حكموا البشرية في عهود مختلفة.
وسيرى القارئ أن وجوه الطغاة لا تتغيّر عبر العصور، بل تحمل الصفات نفسها مهما تطوّرت البشرية وتغيّر العصر.
التاريخ مسرودا
- يمكن للقارئ ملاحظة أن الأحداث والمشاهد الكبرى التي رصدها مشروعك الروائي وتأثّرت بها ودارت في أفلاكها شخوصك منذ باكورة أعمالك الروائية “جبل السمّاق (سوق الحدّادين)” وصولا إلى “كاليغولا دمشق” الصادرة حديثا، إنّما هي أبرز الأحداث (السياسية والاجتماعية) الكبرى التي امتدَّت منذ ولادة سوريا بجمهوريتها الأولى مع الاستعمار قبل نحو قرن إلى يومنا هذا. فهل هي مصادفة، أم أنها محاولة روائية لتطويق ومكاشفة تاريخ بلد بأكمله منذ نشأته سرديا؟
بالطبع لم تكن مصادفة. منذ بدأت مشروعي في أوّل رواية كتبتها (جبل السماق) كنت أخطّط لمتابعة العمل على كتابة التاريخ روائيا ليقيني أن التاريخ المكتوب الذي درسونا إياه في المدارس لا يحمل نصف الحقيقة، بل تجاوز ذلك أحيانا بتقديم صورة مشوّهة للثورة.
حدث ذلك حين رأيت في كتاب “علي رضا” عن الثورة السورية صورة لحافظ الأسد يكرّم فيها أحد المجاهدين في المحافظة. ذلك المجاهد كان معروفا لدى “كبارية” بلدتنا بأنه كان عميلا للفرنسيين، ولم يقاتل إلى جانب إبراهيم هنانو.
وبالمقابل، قزّم الكتاب ثورة هنانو مقابل الاستفاضة بالتفاصيل عن ثورة صالح العلي. وتعلمون حتما أن نظام الأسد صنع متحفا خاصا لمخلفات العلي، بينما لم يهتم بباقي المجاهدين الذين أخرجوا الفرنسيين من البلاد.
أيضا من المعروف أن العلي كان قاطع طريق، وحين قاتل قافلة الفرنسيين التي تحمل الميرة من حلب إلى اللاذقية قاتلها ليسرق الميرة وليس لكونه ثائرا، مع هذا اعتُبر مجاهدا، ودُرِّس تاريخه المشرّف للسوريين، وكُرّس محرّرا للبلاد!
رواية “جبل السماق” كانت تصحيحا لمعلومات مغلوطة عن ثورة الشمال، وأيضا لإعادة الفضل لأهله.
في “الخروج إلى التيه ” (جبل السماق الجزء الثاني) تابعت الأحداث التي جرت في الشمال، وسوريا عموما، حتى نكسة يونيو/حزيران 1967، ولم تخرج عين الشمس عن الخطّ، ففيها ذكر لتغوّل السلطة ومجازر الثمانينيات في أريحا وحلب وجسر الشغور.
- حضرت فلسطين والشخوص الفلسطينية بقصص نضالها وآمالها وآلامها وانكساراتها إلى جانب الشخوص السورية في كثير من أعمالك كذاكرة الرماد والمعراج وغواية الماء، وحتى مدن اليمام التي ولدت فيها “حنظلة” الثورة السورية. فأيّ دلالة لهذا التواشج؟
العلاقة أزلية جغرافيا. فلسطين وسوريا ولبنان، كلها بلاد الشام، وتاريخيا المنطقة مرتبطة بأحداث وحَّدَتها. ومنذ بداية الاحتلال لفلسطين لم يقاتل الفلسطينيون وحدهم، بل كانت الجيوش العربية في حرب الـ 48 متحدة رغم فشلها، وفي حرب الـ 67 وفي حرب الـ 73. يمكن القول إن السوريين اليوم يعيشون التغريبة ذاتها التي سبقهم إليها الفلسطينيون، وإن كنت قد كتبت عن القضية الفلسطينية فلأنها قضية كل عربي.
ربما لأني من جيل عاش أمجاد القومية العربية وإن كانت حافلة بالهزائم. لكن الشعور الشعبي لا يتغيّر، وقد وقر في ضميرنا ووجداننا منذ كنا أطفالا أن فلسطين لنا. عربية وحقّها علينا أن ندافع عنها، ونحرّرها. كل عربي -بغض النظر عن الأنظمة- يعتبر القضية الفلسطينية قضيته.
وحنظلة في “مدن اليمام” نزل من لوحة ناجي العلي ليروي مأساة السوريين. كما روى السوريون من قبل مأساة الفلسطينيين، لقد فعلها حاتم علي في “التغريبة الفلسطينية”. كلّ ذلك يؤكد وحدة الدم والقضية.
الرواية لدحض سردية الطغاة
- لقد شغل واقع الاستبداد والاستلاب السياسي والاجتماعي والمعيشي للسوريين حيّزا كبيرا من اهتمامك، حتى ليبدو مشروعك الروائي في جزء منه كحفر متأنّ بتاريخ الاستبداد والقهر وضروبهما المختلفة. فأيّ خلاصات لديك اليوم عن ذلك الماضي وهذا الراهن الطغيانيين؟ وكيف تنظرين إلى المستقبل على وقع استمرارهما رغم الانتفاضات والثورات؟ ودور الرواية في كلّ ذلك؟
بكل تأكيد يشكّل المجتمع السوري بكل أمراضه الاجتماعية والسياسية صلب مشروعي الروائي، فمنذ أوّل كتاب طبعته إلى آخر كتاب ستجدون هذا الواقع حاضرا، ينصب كل اهتمامي على حالة القهر والتخلّف والتجهيل والاضطهاد للمجتمع ككل بشكل عامّ، وللمرأة بشكل خاصّ.
ويبدو أن ما تشكّل لديّ من خلاصات قد أودت بها وقائع الثورة السورية التي شكّلت في بدايتها انبثاقة أمل عظيمة بتحقّق الحلم، لكن قوّة التدخّلات الخارجية بها، وإصرار العالم برمّته على إفشالها، والصمت المقصود على سحق الشعب السوري، قد أصابتني بحالة من الإحباط واليأس، وبات المستقبل قاتما رغم الإيمان الداخلي بنهاية حتمية لهذا الظلم والتجبّر.
وإذا كان ثمة دور للرواية الآن، فهو الاستمرار بدحض سردية الطغاة التي بات العالم أجمع يختبئ خلفها، والتأكيد على سردية الشعوب المقهورة وحقّها الإنساني في حياة كريمة.
- تستعرضين في روايتك “غواية الماء” حيوات شخوص عربية من المشرق والمغرب انسحبت من واقعها وإكراهاته في ظلّ الحروب وولجت إلى عالم افتراضي على الشبكة العنكبوتية تحاول تشكيله بذاتها، ولكنها فشلت لتعود مجدّدا إلى نقطة البداية في ذلك الواقع. فما الذي أردت قوله في طرحك لهذه الفرضية ومساراتها السردية وما خلصت إليه؟
مع أني أفضّل أن يجد القارئ عندما ينتهي من الرواية التفسير الذي يلائم تفكيره، ولا أحبّ تحجيم الرواية برؤيتي الشخصية أو شرحها، لكني سأجيب عن السؤال.
مرّت الرواية بعهد كانت تكتب فيها المواعظ، وتستخلص منها الحكم، ويفرض الكاتب رؤاه على القارئ وكأنه في موضع المعلّم. باختصار أنا لا أرى الرواية درسا، لذا أريد الابتعاد عن أن أيّ فكرة منجزة أضعها في ذهن القارئ.
الرواية تناولت واقعا جديدا في الحياة المعاصرة (الإنترنت ومواقع التواصل) فرض نفسه علينا، وهي لن تكون الأخيرة، فستليها روايات أخرى أكتبها عن العالم الافتراضي.
لكن بأبعاد جديدة لا عودة فيها إلى الواقع، فقد اندمج العالمان تقريبا، وأصبح الافتراضي مهيمنا عليها وجزءا أساسيا منها.
عندما كتبت “غواية الماء” لم يكن هناك هذا التطور المخيف لوسائل التواصل الاجتماعي، ولم يكن لها هذا التأثير الذي نعيشه الآن.
في “غواية الماء” يتغلب الواقع على الافتراض، لأن الزمن الروائي مختلف عما نعيشه الآن، ولأن الشخصيات كانت تفضّل العيش في الواقع على العيش في الافتراض، بل كانت تسعى لتحويل الافتراضي إلى واقع.
ADVERTISING
الثورة والرواية
- شكّلت روايتك “مدن اليمام” انعطافة في مشروعك الروائي، سواء على مستوى سقف التناول السياسي أو تقاطع السيرة الذاتية مع التسجيل والتخييل الروائيين، وشرعت بكتابتها بعد اندلاع ثورة مارس/آذار 2011. لو تحدّثيننا عن الكواليس؟ وعن الاختلاف الذي طرأ على تجربتك في الكتابة بعد الثورة؟
في اعتقادي لم تشكّل “مدن اليمام” انعطافة في مشروعي الروائي، بل كانت استمرارا شرعيا ومنطقيا لذلك المشروع. توقفت في “عين الشمس” عند الأحداث الكبرى في الثمانينيات، وتابعت عندما حصلت ثورة 2011. ربما لو لم يحدث الربيع العربي لانحزت لنوعية أخرى من الكتابة الروائية تشكّل مشروعا مختلفا. لكن الثورة جاءت لتكمل بأحداثها مشروعي الروائي.
ربما يكون الاختلاف في “القضايا” التي طرحت نفسها، وأجبرتني على تناولها. ففي “مدن اليمام” عشت تجربة اعتقال ابني لمدة سنتين، ورصدت من خلال تلك التجربة ما عشته أنا خارج المعتقل وما عاشه هو في الداخل. وجاءت “لمار” استمرارا لذلك الحدث أيضا ففرضت نفسها عليّ، ولم تكن خياري الشخصي الحرّ.
كل تجربة روائية بعد الثورة أخذت جزءا مما عايشته عن قرب، ولعبت المخيلة دورا في صوغ تلك الحوادث وروايتها. الاختلاف من حيث القضايا والأسلوب وطريقة التناول والطرح لم تختلف كثيرا، فأنا صاحبة قضية منذ بدأت الكتابة، وأيضا لم أتخلَّ عن مشروعي الذي بدأته قبل الثورة.
- تلت رواية “مدن اليمام” سلسلة من الروايات: “لعنة الكادميوم” و”لمار” و”الشارع 24 شمالا” و”سلم إلى السماء” و”القمصان البيضاء” ورغم خصوصية كلّ منها على حدة، إلّا أنها تشترك في كونها محاولة لرصد أبرز التحوّلات زمن الثورة والحرب السوريتين والمآسي الكبرى التي رافقت تلك التحوّلات كالاعتقال والتعذيب، والتصفية الجسدية، والتهجير، واللجوء. فما الذي يضيفه التناول السردي لتلك الوقائع والقضايا؟ وما الذي يميّزه عن أنواع التناول الأخرى سواء إخبارا أو تأريخا؟
إن كل عمل روائي يقدّم حياة كاملة تضجّ بالشخصيات والأحداث وتختلف عن الخبر التقريري أو التأريخ الجامد، ولن تجد مثلا في تقرير إخباري حوارا بين شخصيات ولا “منولوغا” ولا وصفا لعواطف ومشاعر، ولا حتى للبيئة المحيطة التي وقعت فيها الأحداث.
الرواية تقدّم للقارئ عالما حيّا متكاملا يشمل كل التفاصيل الخاصّة والعامّة، تقدّم متعة وجمالا، يجد القارئ أحيانا نفسه في النصّ. وهذا لا يحدث مع كتاب تاريخ، ولا تقرير إخباري.
أما ما يضيفه التناول السردي لتلك الوقائع فأعتقد أنه محاولة فنّية تعزّز سردية يُراد لها أن تبقى في الظلّ ويمنح التاريخ وجها مغايرا للوجه الذي يصنعه المؤرخ أو الإعلامي، ولا ننسَ أن الفن هو العدو الأول للموت والفناء.
المرأة المُستغلّة ووجه النظام الحقيقي
- ظلّ نموذج المرأة المضطهدة والمقهورة بشكل مزدوج (اجتماعيا وسياسيا) حاضرا في العديد من أعمالك، وصولا إلى “بنات لحلوحة” التي أفردتها لمعالجة ذلك النموذج بتنويعاته المختلفة. فما السبب وراء تركيزك على هذا النموذج وما دور القهر في تشكيله؟
“بنات لحلوحة” تحديدا هي الوجه الحقيقي لنظام حكم البلد بالحديد والنار، ذلك النظام يقوم عادة باستغلال الأطراف الضعيفة في المجتمع لتحقيق أهدافه القذرة، ولن يكون هناك أضعف من المرأة، خاصّة تلك التي نبذها المجتمع فوجدت نفسها تمتهن الدعارة.
هؤلاء النسوة يمكن تجنيدهن ببساطة لأسباب عديدة، قد يعتقد البعض أنهن يعشن حياتهن في الظلّ حتى تأخذهنّ ظلمة الموت. لكن الواقع الذي أردت كشفه هو عكس ذلك تماما، إنهنّ فاعلات ومؤثّرات في المجتمع، من خلال تأثيرهنّ في الرجال الذين يحكمون وبيدهم السلطة، أو استغلالهنّ من قبل هؤلاء الرجال.
جاء التركيز عليهنّ، لأن الرواية ترصد أمراض المجتمع السوري، ودور المخابرات في إقامة نظام الحكم والسيطرة على مقدّرات البلاد. بدأت الرواية بتشريح المجتمع من القاع حيث الحقيقة.
النبش في حياة العاهرات أدّى إلى معرفة كيفية بناء المجتمع الحديث في عهد البعث. إذن هنّ وسيلة أوّلا للكشف عن الحقيقة، ولإبراز دورهنّ في بناء تلك الدولة بعد أن قهرتهنّ الظروف المحيطة، ورمت بهنّ إلى ذلك العمل، وجردتهنّ من كل ما تتمنّاه المرأة من حياة كريمة مستقرّة وبناء أسرة ومن التعليم أيضا.
استراحة محارب
- بدت رواية “كتاب الظلّ” والتي اشتغلت من خلالها على شخوص تتفاعل في عالم شبه أسطوري، كانعطافة أخرى. ولكن هذه المرّة على مستوى الطرح والأسلوب. فكيف يمكن فهم هذا العمل ضمن مشروعك الأدبي؟ وعلاقته بالأعمال السابقة واللاحقة له؟
نعم تستطيعين القول إن رواية “كتاب الظلّ” تشكّل عالما مستقلا بعيدا عن المشروع الروائي الخاص بالمسألة السورية عبر قرن من الزمان.
“كتاب الظلّ” هي تغريد خارج السرب، ويمكن تسميتها استراحة محارب. كتبتها في ظروف صعبة واستثنائية، وبمقدار القبح الذي أعيش وسطه حاولت أن تكون جرعة جمالية خالصة.
ولو لم تكن هناك ثورة، ولو لم أكن صاحبة قضية، لكانت كتاباتي كلها عن الطبيعة، فأنا ابنتها البارة. أعيش الجمال بكل جوارحي، وأكتب عنه. لكن القبح يأبى أن يتركني لتلك التجربة.
وبالمناسبة، أنا أحلم بكتابة رواية على سوية “كتاب الظلّ” مخطّطها في ذهني، وأعرف ماذا سأكتب فيها، لكني أتمنّى أن أعيشها أوّلا، بمعنى أن أعيش ظرفا مريحا مادّيا واجتماعيا. لا أختنق فيه أثناء الكتابة ولا يطرق عليّ أحد الباب، ولا يقاطعني أحد أثناء الكتابة.
كان يمكن أن أكتبها في بيتي الذي نزحت منه، أو الأرض التي ابتعدت عنها، وسط أشجار الكرز والزرع وماء النبع الصافي. تحتاج الرواية مني تفرّغا لا أملك رفاهيته الآن.
ليس من الضروري أن تكون هناك صلة وصل بين عمل وآخر. وليس من الضروري أن تتسم كتابات الروائي بصفة واحدة لا تتغيّر. أنا أجرّب في كل عمل أكتبه أن أخرج من جلباب العمل الذي قبله ولو عن طريق السعي الشكلاني كي لا أكرّر نفسي. حتى أسلوبي أحاول ألا يغلبني فيحصرني داخل قالب لا يتغيّر.
- لقد أصبح النتاج الروائي السوري السنوات اللاحقة للثورة أكثر غزارة بشكل ملحوظ. فكيف تعلّلين ذلك بوصفك من جيل الروائيين السوريين المخضرمين؟
الأمور التي تحكّمت بالمنجز الروائي كميا كثيرة. منها الربيع العربي، والوضع السياسي الذي شجّع الكثيرين ممن لم يكتبوا قبل الثورة على كتابة تجربتهم في الثورة، فرأينا أعمالا لكتاب لم يكرّروا التجربة.
ثم الاستسهال. بعض الشباب يستسهل كتابة الرواية لأنها الطريق الأسرع للشهرة، وهذا ما جعل الكمّ الهائل يحفل بروايات لا تحتفي بأقلّ قدر ممكن من أصول الكتابة ألا وهو اللغة. فتقرئين أعمالا لا ينجو فيها سطر من خطأ إملائي أو نحوي أو طباعي.
أيضا دور النشر ساهمت في الترويج للتفاهة، فليس مُهمّا نوع النصّ الذي بين أيديهم، المهمّ أن يباع وأن يدفع الكاتب التكاليف كاملة.
كما أن نظام الجوائز بات هو الآخر دافعا للكثيرين لكتابة الرواية على مقاسات محدّدة تفرضها أجواء الجوائز.
وحدّثي ولا حرج عن الترجمة التي لا تنتقي الأجود، ولا يهمّها أصحاب الأقلام الجيّدة، المهمّ أن تترجم أعمالا ترضي ذائقة القارئ الغربي وتدغدغ مشاعره وغرائزه أيضا، فصار البعض يكتب على مقاييس محدّدة ليترجم عمله إلى لغات أخرى.
“الجزيرة”