كنبوءة يمكنها أن تشكّل الحياة الثانية للكاتب كانت رواية إسماعيل فهد “الظّهور الثّاني لابن لعبون”. فقد وضع حجر الأساس للبحث عنه في المستقبل.
من مكتبه يواجه إسماعيل يومياً مقبرة الصّالحية، يعبر من حياته الزّمانية إلى حياته الدّهرية، يعيش الزّمان في الدّهر فيدرك أوله ويسعى إلى نهايته. كانت علاقته مع الموت علاقة ودّية فجيرانه الأموات يتحدّثون إليه كلّ يوم ويمدّونه بالحكايات.. هم بالنّسبة إليه أحياءٌ يتحركون في مجال الرّؤية لديه وهو يكتب حيواتهم السّابقة. فهل اعتقد يوماً أنّه يعيش في الدّهر لا الزّمان؟ وأنّه سيأتي اليوم الذي يظهر فيه لفترة قصيرة في الزّمان وسيجد من يتبعه ويبحث عنه ويكتب حياته الثّانية؟
المتطوع للبحث عن إسماعيل عليه أن يتحلّى بالصّفات نفسها التي امتلكها الكاتب طيلة عبوره اللطيف في الزّمن، ذاك العبور الذي لم يستطع أحد الإحاطة به. فقد مرّ إسماعيل بهذه الحياة مروراً أثيرياً وحين غادر صار أكثر حضوراً.
حضوره يشبه تلك اللوحة الأثيرة التي علّقها في غرفة الجلوس بمنزله “خطوة في الحلم”. يخرج من لوحة ليسكن أخرى وهو محاط بهالة من الألوان. البداية العاطفية لعلاقة إسماعيل مع الفن كانت من خلال الرّسم، الذي لم يجد فيه فضاءً رحباً يتسع لما يريد التّعبير عنه فلجأ إلى الكتابة، وحين ضاق أفق القص عمّا يريده اختار الرّواية لتكون مسرحه الأثير فعاش فيها حيواته المتعددة بانتظار رحلة العبور الأبدية.
حسن الطّالع
يعتبر إسماعيل فهد من الكُتّاب المحظوظين؛ لأنّه ولد في بلد طميه من الحروف ونخله مجبولٌ بالشّعر وأنهاره تنبع من الجنة. ولأنّه وجد في زمنٍ مليء بالصّراعات والأحداث المهمة فقد ساعده ذلك على كتابة عميقة وثرية متنوعة الأجواء حافلة بالأحداث والأزمنة والأمكنة، مع هذا لم يكن إسماعيل يوماً متعصباً للمكان لأنّ انتماءه الحقيقي كان للإنسان؛ لذا استطاع العيش في عدّة دول لفترات زمنية طويلة (العراق، الكويت، الفلبين) ولم يكن المكان الذي يقيم فيه سوى حاضنة لأعماله التي تغوص في بيئات متعددة، وقد حمل على كاهله طيلة حياته قضايا مهمة وجوهرية دافع عنها من خلال رواياته.
فهو كاتب قضية يحمل هماً عربياً وقومياً وإنسانيا يتجلّى ذلك في رواياته، فقد كتب في “زمنه العراقي” يحدث أمس.. الرّواية التي طلع منها الفرات ودجلة ملونين بأجواء السّجون وسيطرة الفكر الاستخباراتي على من يمسكون زمام السّلطة في العراق. وكتب سباعية “إحداثيات زمن العزلة” في “زمنه الفلبيني”.. بروح كويتي مناضل يرفض أن تمتد يد غادرة لتغيير جغرافية مكانه الأثير وإن كانت تلك اليد يد أخواله وأقاربه، يدٌ عراقية! ارتباطه بالمكان ارتباط وقتي لحظة الكتابة، فقد كتب روايته ما قبل الأخيرة “السّبيليات” عن العراق الذي في القلب والذاكرة وهو يقيم في الكويت. الكويت التي تمثل بالنّسبة لإسماعيل “الظّهر” المكان الآمن والسّند والملاذ الأخير والتي اختار أرضها ليعبر من الزّمان إلى الدّهر. ولكنّه لا ينسى أبداً حبّه للعراق الذّاكرة المكتنزة بكلّ ما هو جميل ومؤلم.. جميل؛ لأنّه أغنى تجربته ومخيلته في رحلة بحثه عن الاختلاف بدءاً بمفردات اللغة المتضادة بين البلدين وليس انتهاء بسحر الليل العراقي في شواطئ دجلة، حيث كان أعمامه يأتون “بالبوم” وهي سفينة ينقلون عليها التّمور ويتاجرون بها، كما أنّ “المفردة” المثيرة تطلق على طائر اشتهر شعبياً بدلالته على الشّؤم وهو مفهوم خاطئ تكرّس بسبب خطأ في التقاط الاختلاف في النّطق.. فالمثل الشّعبي يقول “اتبع البوم يدلّك على الخراب”.. النّوم في “البوم” كان يستهويه في ذلك الزّمن وبقي قابعاً في روحه ذلك الشّوق المعذب، ليس للمكان بجغرافيته بل للأشخاص والتّجارب والعلاقات الإنسانية التي خلّفها وراءه. ومؤلم؛ لأنّه اضطر لترك العراق بسبب طموحات الحكم العراقي الذي أوقعه بتلك الأزمة، أزمة الشّوق للأشخاص الذين لا يمكنه التخلّص منهم وهو يحمل جزءاً منهم في جيناته بحكم كون أمّهِ عراقية.
ويحكي أبو فهد عن تلك العلاقة أنّه كان محتاراً بهويته وانتمائه وقد سأل عمه “راشد الفهد” _الذي توفي عن عمر يناهز 120 عاماً_ ذات مرّة: “من أكون؟” فقال له “أنت صاحب النّصيفة سالم” وهو مثل كويتي يعني أنّ نصفه من هنا ونصفه من هناك.. وقد كان باستطاعته أن يختار بأيّ وقت انتماءه للعراق أو الكويت، فهو مازال إلى الآن يُصنّف في العراق في الملتقيات الأدبية على أنّه كاتب عراقي، وهو حريص على هذا التّواصل الحميمي من خلال الكتابة فرواياته “يحدث أمس، طيور التّاجي، السّبيليات” تدور أحداثها في العراق.. كما أنّ ارتباطه لم يقتصر على الرّوايات، ولا كون أمّه عراقية، فقد تزوج للمرة الثّانية من سيدة عراقية انفصل عنها فيما بعد وعنده منها ولد وبنت، لهم أيضا أخوة وأخوات يحملون الجنسية العراقية.. تداخل أكثر واندماج لا يمكن أن تنفصل عراه.
الأمكنة والحبّ
لا شكّ أنّ السّفر يغني روح الإنسان ويعمّق نظرته للحياة كما يغني التّجربة الرّوائية، وتعدد الأمكنة التي زارها إسماعيل فهد وأقام فيها لفترات زمنية طويلة تركت بصمتها على نتاجه الرّوائي، فحضور المكان لم يكن من المخيلة، لكنّه لم يكتفِ بتلك التّجارب وإن ساعدت بناءه الرّوائي بالارتفاع فوق أعمدة صلبة من الفكر والمواقف الإنسانية بالإضافة إلى التلوّن الجغرافي. دراسة المكان والزّمان والفكر في أعمال إسماعيل فهد في متناول النقّاد، لكنّي أحببت في جلستنا الأخيرة أن أسمعه يروي موقفاً طريفاً حدث له في أسفاره لم يستغله أو يكتب عنه في رواياته. روى لي أنّه قصد بلغاريا للسياحة قبل أربعين عاماً.. أقام يومين في صوفيا، ثمّ قرّر أن يذهب إلى فارنا في سيارته الخاصة، وكان لديه وقتها سيارة فورد حمراء بباب واحد اشتهرت كثيراً في ذلك الوقت في فيلم رجل وامرأة! وكان بصحبة زوجته.
في الطّريق الصّاعد إلى الهضبة انكسر “الأكسل” اليمين، أم فهد أصيبت بالجمود والسّيارة بقيت تسير على ثلاث عجلات وتوقع أنّها ستنقلب وستكون النّهاية. كانت الشّمس توشك على المغيب (والشّمس هناك تغيب في العاشرة وتشرق في الثّانية صباحاً) المهم استطاع أن يسيطر على السّيارة، ولم يكن أمامه سوى المبيت على الطّريق وليس في ذلك ما يزعج بالنّسبة لروائي بل العكس كان أبو فهد مستعداَ للأمر، نصب خيمة ووضع فيها طاولة وكرسيين، وأخرج الطّعام والشّراب، والفاكهة كانت في متناول اليد، فالغابات والجبال والأودية في أوربا مليئة بالأشجار المثمرة، المشمش والتّوت والخوخ، كلُّ شيء في متناول يد السّائح. مع شروق الشّمس وصلت سيارة كبيرة (عسكرية) تفاهموا معهم بالإشارة، فكوا “الأكسل” واصطحبوهما إلى ورشة حدادة، وقتها لم يكن هناك قطع غيار لسيارة أمريكية في أوربا الشّرقية بسبب “السّتار الحديدي”. فاجتمع مهندسون وعمال وقاموا بصناعة أكسل مشابه، في توقيت الغداء أخذوهما إلى مطعم القرية، واجتمع كلّ سكان القرية هناك للغداء، واحتفلوا بهما، غنوا ورقصوا وشربوا حتّى مغيب الشّمس، ثمّ أعادوهما إلى سيارتهما، ورفضوا أن يأخذوا أجراً!
هذه القصة سمح لي أبو فهد بنشرها، لكنّه طالبني بعدم نشر قصص أخرى أكثر جمالاً وحميمية.
في كلّ بلد صديق
في كلّ مدينة زارها إسماعيل ارتبط بعلاقة محبة بكتابها وشعرائها وكان له الكثير من الأصدقاء في العواصم العربية، حكى لي عن علاقته الجميلة بالكاتب المسرحي السّوري الرّاحل سعد الله ونوس وعن طريقة تعارفهما. وعن زيارته لحلب وجمالها الهادئ.. لكنّ ارتباط إسماعيل بمصر كان أكبر وأعمق.
أوّل مرّة زار فيها مصر كانت عام 1967 عام النّكسة، كان مبتعثاً من الأمم المتحدة إلى مركز في المنوفية. قضى ستة أشهر كانت كافية لتعلقه بمصر بالإضافة إلى دخوله الحميم في الأجواء المصرية للعائلة عن طريق زواج أكثر من قريب له بسيدات مصريات. علاقته الأثيرة بمصر كانت عن طريق كتّابها وشعرائها حسب أجيالهم سواء كانوا مقيمين في الكويت أو في مصر.. الارتباط بهؤلاء الذين رحل معظمهم أو “سافر” على حدّ تعبير إسماعيل فهد.. هو الخيط الرّفيع الذي ربط روحه بمصر.. أكثرهم قرباً لنفسه كان الرّاحل عبد الرحمن الأبنودي.
بدأت علاقته بالأبنودي في منتصف السّتينات من القرن الماضي، كان في زيارة لمصر وقد قرأ أشعاره وحفظها، حين التقى به ذهل الأبنودي من شاب كويتي يحفظ أشعاره. استمرت العلاقة بينهما أربع سنوات لم يعرف خلالها الأبنودي أنّ إسماعيل كاتب وعنده مجموعة قصصية وكان يرافقه إلى الملتقيات الثقافية على أنّه “مثقف، قارئ كويتي من دول البترول!” هكذا كان يراه كما يقول أبو فهد! إلى أن زاره يوماً عام 1970 في رحلته السّنوية لمصر، وأخبره أنّه يريد زيارة صلاح عبد الصّبور، فاحتج الأبنودي بأنّ صلاح “عميل وجاسوس” ومنعه من زيارته، وبعد شهر حين اقترب موعد السّفر، أصرّ إسماعيل أن يزوره قائلاً بأنّه صديقه ولا علاقة له بخلافهما.. فقال له الأبنودي بأنّه سيرافقه في التّاكسي لشارع قصر النّيل ليمر على عبد الحليم حافظ لدقائق ثمّ ينزل ويرافقه إلى المهندسين حيث يقيم صلاح، فيصعد إسماعيل لعند صلاح وينتظره هو بالتّاكسي! حين وصولهما كان صلاح واقفاً في الشّرفة، رفع الأبنودي يده محيّياً، ثمّ نزل وأخذ صلاح بالأحضان! وخلال الجلسة نسيا إسماعيل وغرقا في ذكرياتهما! ثمّ انتبها إليه بعد انتهائهما من الحديث، فأحضر صلاح له آيس كريم، وناوله مغلفاً وهو في طريقه للخروج.. المغلف كان يحوي مخطوط رواية “كانت السّماء زرقاء” التي لم يوافق على نشرها في العراق ولا في سوريا ولا في مصر، أعطاها إسماعيل لصلاح عبد الصّبور أثناء زيارته للكويت لتسجيل برنامج أدبي للإذاعة الكويتية، وكان إسماعيل وقتها يعدّ برامج للإذاعة أيضاً. في المظروف وضع صلاح توصية لدار العودة في بيروت، مرفق مع مقدمة للرواية. خطف الأبنودي المغلف من يد إسماعيل وفتحه وقرأ التّوصية والمقدمة. عندما وصلا البيت دخل غرفته وأقفل عليه الباب، كان يخرج كلّ فترة ويشتم إسماعيل ويعود.. الشّتيمة للتحبب والإعجاب! قرأها الأبنودي في ليلة واحدة وكتب كلمة أيضاً.
وعلى الرّغم من تواصل إسماعيل مع الأجيال الجديدة عبر مواقع التّواصل الاجتماعي على الانترنت إلاّ أنّه لم يشعر بالدّفء، كان دائم التّوق إلى السّفر، والورق، والانترنت برأيه لا يمتلك دفء المكان المصاحب لغواية السّفر والمتعة البصرية والنّفسية، إلاّ أنّ إسماعيل فهد يعتبره استمراراً للقاء متواصل مع الكتّاب والأدباء في مصر التي يحبّها.
الوطن كاتب
ربما نستطيع أن نختصر الكويت كوطن بشخصية كاتبها الفذ إسماعيل فهد إسماعيل _بالنّسبة لي على الأقل_ كان إسماعيل المعادل الإنساني الأكثر حضوراً للكويت كوطن. فقد رأيتها بعين رواياته وأحاديثه وحضوره الشّخصي في حياتي. وعندما سمعت نبأ وفاته شعرت أنّه لم يعد بإمكاني أن أرى الكويت التي فقدت برحيله روحها! وصار بإمكاني الآن مغادرتها لأتبع خطى إسماعيل في سفره الثّاني.
*خاص بالموقع