حنا حيمو، شاعر ومترجم سوري، يقيم في السويد
مجلة أوراق العدد 13
نصوص
“لست نادماً على الكتاب
كان عليَّ أن أكتبه أو أموت
ولم أشأ الموت”.
(أوغست ستريندباري في رسالة إلى بيهر 1883)
هذه كلمات مُواطني، ومُواطن إليزابيت كورندال، الشاعر والأديب والكاتب المسرحي السويدي الأشهر ستريندباري. الكلمات محفورة في شارع الملكة وسط ستوكهولم يقرأها كل من يمر فيه لأنها جزء من تراث البلاد الثقافي، وهي كذلك جزء من ضمير الأدباء السويديين. كان على إليزابيت أن تكتب أو تواجه الاختناق شوقاً لدمشق فكتبت أولاً مجموعتها الشعرية “البوابة الثامنة” وقد صدرت بترجمتي عن دار مسارات في الكويت، ثم تابعتْ مشروعها الشعري المسكون بهاجس دمشق المدينة، التي رأتها أولاً بعيون محمود درويش، قباني، قبل أن تزورها ثلاث مرات وتكتب عنها ديوانين من الشعر كان ثانيهما ديوانها الأخير “أنهيت الشوط.. حفظت الإيمان” الصادر عن دار موزاييك في نهاية العام 2020.
إليزابيت الشاعرة والمخرجة المسرحية تخرجت من كلية اللاهوت، وانطلقت تبحث عن روح الأمكنة والشعر في مسارح السويد والدانمارك قبل أن تتعرف على دمشق. كانت البداية حين في حوارٍ بيننا عن محمود درويش الذي غادرنا وقتها وكنا نترجم له نصوصاً للسويدية، لنحتفي به في أحد مسارح العاصمة ستوكهولم، وكان أن ترجمتُ لها حينها نص محمود درويش “طوق الحمامة الدمشقي” من ديوان “سرير الغريبة”، توقفتْ حينها عند المقطع:
“في دِمَشْقَ
تسيرُ السماءُ على الطُرُقات القديمةِ
حافيةً، حافيةْ
فما حاجةُ الشُعَراءِ
إلى الوَحْيِ
والوَزْنِ
والقافِيَةْ؟”
أغمضتْ وقتها عينيها وتمتمت: المزيد، المزيد، ودخلت إليزابيت بعدها عوالم دمشق، وبدأت بحثها عن روح المدينة في الشعر.
لم يمض وقتٌ حتى كانت تكتب أولى قصائدها عن المدينة “لم أزر دمشق” وتصرّ حقيبتها بعدها لتدخل مغامرتها الروحية والشعرية وتسافر الى دمشق.
ذهبت إليزابيت كورندال إلى دمشق وفي يدها قصيدتها الأولى عن المدينة التي لم تكن قد رأتها قبل، تقول فيها:
“لم أزر دمشق أبداً
لكن هذه القصيدة كُتبتْ في دمشق
هنا أشرب الشّعر من فنجان قهوتي
أمشي في الغوطة
أرى بردى يرقص حيّاً.”
قرأت اليزابيت قصيدتها هذه في دمشق، ثم عادت منها لتكتب تحت عنوان “لو الرّب اليوم” نصّاً صار يزين بيوت السوريين حيث كانوا:
“لو استعاد الرّب اليوم روحي إليه
لما تحسّرت على شيء في هذه الحياة
لقد رأيتُ دمشق”.
بعد هذا تكررت زيارات إليزابيت للمدينة ثلاث مرات قرأتْ فيها أشعارها بترجمتي، فاحتضنتها المدينة وأهلها وصارت تجد نفسها فيها. ذهبت اليزابيت الى دمشق شاعرةً وعادت عاشقة.
خلال عشر سنوات تابعت اليزابيت عملها لتكون جسراً للثقافة بين السويد ودمشق. توالت الكتب والترجمات حتى صدور كتابها الثاني الذي بدا متأثراً بما يعتري روح دمشق. حافظت إليزابيت خلاله على انتمائها لروح المدينة رغم حزنها على الدماء التي سالت في أزقتها، ذلك الحزن الذي أدمى قلب إليزابيت حتى احتاج لعملياتٍ جراحية أقعدتها حبيسة الفراش والبيت مدة خمس سنوات.
في إهدائها للديوان الثاني تقول:
أشعر بالامتنان لشفيعتي الحاضرة دوماً لنجدة قلبي، دمشق
وشفيعي القديس بولس الذي تماماً مثلي وجد قبساً ينير قلبه في هذه المدينة الأم.
كانت هذه القصيدة محور الديوان حين تقول:
حدّثني عن البوابات
عن غيمة الكمّون المطحون توّاً
عن ضوع العود
والعنبر
وعلب الموزاييك يلمّعها الأطفال في الأزقّة
حدّثني عن جرار الخزف المملوءة ماءً
عن شجر التين وخوابي الزيت والنبيذ
حدثني عن الأرض
الأرض التي تحول فيها شاوول الى بولس
عن أناس بردى
حدثّني ثانيةً عن دمشق.
تميزت إليزابيت بروح الشعر السويدي الكثيف والمركّز، فكان طبيعياً نقل هذه الروح إلى العربية. لم أجد صعوبةً في إخراج صوتٍ عربي لإليزابيت وأنا ابن الثقافتين الشعريتين، العربية والسويدية، فقد طبعت روحها الشفافة وتقنيتها البسيطة السهلة والعميقة على صوتها لتخرج قصائد بتجربة جديدة لا تهتم للترجمة وإنما لخلق روح النصوص بعربية كأنها كتبت بها.
اختصرت أخيراً إليزابيت شوقها لدمشق، التي انتمت لروحها، بأن كتبت في مقدمة ديوانها الأول “البوابة الثامنة” عن بوابات دمشق القديمة توصي ما تحسه غاية طريقها ومكانها: ” دمشق، في ترابكِ أريدُ أن أُدفَنَ يوماً”.