سلم عليه بحرارة، نهض سالم العبد من كرسيه احتراماَ، وأخذه بالأحضان:
ـ مكاني، والله لا تجلس إلا مكاني.
أومأ عبد الكريم بيده النحيلة الدقيقة الأصابع:
ـ ابق مكانك سأجلس هنا.
سحب كرسياً وجلس قبالته، هتف سالم بحركة مسرحية:
ـ بعد زمان يا رجل، منذ متى لم نرك؟!
هز عبد الكريم رأسه:
ـ مشاغل، أنت تعرف، عندما أكتب أغرق في شبر ماء. يضيق العالم بي ولا أفكر بشيء غير أبطال روايتي، يسكنوني، يحتلون بيتي، يبعثرون الأوراق، يقيمون البيت ولا يقعدونه، فترى الفوضى في كل مكان.
سأل سالم باهتمام:
ـ إذا سنتشرف بقراءة روايتك الجديدة قريباً؟
ابتسم عبد الكريم ابتسامة من سيفجر قنبلة ومد يده لسالم بالمغلف الذي يحتوي على الرواية:
ـ ها هي ستكون أول من يكتب عنها اطمئن.
استرخى سالم في كرسيه، وقال متأسفاً:
ـ في كل مرة أقول في نفسي سأكون أول من يكتب عنك، لكن هناك قارئة ” ناقدة ” ترسل لي مقالها النقدي قبل أن أبدأ القراءة وأقول لك الصدق، إني معجب بما تكتب، وأشعر بعد قراءة ما تكتبه أني لن أضيف شيئاً جديداً ، لذا أتنحى عن مهمتي تاركاً الساحة خالية لها.
غمز عبد الكريم بعينه:
ـ يبدو أنها ليست ناقدة فقط، بل أكثر بكثير، أنا أعرف رومانسيتك.
تنهد سالم العبد:
ـ ياريت، لكنها معجبة بك أنت، وليس بي، ولا تكتب عن سواك، لكن ما أستغربه أنها لم تفعل كالكثيرات اللواتي يطلبن عنوانك ومعلومات عنك، مما جعلني أظن أنك تكتب المقال بنفسك تحت اسم مستعار.
ضحك عبد الكريم:
ـ لازلت كما أنت يا سالم ، لن يكبر عقلك.
احتج سالم:
ـ ليست قلة عقل، وأنت تتفوه بأشياء لا تعنيها، ربنا يجعلنا من بركاتك!
أكد عبد الكريم بثقة: يا أخي أنا مشغول، والله ليس عندي وقت لهذه السفاسف فقد كبرتُ على المراهقة يا سالم
ـ أنا لست معك، ليست سفاسف، أنا أراها معجبة حقاً بك، خذ واقرأ ما كتبت.
ـ سئمت ذلك.
سأل سالم بدهشة: تعني أنك لم تقرأ مقالها عن روايتك الأخيرة؟! أنت لست على صواب، أنا أرى أن ما تكتبه هو السبب في زيادة مبيعات كتبك، هي تساعدك وكأنها بوق إعلان موجه.
رد عبد الكريم بلامبالاة:
ـ لم أعد أهتم لذلك، صارت كثرة المقالات عني تصيبني بالدوار، ولا أجد الوقت لأضيعه في جدل سخيف بين النقاد، ولا أخفيك سراً، لقد أخذت عهداً على نفسي ألا أقرأ شيئاً كي لا يتأثر إنتاجي الروائي بالآراء المتضاربة في سوق النقد، لقد ضعت في بداياتي ودخت بين السرد والسيرة الذاتية والرمز والفنتازيا والواقعية. وقد أخذت الآن خطاً لنفسي لن أحيد عنه، ولا يهمني آراء الآخرين.
ـ أنا أخالفك الرأي، هذه الكاتبة تحلل شخوصك وأسلوبك وتدخل عالمك بشكل رائع أحياناً يخيل إلي أنها تعرفك شخصياً. اسمع ما كتبته عنك.
“تدخل عالم عبد الكريم السعد، وكأنك في لجة بحر هائج، تقرأ وأنت تصارع الموج وأسماك القرش، تصارع من أجل الوجود، وتصارع من أجل الحرية، تصارع كي تصل إلى الشاطئ حياً، تحزن وتفرح، تحب وتكره، وتسيل دموعك، وتعلو ضحكاتك وأنت وحيد في غرفتك المغلقة، تغمض عينيك فتشعر أنك وصلت للتو من سفر طويل، ودعت فيه كل هؤلاء الذين عشت معهم بجوارحك، مازن وأيمن، ومحمود ورنا وريم كلهم كانوا معك على سطح سفينة، معهم أبحرت، معهم وصلت الشاطئ. مددت يدك صافحت كل واحد، أخذت يده بين يديك، أخاً وصديقاً!
وفي روايته الأخيرة نقف أولاً عند تلك اللغة التي يلهث فيها الشعر في أجواء حارة صادقة النبرة، مبتعدة عن الغنائية، مرتدية ثوب حدادها الخاص على حرية ضائعة. وأرض لا تبرح تستوطن الذاكرة، وتضعف نبض القلب..”
ـ ما رأيك ؟!
ـ معك حق فيما قلته ، هل كتبت الكثير عني؟
ـ دائماً ، كل رواياتك على ما أذكر.
ـ وهل عندك ما نشرته ؟!
ـ أجل
تنفس بعمق وتساءل ” وكيف فاتني أن أقرأ لها ؟ “
قال سالم بخبث : ألم أقل لك ، معجبة قديمة متجددة ، كأنها تسكنك
داعب شعيراته البيضاء بحنان ، استعاد روح الشباب
ـ جميل فعلاً ، جميل أن تجد في هذه السن معجبة !
ـ لكنك مازلت شاباً
تنهد عبد الكريم متحسراً على شباب ولى، يعرف في قرارة نفسه أنه لن يعود، وإن هرب سالم بكلماته من هذه الحقيقة، انتبه من شروده متابعاً
ـ شوقتني لقراءة مقالها
مد سالم يده بالأوراق:
ـ ها هو قبل أن أنشره، بالمناسبة هي تكتب تحت اسم مستعار، تكتفي بحرفين من اسمها، ربما لها ظروف خاصة، وربما لا تحب الشهرة.
استغرب عبد الكريم: امرأة لا تحب الظهور والشهرة!؟ ما أجملها من امرأة!
همس سالم: سأبوح لك بسر، لقد تعلقت بها من خلال كتاباتها، صدقني لا يهمني شكلها أو من تكون، لكن هذه الروح الجميلة التي تنفر من بين السطور كغزالة متمردة تأسرني، وأحياناً أحسدك وأشعر بالغيظ لأنها تكتب عنك فقط، ربما تكون إحدى العاشقات التي لم تجد طريقاً لقلبك سوى بالكتابة عنك.
اهتز عبد الكريم طرباً، تحبه؟ لابد أن سالم يبالغ، نعم لابد أنه يبالغ، هي ترى أن رواياته تكتسح السوق وتستحق الكتابة، فإن لم تكتب عن روائي كبير مثله، عمّن تكتب إذاً؟! أراحه هذا التفسير، لكنه تساءل، ولم لا تكون معجبة، أو حتى عاشقة ما المانع ؟! سأل سالم باهتمام:
ـ هل اسمها جميل ككتابتها؟ تعرف أني أهتم بالأسماء، وأنتقيها عند اختيار أبطال رواياتي.
ـ قلت لك إنها توقع بحرفين فقط.
ـ يا للأسف، بدأت أرغب في جعلها ضمن دائرة النساء اللواتي أكتب عنهن.
ـ تكتب عنهن ويعشقنك، على كل لنختر لها اسماً، ليكن ربيعة، ما رأيك؟
ـ ربيعة! اسم كلاسيكي لا جرس له، لكن ما الذي جعلك تختار هذا الاسم؟!
ـ لأنها توقع بحرفين “ر . س” وأنا سميتها ربيعة سالم على اسمي، وصرت أوقع مقالاتها بهذا الاسم.
ضحك عبد الكريم ضحكة مجلجلة كبيرة، حتى أوقفته وخزة أسفل صدره.. آه من هذا الصدر! كحّ بتقطع، وأطفأ سيجارته. داعبته نسمات متسللة من النافذة، حملت له رائحة الربيع، وغاص في أحلامه، مسح على شعرها، أخذ كفها بين يديه، جلسا في ركن هادئ، حدثها حدثته، ستتخرج قريباً، تحلم بالسفر والعصافير والبحر، ويحلم بضم خصرها والسير حافي القدمين على الرمال الدافئة، وليكن لقاؤهما صدفة في بيت أحد الأصدقاء و..
ـ هه ، عبد الكريم ، ماذا بك ؟ ألن تقرأ المقال ؟!
رد بلهفة: نعم هاته.
أخذ الأوراق بين يديه، ونظر فيها، عادت الوخزة في أسفل الصدر تشعره بالضيق والألم، اتسعت حدقتاه وهما تتابعان السطور، ازداد خفقان القلب، وتلاحقت أنفاسه
ـ افتح النافذة ، أريد مزيداً من الهواء ..
استرخى في مقعده مذهولاً، ارتخت يده التي تحمل الأوراق، لقد سددت له صاحبة المقال سهماً أصاب منه مقتلاً.
غمز سالم : أتعرفها؟! يبدو أنه حب قديم، أليس كذلك؟ حدثتني نفسي منذ البداية أنها حب قديم.
رد عبد الكريم من واد عميق بصوت مسحوب من الذاكرة، رداً ممطوطاً بطيئاً:
أعرفها .. أعر .. فـ .. ها ..
ـ حدثني عنها ، أريد معرفة كل شيء .
ـ أعرف أنها تجاوزت الأربعين من عمرها، وأنها كانت جميلة أيام الجامعة.
ـ لا يهم
ـ وأعرف أنها متزوجة، ولديها أولاد يملؤون حياتها صخباً ومتاعباً وهي مشغولة عن الدنيا بتربيتهم وببيتها، فمتى وجدت وقتاً للكتابة؟
شعر سالم بالأسف ، لكن فضوله لم يتوقف ، سأل باهتمام
ـ ما اسمها ؟
تجاهل عبد الكريم السؤال، اقترب برأسه من سالم، مد يده إليه بالأوراق بلهجةٍ آمرة قال:
ـ أَشّر على الموضوع غير صالح للنشر .
صرخ سالم :
ـ لن أفعل، إنها أفضل من كتب عنك، وعن رواياتك، أيها المغرور، فلماذا تريدني أن أخسر كاتبة جيدة؟ لتنتقم من وهم حبٍ قديم مر في حياتك، وأنا متأكد أنك السبب في فشله ، طوال حياتك علاقاتك مع الحب فاشلة، وتمنيت طوال هذه السنوات التي عرفتك فيها أن أسمعك تمدح أنثى، أو تبدي رغبتك بالزواج من الكثيرات اللواتي يتحلقن حولك كالفراشات. لكنك كالبركان، تحرق، وتخرب، وتهدم، وتأخذ كل شيء في طريقك دون رحمة.
رد عبد الكريم السعد : نعم آخذ كل شيء دون رحمة .
هدأ سالم ، وعاد إلى كرسيه :
ـ إذاً سأنشر المقال، ولن أخسر صاحبته، صحيح أني خسرت حلماً جميلاً، لكني لن أخسر ناقدة جميلة من أجلك، وإن كنت صديقي.
ابتسم سالم بعد مرور الزوبعة، عاد واقترب من عبد الكريم وسأله غامزاً مرة أخرى
ـ لم تقل لي، من هي؟ وكيف عرفتها؟!
رد عبد الكريم بصوت مجروح، أنهكه الدخان وضيق الصدر.
ـ إنها زوجتي يا أحمق.
*تلفزيون سوريا