1 –
على كثرة ما قرأت عن «أولاد حارتنا»، وعديد التفسيرات التي طُرحت لها على تباينها وتناقضها الشديد؛ لفت نظري أن أوْفى قراءة طُرحت للرواية من منظور نقدي تأويلي بحت كانت على لسان نجيب محفوظ نفسه! وفي حالة شديدة الخصوصية والاستثنائية، في سياق سيرته وما عرف عنه من تحفظ وتكتم شديدين يكادان يصلان إلى الصمت التام إذا طلب منه الحديث عن رأيه أو تفسيره لعمل من أعماله.
أما في «أولاد حارتنا»، فلربما كانت المرة الأولى والأخيرة التي قدم فيها طرحا واضحا ومتكاملا حول الرواية، ورؤيتها الفنية وطبيعتها الأليجورية “الرمزية”، ولربما جاء هذا التصريح بعد أن تفاجأ بردة الفعل غير المتوقعة من جانب التيار الديني المحافظ، كان مندهشا بشدة وكان يقول: كنت أن أتوقع أن تثير الرواية مشكلات سياسية وليس دينية!
وعلى هذا فقد ارتأى نجيب محفوظ -بعد أن ظل صامتا لسنواتٍ طويلة- أن يزيل اللبس، ويكشف عن بعض الأفكار التي يمكن أن تقود إلى قراءة موضوعية وفنية وجمالية للرواية، وليس قراءة متحيزة أو دينية أو أيديولوجية من أي نوع!
- 2 –
في حواره المطول والمفصل مع رجاء النقاش، حينما سأله عن أزمة «أولاد حارتنا»، وما أثارته من مشكلات؛ يكشف نجيب محفوظ:
«المشكلة منذ البداية أنني كتبتها “رواية”، وقرأها بعض الناس “كتابًا”! والرواية تركيب أدبي فيه الحقيقة وفيه الرمز، وفيه الواقع وفيه الخيال.. ولا بأس بهذا أبدًا.. ولا يجوز أن تُحاكم الرواية إلى حقائق التاريخ التي يؤمن الكاتب بها؛ لأن كاتبها باختيار هذه الصيغة الأدبية لم يلزم نفسسه بهذا أصلًا وهو يعبر عن رأيه في رواية”.
ويوضح نجيب محفوظ أن “في ثقافتنا أمثلة كثيرة لهذا اللون من الكتابة، ويكفي أن نذكر منها كتاب «كليلة ودمنة»، فهو مثلًا يتحدث عن الحاكم، ويطلق عليه وصف الأسد، ولكنه بعد ذلك يدير كتابته كلها داخل إطار مملكة الغابة وأشخاصها المستمدة من دنيا الحيوان، منتهياً بالقارئ في آخر المطاف إلى العبرة أو الحكمة التي يجريها على ألسنة الطير والحيوان… وهذا هو الهدف الحقيقي الذي يتوجه إليه كل كاتب صاحب رأي.. أيا كانت الصيغة التي يمارس بها كتاباته”.
وقد استرعى انتباهي بشدة هذا الربط الذكي بين سعي محفوظ إلى تجديد الأدب العربي، وتوسيع نطاقه بتأصيل هذا الشكل الأدبي الجديد الوافد “الرواية”، وبين النظر الدقيق إلى موروثٍ سردي عربي زاخر، وأشكال تراثية رائعة من القص تقترب في الروح العامة لأشكال القص الحديثة؛ من حيث السرد والحوار والوصف وتوظيف الرمز والكناية والتمثيل.. إلخ.
- 3 –
وهذا التمثيل الرائع الذي استخدمه محفوظ ليربط بين «أولاد حارتنا» و«كليلة ودمنة» من حيث مجازية الرموز ودلالات الأقنعة السردية؛ تكرر في مناسباتٍ عدة؛ لعل من أشهرها ما أجاب به على محررة دورية (باريس ريفيو) الشهيرة (ترجمه أحمد شافعي ونشره في كتابه «بيت حافل بالمجانين»، عندما سألته مباشرة وبوضوح ودون مواربة: ماذا كنتَ تقصد من «أولاد حارتنا»؟ هل كنت تريدها مثيرة للجدل؟
فأجابها محفوظ: أردتُ من الكتاب أن يُبيّن أن للعلم مكانًا في المجتمع، تمامًا مثل الدين الجديد، وأن العلم ليس بالضرورة في صراع مع القيم الدينية. أردتُ أن أُقنع القراء أننا لو نبذنا العلم لنبذنا معه الإنسان العادي. غير أنه أسيء فهمها لسوء الحظ، أساء فهمها أولئك الذين لا يعرفون كيف يقرأون قصة. وبرغم أن الكتاب عن الحارات ومن يديرون الحارات -الجيتوهات ghettos في الأصل- أسيء تأويله، واعتبر كتابًا عن الأنبياء أنفسهم.
وبسبب هذا التأويل، لا تزال القصة تعد صادمة، وهذا طبيعيّ؛ إذ هي وفقًا لهذه القراءة تصور الأنبياء حفاة، قساة.. ولكنها بالطبع أليجوريا allegory (حكاية رمزية). وليست الأليجوريا (الحكاية الرمزية) مجهولة في تراثنا (السردي العربي القديم)؛ ففي قصة «كليلة ودمنة»، على سبيل المثال، هناك أسد يمثّل السلطان. ومع ذلك، فلم يقل أحد إن المؤلف جعل من السلطان حيوانًا. هناك ما ترمي إليه القصة.. والأليجوريا (الحكاية الرمزية) لا ينبغي أن تقرأ حرفيًّا. ولكن جانبا من القراء لا يملكون هذا الفهم.
- 4 –
أما اللقاء الذي جمع أديبنا الكبير نجيب محفوظ بعدد من كبار أساتذة الفلسفة ودارسيها في جامعة القاهرة، عقب حصوله على نوبل، فلم يكن أبدا لقاء عاديا، إنه من وجهة نظري أهم وأشهر اللقاءات التي تحدث فيها محفوظ بوضوح ودون مواربة عن روايته «أولاد حارتنا».
ففي هذا اللقاء الذي وصلتنا منه نسخة مصورة “رديئة”، تحدث محفوظ عن «أولاد حارتنا» وعن النظرة الفلسفية أو الرؤية الفلسفية التي تبطن أعماله، وأرجعها إلى تلك النظرة الشمولية والتفسير الفلسفي الموحد للبشرية جمعاء، ووضع تاريخ الإنسانية كلها في بوتقة واحدة، ولهذا فإن فهمها على حقيقتها وإدراك رموزها في سياقها الفني والجمالي يتطلبان من القارئ حسًّا ووعيًا وثقافة.
حينما يسأله أحدهم سؤالا طويلا مستفيضا عن «أولاد حارتنا»، ويختمه بـ”هل أنا فهمت الرواية بشكل صحيح أم كنت على خطأ؟”، سيجيبه محفوظ قائلا إنه حينما كتبها، بعد فترة توقف طويلة، لم يكن واضحًا في ذهنه أنه يريد أن يعبر عن الدين أو دوره بكذا أو العلم أثره بكذا… “كل ما هناك أن بضعة أفكار كانت في ذهني فجرى القلم بكتابتها كما ظهرت في «أولاد حارتنا»، ولم أعد إلى الرواية أو النظر فيها بشكل نقدي إلا مؤخرًا” (يقصد عقب حصوله على نوبل في أكتوبر 1988، وما تبع ذلك من حملة ترويع شرسة شنها ضده تيارات الإسلام السياسي بأجنحتها المختلفة).
يقول محفوظ إن الرؤية التي حكمته بالأساس في كتابته للرواية تتعلق بالسلطة ومواجهتها. فالفتوات هم الذين كانوا يمثلون “السلطة”، ويستخدمونها ضد أهل الحارة، وأن هناك من القيم التي يجب أن تسند العلم، فكان هدف أبناء الجبلاوي أن يعيدوا إحياء هذه القيم.
- 5 –
وقالها محفوظ صراحة في الحوار “الرواية ليس فيها حملة على الدين، ولا سخرية من الأنبياء ولا زراية بهم كما زعم الزاعمون”، وأرجع محفوظ ما سماه سوء التفاهم بين الرواية وبين بعض الشيوخ إلى “أزمة قراءة، وكيف تُقرأ الرواية.. الحكاية أزمة قراءة والله.. لا أكثر ولا أقل”.
ويتابع محفوظ بوضوح أكبر “يصح أن الرواية كانت تثير مشكلات سياسية، وقد أثارتها فعلًا بدرجة، لكن لما وجد أن هناك حاجة أقوى يمكن أن تهدمها، سكَت عنها من كان يمكن أن تثيره سياسيا، أولاد حارتنا كما كانت تخاطب على مستوى ما البشر فإنها تخاطب أيضا رجال الحكم بلا شك.
في ذلك الوقت 1959، كان هناك نشوة بانتصاراتٍ ما، فجاء واحد يقول لهم هذا هو الوقف، وهذه هي الحارة أهي، وهؤلاء هم الفتوات، وهذا المعنى فيما أعتقد لم يفت على السلطة؛ لأنه تم التلميح لي بذلك، وهل هناك أحد سيأتي ليسألني ماذا تقصد بالفتوات؟ الفتوات هم الفتوات، السؤال هنا له مغزى، لكن لما وجد رجال السلطة أن الرواية أثارت أمرًا آخر بعيدا عما سألوا عنه.. سكتوا”.. والحاذق يفهم!
ويكشف محفوظ هنا عن وعي حاد بطبيعة النوع الأدبي الذي يكتبه، ومغزى الاستدعاء المقصود لفترة تاريخية أو شخصية أو رمز، ويكشف أيضًا عن السياق السياسي الذي كتب فيه «أولاد حارتنا»، وبما يساعد على قراءتها بشكل أرحب وأنضج، لم يكن محفوظ أبدًا غافلًا عن جماليات الفن الذي يمارسه، ولا طبيعة وآليات كتابته، أبدًا.
- 6 –
وفي حدود علمي، فإن هذه المرة الوحيدة (أكرر الوحيدة) التي أفصح فيها محفوظ عن رؤية نقدية “تفسيرية” شارحة لعملٍ من أعماله بهذا الوضوح، وهذه الدقة، وهذا الحماس أيضًا، بدا محفوظ في هذا الحوار كأنه يكشف -وللمرة الأولى- كواليس وتفاصيل رواية له، وليست أي رواية، وإنما التي سيتعرض للاغتيال بسببها بعد سنوات قليلة لن تتجاوز السنوات الخمس أو الست من تسجيل هذا الحوار.
*عُمان