إشراقات أدبية كردية

0

خورشيد شوزي، ناقد وشاعر وكاتب صحفي من مواليد 1950، قامشلي. نشر خمس مجموعات شعرية، وثلاث كتب نقدية، وعدد كبير من الأبحاث والدراسات، إضافة لثلاثة كتب قيد الطباعة.

مجلة أوراق العدد 13

الملف

استهلال

لكل شعب ثـروة أدبية، والكرد من الشعوب التي سـاهمت في إغناء التراث الأدبي الإنسـاني القديم والمعاصر، وقد اختلف الباحثون في تقديرهم للفترة الزمنية التي بدأ الأدب الكردي فيها بالظهور والازدهار، فمنهم من يقول أنها بدأت من كتاب زردشـت “آفيسـتا” الكتاب المقدس الكلاسـيكي للأدب، ومنهم من اكتشـف ألواحاً في كهوف كردسـتان، تحمل إحداها قصائد للشـاعـر الكردي “بورا بوز” وذلك حوالي 330 – 320 ق.م، ومنهم من يقول بأن أشعار “بير شلياري” المنظومة باللهجة الهورامانية تحت عنوان “وصايا” تعود إلى فترة سابقة لنزول الوحي القرآني.

وإذا علمنا بأن الأدب الكردي والشعر منه خصوصاً، كانا خير وسيلة للتعبير عن نفسه ضد الظلم والقمع، حينها نكون مقتنعين، بأنه لابدَّ من وجود أدب قومي وشعر قومي كردي منذ تلك الأزمنة لمقارعة الظلم الواقع على كردستان وشعبه، فالشعر كان وسيلة لمقارعة الظلم من جهة، ولوصف جمال الوطن وإعلاء شأنه من جهة أخرى.

وهناك علامات وإشارات واضحة في الكتب التاريخية الكردية الأولى، على وجود أدب قومي بين الكرد في تلك الأزمان والعصور، وفي كتاب “الشرفنامه” تحديداً، ولكن المؤرخ” شرفخان البدليسي” مؤلف “الشرفنامه” لم يذكر أسماء أولئك الأدباء والشعراء في كتابه.

والكتاب التاريخي الذي يحوي العديد من الومضات الأدبية والثقافية العلمية وحتى الشعرية، هو كتاب “سياحة أوليا چلبي” الرّحالة العثماني الذي تجول في كوردستان في العام 1655م. فقد وصف مدنها وسكانها وحضارتهم وثقافتهم، وأشاد بأدبائهم وشعرائهم، وذكرهم بالأسماء، ولكنه لم يضمِّن كتابه نماذج من أشعارهم، واللغة التي كانوا يكتبون بها الشعر، وبأية مسائل فكرية وثقافية ودينية كانوا منشغلين؟!.

تحدث أوليا چلبي بإسهاب عن الأمير عبدال خان البدليسي، ووصفه بأجلّ الصفات وأبهاها، مثل كونه خبيراً وعالماً باللغة لا نظير له، فيقول: “الكبير جناب عبدال خان، رجل شاعر وبليغ وأديب وكاتب”، وتحدث عن مكتبته الفاخرة، قائلاً: كانت مكتبته تتألف من أحمال سبعة جمال.. 10 مجلدات من تأليف عبدال خان الشخصية، وأكثر من 76 مجلداً من الكتب الفارسية والعربية والتركية، و150 كراسةً متنوعة معظمها كانت باللغة الفارسية. ولكن مما يؤسف له أن هذه المكتبة نهبت وأحرقت من قبل السلطات العثمانية كما ذكرها أوليا جلبي.

الكرد والأدب

إن التراث الأدبي المدون للشـعب الكردي قليل، ولكنه غني، ويمكن تحديد هذا التراث الأدبي بالفولكلور والأدب الشـعبي والأدب الكلاسـيكي، وهذه الآداب هي نتاج عصور تاريخية مختلفة متداخلة متفاعلة، لأن هناك ترابطاً إيديولوجياً بين الماضي والحاضر، وإن أساس الإبداع الحضاري الحاضر هو من نتاج الماضي، وإن ذكـر الماضي بكل معانيه من أفراح وأتـراح وآلام يؤدي إلى اسـتنباط الدروس والعبـر منها، وبالتالي يـؤدي إلى تـطور الفكـر الإبـداعي للإنسان المعاصر.

يقول مكسـيم غوركـي: “إن أسـاس الأدب يكـمن في الفولـكلور لأنه المادة الخام الكـبرى، والينبوع لجميـع الشعراء والكتاب، وإذا اسـتوعبنا الماضي جيداً فسـيكون إبداعـنا الحالي رائعـاً”.

ويقول جيرينسفسكي: “إن شـعر الناس قد حفظ لهم أغاني حياتهم وتاريخهم وتقاليدهم”.

ينطبق هذان القولان على الأدب الكردي، وذلك من جهة أن الفولـكلور والأدب الشـعبي قد حفظا الكـثيـر من مظاهـر الحياة الكردية، وصور نضاله الدؤوب، وملامح علاقاته الاجتماعية، وبيَّـن صفات هذا الشـعب ومزاياه في الصدق والشجاعة ووقائع حياته المريرة، وبالتالي وضّح فلسـفة هذا الشـعب في الحياة. ولكن ما يؤســف له هو أن القسم الأكبر من هذا الموروث الثـقافي والاجـتـماعي لا يزال شـفويـاً معرضاً للضياع والسـرقة من قبل لصوص التاريخ والأدب.

يقول باسـيل نيكيتين المسـتشرق الروسـي: “إن الأدب الكردي يمثـل في الفولكلور بالدرجة الأولى، وإننـا لا نجد في ذلك بقايـا وتراث الأجيال والأجداد في الماضي فحسـب بل إنه يـبرهن على القدرة على الحياة عند هـذا الشعب … ويستطرد قائلاً: يمتلك الكرد حياة ثقافية ثـرية مسـتمدة من الفولكلور والتاريخ والأديان، وتراثاً أدبياًمن الشـعر والقصص، ويلخص اللاوك (نموذج من ألوان الشعر الكردي) مزاج الكـرد المعجب بالعشــق والبطولة والنبل والفروسـية”.

أما المستشرق الفرنسي البروفيسور الأب توماس بـوا، فإنه يقول عن الأدب الكردي: “إنه أدب غني وغزير، وأن غناه ووفرته يبدو جلياً في الفولكلور الشعبي المكون من الأمثال، والأقوال المأثورة، والألغاز، والأحاجي، والأغاني، والقصص النثرية والملحمية البطولية، وإن واقع الإنسان الكردي يميل إلى تنميق الكلام، فيسـلك طريق السـجع، والإيـقاع الذي يوحي بإحساس عميـق بالملاحظة سـواءً في وصف مشـاهد الطبيعة، أو الأعمال اليوميـة التـي يقوم بها، أو الحيوانات الأليفة التي يربيها، أو الوحوش التي يصطادها”. 

إن الملاحم والأساطير التي حدثت فيما مضى تحدثت عن الوقائع السالفة الذكر، وكانت إبداعات فـنـية بينـت درجة الإبـداع الحضاري للأمـم التي أنتجتها، ويشار هنا بصورة خاصة إلى الملاحـم والأساطير في الحضارات: الفرعونية والإغريقية والرومانية وحضارة وادي الرافدين، وغيرهـا من الحضارات التـي دونـت من قبـل المهتمين بها؛ أما بالنسبة إلى النتاج الأدبي الكردي القديم فقد تعرض للنسيان والتغييب القصدي من قبل أولئك الذين أرادوا إلغاء الدور الحضاري للكرد عبر هذا التاريخ، هذا رغم الأدلة الأكيدة التي تبين مدى إسهام الكرد في الحضارة العالمية خاصة في المراحل القديمة منها؛ فقد تمكن العالمان الأثريان “فنكلـر و هرتزوي” من خلال اكتشافاتهما الأثرية أن يثبتا وبالدليل القاطع وجود هذه الحضارة بالقرب من السليمانية في قرية “تل جرمو” وهي التي تعتبر من أقدم القرى الحضارية في ذلك الوقت عند الشعب الكردي. 

إلا أن الاضطهاد القومي المريع الذي تعرض له الكرد عبر التاريخ أدى إلى فقدان الكثير من التراث الكردي بوجهيه الشفاهي والكتابي، والأمر الذي تجدر الإشارة إليه في هذا السياق هو أن هناك شبه إجماع بين المؤرخين الأجانب والكرد على أن العقبة الرئيسة التي حالت دون تدوين تاريخ الكرد القديم هي قلة التنقيبات الأثرية التي جرت في كردستان، قياساًإلى المناطق المجاورة لها، ومع ذلك فإن بعض التنقيبات التي جرت في فترات زمنية متباعدة في كردستان رغم قلتها قد كشفت عن حقائق مدهشة، منها على سبيل المثال لا الحصر أنه في ربـوع كردستان تعلـم الإنسان الزراعة، ودجّن الحيوان، وبنى الأكـواخ والمسـاكن البدائـية التي أدت إلى نشـوء القرى الزراعية ومراكـز المدن.

رغم قدم الأدب الكردي وغناه بنصوص إبداعية كثيرة يضاهي بعضها عيون الآداب العالمية، ظل هذا الأدب لأسباب ذاتية وموضوعية وقسرية مغـيباً، ومن أهم أسباب التغييب: “عدم وجود لغة أدبية موحدة، وعدم وجود دولة كردية موحدة لأجزاء كردستان، وقـلة التـرجمة المنظمة من وإلى الكردية، ثم قلة المعاجم الضرورية إلى جانب النقص في ميدان الدراسات الأدبية المعمقة والشاملة الشافية التي تغطي تاريخ الشعب الكردي”.

إلا أن ذلك كله لا يدفعنا نحو تجاهل أو نسيان الدور المهم للعديد من الجهود الباحثة الجادة التي استهدفت بيان أهمية الأدب الكردي وريادته الإبداعية، وهنا لابد من التوقف عند الأديب والمؤرخ الكردي محمـد أمين زكي (1880 – 1948) م لأنه يعتبر أول مؤرخ في العصر الحديث حاول وبصورة علمية دراسـة الجذور التاريخيـة للشـعب الكـردي، ففي عام 1931م أصدر مؤلفه الشـهير “خلاصة تاريخ الكـورد وكوردسـتان” والذي يعتبـر من قبـل الكثير من الباحثين ثاني أهم مرجع في تاريـخ الكرد بعد كتاب “الشرفـنامة” للمؤرخ الكبير شـرف الديـن البدليـسي (الذي يعد أول  كتاب  عن تاريخ الإمارات الكردية بالـلغة الفارسـية، وقد ترجمه إلى العربية الباحث والأديب الكردي محـمد علي عوني).

بمجيء الإسلام أصبح الأدب العربي هو الأدب الرسمي للشعوب الإسلامية، وعندما عادت هذه الشعوب إلى الاهتمام بلغـاتهـا القوميـة واسـتعمالها كلغـة أدب بقـي للأدب العربي أثره الواضح على الكثـيـر من الشعراء الكلاسـيكيين الكرد، والكثير منهم نظموا قصائدهم بخليـط من اللغات التي كانوا يتـقـنـونها إلى جانب اللغـة الكردية، وهي العربية والفارسـية والتركية، وذلك في قالب أدبي فريد ومنسـق.

العشق والمحبة للوطن

إن من مظاهر عشـق الكرد لموطنهم الجميل وطبيعته الساحرة أنهـم يسمون أبناءهم (عدا الأسـماء الدينية، وأسـماء أبطالهم وملاحمهم) ولا سـيما بناتهم، بأسـماء الورود والأزهار والقرى والأوديـة والجبـال التي تضمها بلادهم كردسـتان التي يبقى اسمها الاسم الأثير المقدس في وجدان كل كردي. 

وهذا ما يؤكد من جهته أن الأدب الكردي جزء من الأدب الإنسـاني، يسـيـل رقـة ويفيـض عاطفة، ويـزهو جمالاً، ويرسـم فيه الخيال صوراً رائعة عن الواقع، تقرأها الأجيال حكماًمنيرة وأنغاماًساحرة، ومعاني رائعة، مستوحاة من بيئتهم الجميلة، لأن الكرد يهيمون بحب كردستان التي يـكاد جمالها يفوق أجمل بقاع الأرض، فهي مناطق جبلية شـاهقة يـكاد الثـلج لا يبارح هاماتهـا طوال أيام السـنة، وأن روافد دجلة والفرات والزابـيـن تسـتمد مياههـا من أواسـط كردسـتان، وعندما تمر هـذه الروافـد عبـر الممرات الجبلية والوديان، فإنهـا تكـون فسيفساء رائعة الجمال، بألوانهـا الزاهية، وثمارها اليانعة، ونسيمها العليل.

إن الأدب الكردي الشـفاهي (الفولكلور) حفظ عن ظهر قلب، وانتقل من شخص لآخر، ومن جيـل إلى جيـل، وكانت مجالس كبار القوم المكان الذي تجود به حناجر الشعراء والمغنين، فكان لهم الفضل في تخليد وإغناء التراث الأدبي للكرد.

يقول المفكر والباحث الأرمني أبو فيان عن الفولكلور الكردي:

“تكمن روح الشـاعرية في أعماق كل كـردي، وحتى عند الشـيوخ الأميين منهم، إنهم جميعاً يمتلكون القدرة والموهبة الغنائية، ويغنون ببساطة وهدوء لوديانهم، وجبالهم، وشـلالاتهم، وأنهـرهم، وورودهـم، وأسـلحتهـم، وخيولهـم، يغنون للشـجاعة ولبناتهم الحسـان، وكل ذلك يتدفق من أعماق مشـاعرهم وأنفسـهم”.

لقد كانت الملاحم، والأسـاطير الكـردية، والمعارك القتالية القبلية، والانتفاضات تُسـرد من قبل شـعراء الغناء أصحاب الصنعة الفنية، حيث يقومون بسـرد القصة نثـراً في البداية مع التعـريف بشـخصياتهـا، ثـم يحوّلون القصة إلى شـعر غنائي تجود بها حناجرهـم، والأشعار الغنائية لم تقتـصر فقط على أغاني الحرب (شَرْ- Şer)، بل تنوعت مابين أغاني الرقص (ديلوك- Dîlok)، وأغاني الحب (لاوِك- lawik)، وأغاني الترتيل الديني (بيلوته-Bêlute)، وأغاني الإنشاد الجماعي (بيريته- Bêrîte).

المرأة في المجتمع الكردي    

يقول باسـيل نيكيتين: “يعتبر الكرد أكثر الشـعوب الإسـلامية تفتحاًفي موقفهـم من المرأة، وتساعد المرأة في الأعمال المكملة مثل معالجة الحليب لاستخراج الزبدة، وإعداد الجبن، وجلب الماء ونقله إلى المراعي، وجمع الحطب، والعناية بالأطفال، وتشـارك النسـاء في مجالــس الرجال، ويسـتمع إلى رأيهن، ولا وجود للبغاء بيـن الكرد حتى إن الكلمة غير واردة في اللغـة الكردية، ويتعارف الفتيان والفتيات قبـل الزواج في مواسم العمل والاحتفالات، وينـدر تعدد الزوجات في المجتمعات الكردية، وتزعمت النساء في حالات كثيرة رئاسة القبيلة”.   

وتـقول الكاتبة البريطانية آغاثا كريستي في وصف المرأة الكردية: “النساء الكرديات حسناوات مرحات يرتدين الحلل البراقة، ويعصبن رؤوسهن بمناديل صفراء برتقالية، أما ثيابهن فخضراء وأرجوانية وصفراء، وهن فارعات الطول يمشين بقامات منتصبة ورؤوسهن شامخة من فوق أكتافهن مائلة إلى الخلف، وتظهر عليهن مخايـل الزهـو والترفع والإباء، ولهن وجوه برونـزية، ووجنات حمراء، وقسـمات متسـقة، وعيون زرقاء على الأغلب”.

أما الهدهدات الغنائية للأمهات لأطفالهـن، والتي هي من نظم الجدات الأوائل، فكانت تبعـث في الدار الحنان والعطف والمحبة، حتى لتجعـل الأب القاسـي حانياً رقيقاً حينما يسـمع هدهدات زوجته لرضيعها، وهذا دلالة واضحة على الترابط والحنو الأسري عند الكرد، حيث إن المرأة الكردية ملكة مصونة عند الشعب الكردي، فهي تدير شـؤون المنزل بوجود الرجل أو بعدم وجوده، وتسـتقبل الزوار، وتشـارك في الأعيـاد والمناسـبات الوطنيـة، والأفراح والأتراح، جنباً إلى جنب مع الرجل، ولذلك كان لها نصيب كبير في الأدب الكردي.

المرأة الكردية والأدب

تتمتع المرأة عموماً بخلطة سحرية لم تستطع الدراسات العلمية الاجتماعية والنفسية كشف النقاب الكامل عنها، وإذا ما توفرت لها فرصة امتلاك القيادة والحكم فإنها تبدع فيهما. يعتقد بعض علماء الدراسات النفسية والفيسيولوجية إلى أن الأدوات الأساسية لنجاح المرأة هو تحليها بالحكمة والتروي أكثر من الرجال الذين يغلب على أكثرهم الحدة في التعامل، ولذلك فإن المرأة تستطيع التعامل بقدر أكبر مع المشاكل وحلها، كما أن أنوثتها وحضورها يفرضان احتراماً مغايراً للرجل داخل المجتمعات، بالإضافة إلى غريزة الأمومة التي تدفعها إلى الخوف على أبنائها فتبعدهم قدر المستطاع عن الحلول السلبية التي قد تشعل حروباً.

ويرى البعض الآخر، أن قدرة المرأة النفسية والعقلية لا تختلف عما لدى الرجل، وأن العنف الذي مارسته بعض النساء الحاكمات كان شديداً كـ “مارغريت تاتشر” رئيسة الوزراء البريطاني في الثمانينيات. ولذلك فإن غالبية الدراسات تشير إلى أن المرأة ليست أكثر أو أقل عنفاً من الرجل، وإنما هي تهضم بعقلها ووجدانها التفاصيل الصغيرة وتصنع منه عالماً كبيراً. 

في تاريخ الشعب الکردي القديم برزت بعض النساء اللواتي کنَّ کالّلبوات، لمع صيتهن کالنجوم في سماء عصرهن، وورد ذکرهنَّ في كتابات ومذكرات المستشرقين والمؤرخين وعند أعلام الکرد أيضاً، وکانت کلّ واحدة منهن رائدة في زمانها قامت بکسر النظام السائد وأصبحت نموذجاً للتحرر والعطاء والطاقات المبدعة.

ومع أنه في ذلك الحين الذي برزت وعاشت فيه تلك الفتيات والنسوة، کان من المستحيل أن يكون للأنثى دور طليعي وخارج عن المألوف، لوجود القيود والحواجز الاجتماعية المفروضة من قبل المجتمع الذكوري والتي مازال الکثير منها مستمرة حتی الآن، لهذا برزت تلك النساء، وکانت لأعمالهن أصداء قوية وانعكاسات علی تاريخ الأنثى في العالم وكردستان ودورها في أحداثه.

القصص والحكايا والميثولوجيا عند الكرد

استهلال

ذكرت سابقاً أن التراث الأدبي المدون للشـعب الكردي قليل ولكنه غني، ويمكن تحديد هذا التراث الأدبي بالفولكلور والأدب الشـعبي والأدب الكلاسـيكي، وهو ينتمي إلى عصور تاريخية مختلفة مترابطة فيما بينها، وهذا معناه أن أساس الإبداع الحضاري الحاضر هو من نتاج الماضي، وأن ذكـر الماضي بكل معانيه من أفراح وأتـراح وآلام ضروري لاسـتنباط الدروس والعبـر منه، الأمر الذي يؤدي إلى تـقدم الفكـر الإبـداعي للإنسان المعاصر. 

كان الكثير من الكرد رعاة أغنام، وبصحبة تلك الحيوانات الأليفة الوديعة التي لا تأخذ إلا القليل وتعطي الخير الوفير، كانت تتاح لهـم فترات من طول التأمل في جو فسيح ليـس له حدود. هذه المهنة تظهر آثارها في الأدب الكردي، ولا سـيما في الحِكَم والأمثال، وكذلك في الأساطير ذات الطابع الرعوي.

وبما أن الأمثال أقرب أنواع الأدب إلى النفـس الإنسانية، لأنها منتزعة من واقع الحياة من دون إضافات، وهي من جوامع الكُلَم ذات المعاني الغزيرة والألفاظ القليلة، فإن الأمثال الكردية غزيرة ومعبـرة عن حياة الكرد وبيئتهـم، وبعضها يشـير إلى إحساس مرهـف، واندماج بالمناظر الطبيعية والنشاطات اليومية، ومواقف الحيوانات التي يعيشـون معهـا، لذلك فإن الكـرد مغرمون بقصص الحيوان في أمثالهم وأشـعارهم، التي دائماً ما تحتوي على فضيلة أخلاقـية تصف وضعاً معيناً أو علاقة بين أفراد المجتمع، وهي بمجملها تقدم الواقع والنصيحة معاً.

استطاع الكثير من المثقفين الكرد خلال القرنين الماضيين، مع المساهمة الفاعلة من جانب بعض الباحثين المستكردين، والمستشرقين من الروس والألمان والأرمن، تدوين جزء ضخم من التراث الشفاهي للشعب الكردي، ومن هؤلاء الباحثين من بلغ به الإعجاب بالفولكلور الكردي مبلغاً عالياً، مثل الأديب الأرمني أبوفيان حيث قال: “خطا خطوات رائعة، وبلغ الكمال اللازم .. ويتابع قوله: إن كل كردي ذكراً كان أم أنثى هو شاعر بفطرته، فالكرد يتغنون ببساطة خالية من التعقيد بوديانهم وجبالهم، بشلالات المياه والجداول والسواقي، بالأزهار والسلاح والخيل والمآثر الحربية، بجمال وفتنة فتياتهم الحسناوات، يتغنون بكل شيء تبلغه مشاعرهم وتدركه مفاهيمهم”.

إن الأدب الكردي المدوَّن ترقى بواكيره إلى مطلع القرن التاسع الميلادي، ويبدأ من عند شاعر كبير ومتصوف شهير يسمى بابا طاهر العريان (935 – 1010) م، والذي ألف رباعيات جميلة في الشعر الكردي باللهجة الكورانية، ما أدى إلى اختلاف المؤرخين الكرد والفرس حول هويتها، لكن معظم الباحثين الأجانب أكدوا كردية الرباعيات، حتى أن المستشرق الألمانيأوسكار مان قال أن المدونين الإيرانيين خلال طبع هذه الأشعار أدخلوا العديد من المفردات الفارسية فيها، وأنهم نسبوا مقطوعات مزيفة لها… وهذه أبيات من شعره:

إذا وصلت يداي إلى فلك الدهر 

سأسأل هناك، كيف هذا وكيف ذاك؟

أعطت واحدهم مئات النعم

ومزجت للثاني قرص الشعير بالدم.

أما الشعر الكردي، المدون باللهجة الكرمانجية الشمالية- لهجة كردية قديمة – فلا نملك أسماء أقدم من الشاعر علي الحريري (1009م-1077)م.

أما بداية الأدب الكردي الحقيقي، والمدون باللهجة الكرمانجية، بحسب ما ذكره الأمير شـرف خان البدليسي في “شرفنامة“**، فكان في القرن الخامس عشر الميلادي، وأول شـاعر كردي نظم الشـعر باللهجة الكرمانجية هو الأميـر يعـقوب بن محـمد حمزة الزركي، والـذي تسـلم مقالـيد الحكم في منطقة ماردين العام 1544م، لكن غالبية الباحثين والمستشرقين والمتتبعين للأدب الكردي يتفقون بأنه بدأ مع أشعار ملا احمد جزيري، وبالتالي يعتبر تأريخ مولده وحتى منتصف القرن الثامن عشـر مرحلة جيل الـرواد الأوائـل المبدعين من أمثال: ملاي جزيري، وفقي تيران، واحمدي خاني، وملا احمد باتيي، وعلي ترموكي، وملا محمود بايزيدي وغيرهم…

هذا ما يتعلق بالأدب الكردي الشمالي (الكرمانجي)، أما الأدب الكردي الجنوبي (السـوراني) فقد بدأ في أوائل القرن الثامن عشر الميلادي مع جيل الرواد الأوائل المبدعين من أمثال: مولانا خالد النقشبندي، ملا خضر بن احمد (نالي)، وعبد الرحيم مولوي، وحاجي قادر كويي .. وغيرهم.

الموروث الثقافي المتشابه عند الشعوب

ثمة تشابه في الموروثات الثقافية لدى شعوب كثيرة، وخاصة التي تنتمي إلى أرومة واحدة، من حيث العرق أو العقيدة، وهذا لا ينفي بعض التشابه بين الموروثات الثقافية لغالبية الشعوب في كرتنا الأرضية، والكثير من هذه التشابهات لا يعرف مصدرها الأولي.

ويهمني هنا أن أورد جزء من الموروث الثقافي الكردي، ومقارنته بالموروث الثقافي لدى شعوب أخرى من خلال بعض القصص الملحمية والشعرية التاريخية والدينية والاجتماعية.

إن الأدب الكردي كغيره من الآداب العالمية يعتبر المرآة العاكسة لمختلف الجوانب الفلسفية والروحية والدينية والاجتماعية التي مر بها الشعب الكردي، ولعل مواضيع الحب لها الأهمية الكبرى في الأدب ما دامت الحياة تستمر بوجود المرأة والرجل، وما يرتسم في قلبيهما من عواطف وأحاسيس جاذبة أو نافرة، حلوة أو مرة، صادقة أو مزيفة. 

إن مواضيع الحب التي وردت في الأدب الكردي تناولت حوادث واقعية وإن شابها شيء من الخيال والتصوير البارع، فهي لإضافة الإثـارة والجاذبية إلى هذه القصص، وغالبيتها ليسـت من وحي الخيال، فالقصص التراجيدية الكـردية هـي قصص ملحمية واقعـية، وإضافـة القليـل من الخيال إلـيها هي نتيجة لتناقـلها عبر الأجيال أو نتيجة جنوح فكر بعض الأدباء لتصبح رمزاً، فهي جرت فعلاًعـلى أرض الواقع، وليست من وحي الخيال مثـل أسطورة “جلجامـش” في حضارة مابين النهرين، وأسطورة “إيزيس وأوزوريس” في حضارة الفراعنة، وأسـطورة “الإلـيـاذة والأوديسة” في حضارة الإغريق.

القصص والحكايا والميثولوجيا

لكل شعب قصصه التي تمثل جانباً من المنظومة الأخلاقية لمجتمعاته، وتتحول مع مرور الوقت إلى جزء من هويته، وتمثل هذه القصص نتاج هذا الشعب من ألوان وأجناس الفنون والآداب، ومن خلالها نتعرف على سيكولوجية هذا الشعب، فالعلاقة بين الرجل والمرأة أبطال هذه القصص من خلال مواقفهما وتضحياتهما، تظهر بصورة جلية مظاهر ومقومات الحياة لدى أفرادها، وممارستهم للمزايا والقيم والنوازع الإنسانية.

فأدب أية أمة يمثل جزءاً من هويتها، حيث يبرز بين سطور هذا الأدب مزايا وخصوصيات هذه الأمة، ومن خلال تقديمنا لبعض القصص أو الحكايا أو الميثولوجيا الكردية بشيء من التحليل سنتعرف على التراث الغني لهذا الشعب، والروح الشاعرية لديه، وحبه لأرضه بما يحتويه من الجبال والوديان والأنهار والأشجار، والرقصات والأغنيات والأشعار، والتي تمثل جزءاً من تراث هذه الأمة وجانباً من معالم هويتها.

فالحكايات والقصص الميثولوجية موجودة لدى شعوب الأرض قاطبة، وهي متنوعة الأهداف والمرامي، وانتقلت من جيل إلى جيل شفاهاً وتدويناً، وهنا سأعالج بعضاً من ملاحم الشعب الكردي، لأن الكثير من الملاحم الدرامية والأخلاقية والقتالية والبطولية للشـعب الكردي في جميع أرجاء كردسـتان، قد تـم تدوين البعض منها، وأما البعض الآخر منها فقد انتقل من جيل إلى جيل عن طريق الأشعار الغنائية الـتي تصف أحداثها، وشخصياتها، ونتائجها.

إن ظهور الرواية الشعرية (المنظومات القصصية) المدونة كانت إبّان القرن السابع عشر الميلادي، وبكلتا اللهجتين الأدبيتين السائدتين (الكَورانية والكرمانجية)، ولكن تبقى ملحمة “قلعة دم دم” التي جرت من 1608م إلى 1610م، من أعظم الملاحم القتالـية والبطولـية التي تصف المعارك بـين عشائـر برادوسـت الموكرية بقيادة أمير خان يك دست (ذو الكف الواحدة) وسـمي أيضاً أمير خان لب زيرين (ذو الكف الذهبية) وبين قوات شـاه إيران عباس الصفوي المدعومة بمرتزقة القزلباش الأذرية.

هذه الملحمة قدمت صوراً خالدة في الشجاعة والاستبسال للمدافعين الكرد الذين كبّدوا قوات الشاه الغزيرة عدداً وعتاداً خسائر بشرية جمة، وسطّروا بدمائهم الزكية إلى آخر قطرة صفحات بطولية في سـبيل تحرير أرضهم، وعدم الرضوخ إلى الذل والهوان تحت إمرة الأجنبي المستبد.

توجد روايات فولكلورية عديدة لهذه الملحمة سجلها الباحثون والكتاب الكرد أنفسهم، كما توجد معالجات أدبية عدة عن هذه المعركة شعراً ونثراً، وكان المستشرق الروسي الكسندر زابا سباقاً إلى تسجيلها، حيث نشر أول ملحمة شعرية عن هذه القلعة الصامدة في عام 1860م في بطرسبرغ، ونسبها إلى فقي طيران، لكن المستشرقة رودينكو فندت ذلك اعتماداً على الفترة الزمنية التي عاش فيها فقي تيران، والفترة الزمنية التي جرت فيها أحداث القصة.

ومن هذه الروايات التي تحكي ملاحم وقصص تراجيدية وبطولية، نذكر:

ملحمة ماندانة، وملحمة شيرين وفرهاد، وملحمة أمير بوتان، وملحمة زمبيل فروش، وملحمة خج وسيامند، وملحمة مم وزين، وملحمة قلعة دمدم.

ملحمة الأميرة الميدية ماندانة

دام حكم الملك “كه ى خسار” 40 سنة للميديين (768-550) م، وبعد موته خلفه ابنه آستياخ الذي ولدت له زوجته الليدية طفلة سماها ماندانه… رأى آستياخ في أحد أحلامه طفلته مندانه يسيل منها ماء يطغى على عاصمة بلاده آكباتانا ويمتد ليشمل البلاد الآسيوية كلها، فقام مذعوراً من حلمه، وجمع كل السحرة ومفسري الأحلام في مملكته الميدية، وطلب منهم تفسير حلمه. وكان تفسيرهم بأن لا يزوّج ابنته من أي أمير من قومه. فبحث لها عن عريس من بيت فارسي مسالم، ووقع اختياره على قامبيس وهو ابن عائلة متوسطة الحال.

بعد عام من زواج ابنته رأى آستياخ في الحلم كرمة عنب تنبت من حضن ابنته، وتمتد لتغطي كل البلدان حول مملكته… وفسر له السحرة الحلم بأن ابنته ستلد من يدمّر دولته. فصمم على قتل الطفل الذي ستلده ابنته ماندانه، ذكراً كان أم أنثى… أنجبت ابنته ولداً سمته (كه ي روش)، فدعا الملك وزيره هارباخ المقرب إليه، وطلب منه التخلص من حفيده، ودفنه بما يراه مناسباً لحفيد ملكي، ودون أن يراه أحد، وحذره من مخالفة أمره.

أخذ الوزير هارباخ الوليد وألبسه ثوب الموت المرصّع بالمجوهرات، وحمله وسط الدموع إلى بيته حيث أخبر زوجته بالأمر الملكي الصادر إليه، فسألته زوجته: “وماذا تريد عمله الآن؟” فأجاب بمرارة وحزن: “لن أنفذّ أوامر الملك، لأن الطفل بريء وهو من أقربائي، فكيف أقتل قريباً لي؟

أرسل الوزير خبراً إلى أحد رعاة الملك واسمه “ميتراداد” الذي يعيش مع زوجته “كه ي نو”، وكان يرعى الأبقار الملكية في الهضبات العليا البعيدة، بأنه سيرسل له طفلاً، وعليه أن يقتله بسرعة وبدون أن يرى ذلك أحد غيره. وإلا فإنه سيلقى وزجته وأولاده مصيراً قاسياً حسب أوامر الملك، وأنا مسؤول أمامه عن تنفيذ أمره الملكي.

في عين الوقت كانت زوجة الراعي حامل، ووضعت طفلاً ميتاً، وعندما أزاحت الوشاح عن الطفل لتراه طفلاً كبير الجسم وقوياً، نظرت إليه وبكت ورمت بنفسها عند قدمي زوجها متوسلةً إليه أن لا يؤذي الطفل، ونصحت زوجها بأن يدفن طفلهما الميت، وأن يعتنيا بالطفل الملكي كأنه ولدهما، فلا يشك أحد في طاعة الراعي للوزير هارباخ وتنفيذه أمره بالقتل… وهكذا تم دفن طفل الراعي والراعية في ثياب دفنٍ ملكية وعاش الطفل (كه ي روس) حفيد الملك الميدي آستياخ في بيتٍ من بيوت الرعاة في الجبال.

بعد عشر سنوات كان الولد “كه ي روش” يلعب في القرية مع أقرانه، فاختاره الأولاد ملكاً لهم في اللعب، فأمر بعضهم ببناء البيوت الطينية والآخرين بالحراسة، واختار أحدهم “عيناً للملك” أي جاسوساً، ولم يبقَ ثمة ولد إلاّ وكلّفه بمهمةٍ ما. إلا أن ولد أحد الميديين الذي كان معروفاً باسم آرتمبار رفض الإذعان لملك اللاعبين “كه ي روش”، فأمر الملك الصغير الآخرين بالقبض عليه وراح يجلده بالسوط، فلما تركوا ذلك الولد الذي كان حانقاً للغاية، ركض عبر القرية إلى أبيه يشكوه جلده بالسوط من قبل ابن الراعي.

أخذ أرتمبار ولده غاضباً وذهب إلى الملك آستياخ ليشكو أمر ابن أحد رعاته، فقال آرتمبار:

أيها الملك العظيم! إن عبدكم وابن راعٍ من رعاتكم قد فعل هذا بولدي، وأراه آثار السوط على ظهر ولده… استدعى الملك الراعي وولده ليعاقبهما على ما فعله ولده بولد آرتمبار. فلما امتثلا بين يديه قال الملك لولد الراعي: إذاً أنت يا ابن البسطاء فعلت ما فعلته بابن أحدٍ ممن رفعتُ قدرهم!… فأجابه الغلام.

أيها الملك! هذا ما استحقَه الولد العاق، حيث إن أبناء القرية الذين كان هو من بينهم قد نصبوني أثناء اللعب ملكاً عليهم، إذ وجدوا فيّ ما يؤهلني لذلك المنصب، وكلهم أذعنوا لأوامري إلا هو فلم يطعني ولم يحترمني فاستحق الجزاء، فإذا رأيتَ أنني مذنب على ما أمرتُ به، فها أنا بين يديك.

شكّ الملك في أمر الولد، خاصة وأن ملامح وجهه تشبه ملامح الملك نفسه، فرجع آستياخ بذاكرته إلى ما قبل عشر سنوات، حيث سلّم حفيده إلى الوزير هارباخ بغية التخلّص منه، فعصفت الوساوس بقلبه، وأطرق واجماً بعد أن لمعت في عقله فكرة بقاء حفيده حياً، واستجمع قواه وقال: يا آرتمبار! خذ ولدك واذهب، فأنا سأفعل ما يرضيك ويرضي ولدك.

طلب الملك من حجابه أن يأخذوا (كه ي روش) إلى جناحٍ معين في القصر، ولما بقي لوحده مع الراعي سأله من أين أتى بهذا الغلام، فادّعى الراعي بأنه ولده من زوجته التي لا تزال تعيش معه في قريته، فهدده الملك بانتزاع الحقيقة منه ولو استدعى ذلك استخدام العنف والتعذيب، وأمر حرّاسه بالقبض عليه، فاعترف الراعي المذعور بالحقيقة كلها، وسرد عليه قصة الغلام من أولها… شعر الملك آستياخ بالغضب على وزيره هارباخ فأمر الحراس باستدعائه حالاً، ولما جاء الوزير مسرعاً سأله الملك على عجل: ماذا فعلت بحفيدي الذي سلمتك إياه قبل عشر سنوات وأكثر؟، فلما وقعت عينا الوزير على الراعي انتبه للموقف وعلم بأنه قد وقع في مأزقٍ عسير، فقال:

أيها الملك! عندما استلمت منكم حفيدكم الرضيع، رحت استنصح نفسي، كيف أنفّذ أمركم الملكي على أكمل وجه من دون أن يتهمكم أحد أنتم وابنتكم العالية المقام ماندانه بجريمة قتل طفل رضيع، فقررت أن أعطي الطفل لراع من الرعاة وأمرته بما أمرتني به، وهكذا نفذت أمركم ولم أكذب عليكم، وقد هددته بعقوبة كبيرة إن لم ينفّذ أمري، وبعد موت الطفل أرسلت أوثق أتباعي إلى هناك ليدفنوا جسد الطفل بثيابه الملكية كما أمرتني به. هذا ما حدث أيها الملك وهكذا قضى الطفل نحبه.

لم يصدق الملك كلام الوزير، ولم يشعره ببقاء الطفل حياً، كما لم يشعره بغضبه الشديد عليه، ثم قال بعد زوال الخوف عن الوزير بأن الراعي قد أخبره بما حدث وأن حفيده لايزال على قيد الحياة وأنه سعيد جداً ببقاء حفيده حياً… ثم طلب من الوزير أن يرسل ولده ليلعب مع حفيده. ودعاه إلى وليمة فاخرة بهذه المناسبة.

في اليوم التالي أقيمت الوليمة في القصر الملكي، ووضع الخدم أمام الوزير هارباخ صينية كبيرة من اللحم المشوي، شرع الملك والوزير والضيوف بتناول الطعام، ولكن هارباخ ما كان يعلم أنه يتناول لحم ولده الذي أمر الملك بذبحه وشويه وتقديمه لأبيه من دون الآخرين. وكان قد أمر بوضع رأس الولد الضحية ويديه وقدميه في سلّةٍ بالقرب من المكان. ولما شبع الضيوف سأل الملك وزيره عما إذا كان الطعام قد أعجبه، وعما إذا كان يعرف ما الحيوان البري الذي أكل من لحمه، فأجاب الوزير بأن اللحم المشوي كان لذيذاً للغاية، ولم يذق مثيلاً له من قبل. وأحضر الخدم السلة، فقال الملك: خذ هذه السلة معك إلى البيت فهي هدية ملكية مني لك أيها الوزير المخلص هارباخ!.

سأل الملك سحرته ماذا يفعل بحفيده الذي عاد إليه، فقال له كبيرهم: “لا تخف أيها الملك العظيم! لقد صار حفيدك ملكاً على أولاد الرعاة أثناء لعبهم، ولا يصبح المرء ملكاً مرتين، فقد انتهى أمره ولا خوف منه… ولكن إن صار الحكم بيد حفيدك فإنه سيصبح ملكاً فارسياً لأن أباه من الفرس، الذين سيسودون علينا نحن الميديين بعد أن كنا نسود عليهم، وسيؤذوننا في عقر دارنا.”.. فأرسل الملك حفيده ليعيش مع أمه التي انتقلت إلى بلاد فارس حيث زوجها.

بعد عدة سنين أرسل الوزير هارباخ رسالة لــ كه ي روش مع أحد أتباعه المخلصين، شارحاً له الحقيقة حول ما جرى له، وما فعله الملك بولده من جريمة وحشية لا تغتفر، وجاء في رسالته:

“يا ابن قمبيز! الآلهة تحبك وإلاّ ما كان بالإمكان أن تعيش وتنجو من ذلك القدر، فانتقم من جدك آستياخ الذي أراد قتلك. الآلهة وأنا أنقذناك. كان عليك أن تعلم بأنني قد دفعت جزاء كبيراً لإنقاذ حياتك. فلو تتبع نصيحتي يكون تاج آستياخ على رأسك وتصبح ملكاً. اجمع قواك وحارب آستياخ لتكون ميديا ملكاً لك، وسأنضم إليك مع بعض الأمراء الميديين”.

أخذ الأمير كه ي روش يجمع العشائر الفارسية من حوله، وجمعهم في أرض واسعة وطلب منهم أن يفلحوا الأرض المليئة بالحجارة والأشواك، فلبوا طلبه، وعندما انتهوا طلب من الجميع أن يتحمموا ويلبسوا أجمل الحلل والثياب لديهم ويتزيّنوا، ويأتوا معهم بالخبز والخمور، وفي اليوم التالي أقام احتفالاً ضخماً في ذلك السهل الواسع، وقام المغنون والراقصون بتقديم ما لديهم من فنون وعزفٍ ورقصات، ثم توجه إليهم، وسألهم:

أي اليومين تجدونه ممتعاً لكم، البارحة أم اليوم؟…  علت الأصوات بالقول بأن هذا اليوم أفضل من البارحة بالتأكيد. فقال لهم: أيها المحاربون الفرس! إن اتبعتموني حصلتم على ما حصلتم عليه اليوم، أما إذا نكستم على أعقابكم فستبقون كالعبيد تحت أيادي الميديين، فاتبعوني تكونوا أحراراً، لقد قدّر إلهي أن أحيا لأقودكم إلى الحرية، فاخرجوا معي على آستياخ.

تحدث المؤرخ اليوناني “هيرودوت” عن هذا الحدث بالقول: “الآن صار للفرس قائد يقودهم، وراحوا يزعزعون بفرحٍ في ظله نير الظلم ويرمونه عنهم، الآن تحوّل الميديون السادة إلى أتباع للفرس، وتحوّل الفرس الأتباع إلى أسياد للميديين…”

وهذا ما جرى فعلاً، فقد هاجم الفرس عاصمة الميديين آكباتانا، وساعدهم الوزير الخائن هارباخ، وألقي القبض على آستياخ ورمي به في الزنزانة، ثم اقتيد إلى الصحراء وترك هناك ليموت عطشاً وجوعاً، وبذلك انتهى حكم الميديين في العام 550 ق.م.

ملحمة “شـيرين وفرهاد”

استهلال

الحكايات والأساطير الشعبية الفولكلورية من حيث خطوطها الرئيسية كثيراً ما نجدها مشتركة بين الشعوب، وخاصة المتجاورة، وهذه الملاحم أو القصص أو الحكايات تستند في جانب منها إلى وقائع تاريخية جرت، أو هي أساطير تداولتها هذه الشعوب كما أسلفنا، ومن الفولكلوريات المتداولة بين الشعوب الفارسية والتركية والكردية. أسطورة “فرهاد و شيرين أو خسرو و شيرين”، والتي تداولها الرواة شفاهاً إلى أن نظمها الشاعر الفارسي “فردوسي” صاحب ملحمة الشاهنامة (940-1020)م باسم “خسرو وشيرين”، وخسرو هو أحد الملوك الفرس الذين حكموا قبل الفتح الإسلامي (591-621)م، والملكة شيرين كانت زوجته.

تناول هذه الملحمة أيضاً الشاعر الآذري “نظامي كنجوي” كملحمة شعرية عام 1181م بعنوان “خسرو وشيرين”، وأهداها إلى زوجته التي توفيت وهي في ريعان الشباب. كما تناول الشاعر الأوزبكي “نوفوي” الملحمة شعراً عام 1484م بعنوان “فرهاد وشيرين”، أما المستشرق “ع.علييف” فقد أصدر كتاباً بعنوان “خسرو وشيرين في آداب شعوب الشرق” 1962م. وألف الشاعر والكاتب المسرحي التركي “ناظم حكمت” مسرحية بعنوان “حكاية حب، أو فرهاد وشيرين”، وقد قدمت هذه المسرحية على أشهر مسارح العالم (موسكو وباريس وبرلين وغيرها من العواصم) لسنوات طويلة. والشاعر الأذربيجاني “فورغوف” ألف مسرحية بعنوان “فرهاد وشيرين” ترجمت إلى العديد من لغات العالم، وتختلف معالجات الشعراء والكتاب لهذه الأسطورة، كما يختلفون في أحداثها وبعض شخصياتها.‏

والملحمة عبارة عن قصة حب حدثت في منطقة كرمنشاه في شرقي كردستان بين العاشقين “شيرين وفرهاد”، وبعض رواتها اعتماداً على تبعية منطقة القصة إلى الحكم الفارسي، يقولون: عندما تزوج الشاه الساساني خسرو بـ  شيرين قسراً، اشترط على فرهاد أن يقوم بفتح نفق في جبل دماوند (بيستون)، لكي يُرجع له حبيبته شيرين، فوافق فرهاد على الشرط، وبدأ بالعمل، وعندما رأى الشاه إصراره، وأنه سينجز العمل تراجع عن كلامه.

مما تقدم يتضح واستناداً إلى أسماء أبطالها ومسرح أحداثها ووقائعها التاريخية، أنها فارسية أو كردية الأصل، وحقيقة لها علاقة بالشعبين الفارسي والكردي. وحسب الشاعر “آغاجي” الذي عاش في الفترة الممتدة من أواخر القرن العاشر الى منتصف القرن الحادي عشر، والذي يذكر إسم فرهاد كشخصية تدور حولها الأحداث حين يتحدث عن الأسطورة الشعبية عن شق قناة عبر صخور جبل بيستون من جبال كردستان. فهي ملحمة كردية شعرية باللهجة الفيلية بعنوان “شيرين وفرهاد” تناقلت شفاهاً جيلاً بعد جيل.

موجز الملحمة

فرهاد كان أميراً في قومه، وشيرين كانت متزوجة من الملك خسرو، وعندما كانا صغاراً رأى كل منهما الآخر في الحلم، وعشقا بعضهما دون أن يعرف كل منهما الآخر. لم يفارق ذلك الحلم مخيلة فرهاد، وعندما كبر خرج يجوب البلدان بحثاً عن حبيبته، متنكراً في زي درويش. حتى وصل الى مدينة سمع من أهلها بأن شيرين زوجة الملك كانت قد أٌجبرت على الزواج منه وهو كبير في السن. وعندما التقى بها صرح لها بأنه عشقها في حلمه وهو صغير، فبادلته بأنها أيضاً أحبته في حلمها وهي صغيرة.

أخذت شيرين تفكر بطريقة التخلص من زوجها، فاتفقت مع أحد أبناء زوجها من زوجته الاولى للتخلص منه، ووعدته بأن تمنحه السلطة والوقوف بجانبه والزواج منه. وينفذ الابن الخطة ويغدر بوالده بينما تولول شيرين وتعلن عن قاتل زوجها الملك، فتتخلص منهما معاً.

يتقدم فرهاد للزواج منها، فيجتمع أعيان المدينة للنظر في الطلب، ولكي يضمنوا عدم ابتعاد ملكتهم المحبوبة عنهم، طلبوا منه أن يشق جبلاً كان قد وقف عائقاً عن تدفق مياه النهر الواقع خلفه إلى الجهة الاخرى، كمهر لها.

يوافق فرهاد ويباشر العمل، وذات يوم تأتي شيرين لزيارته راكبة فرسها “شه وديــْز”، وكانت هناك عصابة تتربص لهما. وأرادوا اختطافها. فتصدى لهم، ولكن شيرين تمنعه خوفاً من وقوع الفتنة. وترضى أن تذهب معهم، فطلبوا منه أن يحفر لهم طاقة في الجبل حيث سيذهبون مع شيرين، فيمتثل لأمرهم. وبعد برهة من رحيل حبيبته معهم، سمع نداءها من بعيد.. جرى خلفهم ولحق بالعصابة وفتك بهم جميعاً، وأنقذ حبيبته.

واصل فرهاد عمله في شق الجبل واقترب من إنجاز عمله. وقبل أن ينتهي تتطوع أمرأة عجوز شريرة شقيقة أحد أفراد العصابة التي قضى عليها فرهاد للتخلص منه. وتطلب من كل الرعاة منع صغار الحيوانات عن أمهاتهم حتى تصل هي إلى الجبل حيث فرهاد منهمك في عمله. ومن عادة الحيوانات حيث تلتقي بصغارها، أن تحدث جلبة عالية. وعندما وصلت إلى فرهاد تناهى إلى سمعه تلك الأصوات الغريبة، فسأل العجوز عن سبب ذلك فاجابته: أن شيرين قد توفيت، ومن شدة انفعاله يقتل العجوز، ثم يرفع فأسه المصنوع من الفولاذ الخالص ويغرزها في قلبه.

وعن بعد ترى شيرين النسور والغربان تحلق على الجبل حيث يعمل فرهاد، فأحست بأنه هناك مصاب جلل، فهرعت إلى هناك مع حاشيتها لتجده غارقاُ في دمائه… يدفن فرهاد على حافة البيستون، وفي اليوم التالي تذهب شيرين لزيارة القبر، فتأخذ معها سكيناً برأسين. تغرز أحد أطرافه في القبر والآخر في قلبها. فتدفن إلى جواره.

ملحوظة:

يقال أنه في ربيع كل عام تنبت وردتان على قبريهما، وتكبرا حتى توشكا على التلاقي، فتنمو صبيرة بينهما تمنع لقاءهما.

قصة “أمير بوتان”

استهلال

القصة الشعرية “يوسف وزليخا” للشاعر الكردي سليم بن سليمان هي نتاج كلاسيكي تقول عنه المستشرقة رودينكو: إنه وسط بين ملحمتي الشاعرين الفردوسي والجامي من حيث أحداثها ومشاهدها، ولكنها قصة شعرية أصيلة تنم عن طاقة إبداعية، وموهبة شعرية متميزة تنزع إلى التجديد والتفرد، ولا تنساق وراء التقليد والمحاكاة، ويبدو الشاعر في قصته الشعرية هذه أقل التزاماً بالتقاليد المتزمتة البالية، وأكثر انفتاحاً على الحياة من الشعراء الآخرين، ولا نجد في نتاجه تلك الغيبيات التي تطغى عادة على مثل هذه القصص كما لدى الشعراء الآخرين.

وقصة أمير بوتان هي ملحمة تحاكي ملحمة “يوسف وزليخا” والتي بدورها تحاكي ملحمة النبي يوسف وزليخا (اسمها راعيل وزُليخا لقبها) التي ذكرت في التوراة والإنجيل والقرآن. فالقصة مستوحاة من قصة النبي يوسف والذي تم بيعه كعبد في مصر، واشتراه العزيز، وعشقته زُليخا زوجة العزيز، وأرادت أن تجرّه إلى فعل السوء، لكنه أبى ذلك.

موجز القصة: 

تزوج أحد الأمراء بامرأة ولم يخبرها بمكانته، وأعطاها خاتماً وسواراً منقوش على كل منهما اسمه، ثم أخبرها بأنه سيسافر، وإن تأخر في العودة عليها ان تضع الخاتم في أصبع الوليد القادم إن كان ذكراً، والسوار في معصم الوليد إن كانت أنثى.

وضعت المرأة توأمين ذكر، أطلقت على أحدهما اسم “سركان” وضعت في أصبعه الخاتم، وعلى الآخر اسم “ژيندار” وضعت في معصمه السوار.

كبر الأخوان، وفي أحد الأيام تشاجر سركان مع أحد الفتيان، وضربه، فجاءت أمه، وأنّبته وعيّرته بأن أباه غير معروف. فكانت هذه الحادثة دافعاً للأخوين ليخرجا بحثاً عن أبيهما، وفي إحدى المدن أضاع كل منهما الآخر… التقى سركان بائع حلوى لا أولاد له، فتبناه وصار يعمل معه في متجره.  وازدهرت أعمال المتجر لأن سركان كان شاباً وسيماً جميل المحيّا، وانتشر خبر جماله في المدينة، فصار الناس يتهافتون على شراء الحلوى لا رغبة فيها، بل في أن يرَوا الشاب الجميل والوسيم…

تناهى خبر جماله إلى سمع ابنة الوزير، وكان قصر الوزير غير بعيد عن متجر بائع الحلوى، فكلفت شخصين بحفر نفق يمتد من قصر أبيها إلى المتجر، لتتمكن الذهاب من خلاله لرؤية الفتى.

ولما علم الوزير بأمر النفق والفتى وابنته، أمر بإحضاره إلى قصر الأمير لمعاقبته، عندئذ وقعت عينا الأمير على الخاتم في أصبعه، فعرف أنه ابنه، ولكنه لا يستطيع أن يبوح بسره، ولكي ينقذ ابنه، أمر بأن يعاين أشخاص مختصون النفق، فإن كان محفوراً بدءاً من المتجر باتجاه قصر الوزير، يكون الشاب مذنباً، ويستحق العقاب، أما إن كان محفوراً بدءاً من القصر نحو المتجر، فيكون هذا من تدبير ابنة الوزير، ودليلاً على أنها تحبه، وعندئذ يستحقان أن يتزوجا….

وبعد الكشف على النفق، تبين أنه محفور بدءاً من قصر الوزير. عندئذ تم عقد قران سَرْكان على ابنة الوزير، وعاشا في قصر الأمير، وأمر الأمير بالبحث عن ابنه “ژيندار”، وتنتهي القصة بأن يصارح الأمير ولديه، وأمر بجلب أمهما ليعيش الجميع في قصر الأمير. 

مغزى القصة: 

إبراز حرية المرأة في الحب، واختيارها لمن تحب، وإبراز دور العائلة من خلال العيش المشترك في نهاية القصة. 

نمطية القصة:

القصة محاكية لقصة النبي يوسف، وثمة عناصر مشتركة كثيرة بين القصتين منها:

– كلا الشخصيتين ينحدر من أسرة عريقة: يوسف ابن نبي، وسركان ابن أمير.

– كلاهما تعرّض لمحنة: يوسف أُلقي به في بئر، وسركان تاه في المدينة، وكلاهما اجتاز المحنة، وارتقى مكاناً مرموقاً.

– كلاهما جميل ووسيم، وينتشر خبر جمالهما في المدينة، وتدعى النسوة الأرستقراطيات إلى قصر الملك لرؤية يوسف، ويجتمع الناس أمام متجر بائع الحلوى لرؤية سركان.

– كلاهما تعرّض لحب وأحابيل النساء، وبانت براءة كليهما بطرق متشابهة، فبراءة يوسف ظهرت من خلال تمزيق قميصه من الخلف من قبل المرأة التي أحبته، وبراءة سركان ظهرت من خلال حفر النفق بدءاً من قصر الوزير نحو متجر عمله.

– يوسف وجد إخوته وأحضر أباه ليعيش معه في قصر المملكة، وسركان وجد أباه وأخاه، وأحضر أمه ليعيش الجميع في قصر الإمارة معاً.

قصة (زمبيل فروش – بائع السلال)

وهي رواية فولكلورية كردية معروفة في جميع أنحاء كردستان، ولها أكثر من طريقة في السرد. كتب عن هذه الرواية الكثير من الأدباء والباحثين محللين ومقارنين بسير كل من النبي يوسف و بوذا، والرواية انتقلت إلى الأدب الكردي المدوّن من قبل فقي تيران، وملا باتيي، ومراد خان بايزيدي ابتداء من القرن الخامس عشر، وحديثاً كتبت من قبل فيريك أُوسيڤ (1934 – 1997)م.

موجز للقصة: 

أمير شاب جميل ووسيم خرج ذات يوم إلى الصيد، يرافقه مستشاره وهو أحد وزراء إمارة والده، يرى في جولته جمجمة بشرية بجانب قبر مفتوح أو حفرة في مقبرة، يسأل مستشاره عنها، فيجيبه بأنها جمجمة شخص مات منذ زمن، ثم يسأله عن الموت، وعما إذا كان موت صاحب تلك الجمجمة عن جوع. وأسئلة كثيرة أخرى عن الفقر والغنى، والحياة والموت، والقيامة والحساب، والجنة والنار، وعن مساواة الموت بين جميع الناس، فقيرهم وغنيهم، فيجيبه مستشاره عن كل أسئلته كما يعلم.

يترك الأمير قصر الإمارة، ويرتدي ثياب الدراويش، ويذهب في سبيله، وأثناء تجواله يشاهد أناساً يجمعون عيدان القصب، ويصنعون منها سلالاً. انضم الفتى إليهم، وسألهم عن سبب صنعهم للسلال، فقالوا له إنهم يبيعونها في القرى والمدن، ويكسبون منها قوت يومهم. أعجب الفتى بعملهم فانضم إليهم، وتزوَّج منهم، وراح يجمع العيدان مثلهم، وتعلم منهم صنع السلال، وصار يتنقَّل بين المدن والقرى، ينادي على بضاعته، فاكتسب لقب “زمبيلفروش” من عمله.

وأثناء تجواله في مدينة “فارقين”، يمر من جانب قصر الأمير، فسمتعه “گلخاتون” زوجة الأمير، فتعشق صوته، وترسل بعض الخدم، لإحضاره إلى القصر بدعوى أن الأمير يريد أن يشتري سلالاً. وتحاول گلخاتون إغواءه بالنوم معها، لكنه يرفض… وينتهي به الأمر في السجن، ثم يهرب من السجن، وفي النهاية يصبح أميراً لمدينة آمد/ دياربكر.

مغزى القصة: 

تقدير العمل وتثمينه، من خلال إصرار “زمبيلفروش” على إعالة أسرته من كدحه وعمله. وكذلك إبراز حرية المرأة في الحب، واختيارها لمن تحب. والقصة عموماً تمثل نموذجاً للمثاقفة في الأدب الفولكلوري الكردي. 

نمطية القصة:

القصة محاكاة لكل من قصة النبي يوسف، وقصة النبي بوذا، وثمة مشتركات كثيرة بين هذه القصص، منها:

– جمال ووسامة بوذا وزمبيلفروش ويوسف، ومكانة كل منهم: بوذا ابن ملك، ويوسف ابن نبي، وزمبيلفروش ابن أمير.

– بوذا خرج من قصره أثناء الاحتفال بعيد الزراعة السنوي، وشاهد كفاح وجهد الفلاحين في العمل، فبدأت التساؤلات في عقله؛ لماذا يجب على المخلوقات أن تعاني بهذه الصورة؟، وزمبيل فروش ترك قصره، وأثناء تجواله يشاهد أناساً يجمعون عيدان القصب، ويصنعون منها سلالاً.  فانضم الفتى إليهم، أما يوسف فخرج مع إخوته لتعلم التجارة، فألقوه في البئر.

– الثلاثة تعرضوا لمحن، فبوذا ترك حياة الرفاهية واختار حياة التقشف والألم لبلوغ الحقيقة، ويوسف ألقاه أخوته في بئر، ثم بيع كعبد في مصر، و زمبيلفروش ترك حياة النعيم والرفاهية، إلى حياة الفقر والعوز.

– حاولت زوجة عزيز مصر ان تغوي يوسف، فرفض وسجن، وحاولت زوجة الأمير أن تغوي زمبيلفروش، فرفض وسجن، وذلك بسبب تعففهما الأخلاقي، مما ساهم في ظهور براءة الإثنين، لكن بوذا ترك زوجته الأميرة ياسوهارا في سبيل البحث عن الوسيلة التي تقود الإنسان إلى القضاء الألم والشهوات ومعرفة حقيقة الخلق، فعانى الألم والحرمان بسبب رغبته.

–  كل الزوجات اتصفن بالجمال، واتبعن غرائزهن الجنسية، حاولت اثنتان منهن إقامة علاقة مع غير زوجها، والثالثة حاولت ثني زوجها عن مفارقتها.

–  نهايات القصص: بوذا يصبح نبياً، ويوسف يصبح عزيز مصر، وزمبيلفورش يصبح أمير آمد/ ديار بكر.

ملاحظة: تختلف الروايات التي تناولت مفهوم القصة، فتذهب إحداها إلى أنهما التقيا في قمة جبل، وتعاهدا أن يصبحا أخوين، أخاً وأختاً. وثانية تذهب إلى أنهما التقيا عند نبع، ورغبت “گلخاتون” زوجة الأمير أن تقبّله، وإذ تمدّ لسانها في فمه، يموتان معاً، بينما تذهب رواية ثالثة إلى أن ناراً اندلعت من فمها، فيحترقان معاً ويدخلان الجنة. ورواية رابعة تذهب إلى أنهما تزوجا، وخامسة تدعي أن “گلخاتون” تقتل زوجها الأمير، حين حاول أن يقتل “زمبيلفروش”، ثم رحل الجميع (زمبيلفروش وزوجته وأولادهم) إلى مكان بعيد عن ديارهم، وسادسة تذهب إلى أنهما تعاهدا أن يتباعدا، ويذهب “زمبيلفروش” بناء على طلب أبيه إلى ديار بكر، ويصبح أميراً لها.

ملحمة “خج وسيامند”

موجز للقصة:

كان سيامند فارساً يحب المغامرة والتجوال وصيد الغزلان والوعول وغيرها. على الرغم من أنه نشأ يتيماً لم ينعم بحنان الأم ورعاية الأب، وفي أحد الأيام اشترى حصاناً وتوجه إلى جبل “سيباني خلات”، وأثناء تجواله سمع من الناس باسم قبيلة كبيرة بعيدة، فقال في نفسه: لماذا لا أزور هذه القبيلة، وراح يسأل الرعاة في طريقه إليها، من هم وكيف يعيشون ومن يتزعمها؟، وفي الطريق إلى القرية كان يسأل نفسه: هل أنزل ضيفاً على بيت الزعيم، أم أنزل عند رجال أقوياء من أمثالي؟.

وعند اقترابه من القرية ولقائه بأول شخص منها، سأله عن رجال أقوياء في قريته، فدلّه إلى أحد البيوت، فتوجه إليه ليحل ضيفاً على هذا البيت الذي كان يعيش فيه سبعة رجال وأخت لهم تدعى “خجي” (خجي – xecê باللغة الكردية يقصد به خديجة باللغة العربية)، وعندما تلاقت نظرات سيامند و خجي لأول مرة وقعا في الحب .

كانت خجي مخطوبة لأبن زعيم العشيرة، فكرت خجي أمرها وما ستقدم عليه، فقالت في نفسها “نحن ثلاثة أنا وسيامند وابن الزعيم ولا بد أن نكون أثنين فقط، فليكن سيامند” هكذا حدثت نفسها، عرف إخوتها بالأمر وأقسموا على رفض زواجها من سيامند.

تذكر سيامند رفاق الصيد في الجبال، هبت في نفسه هوايته “امتطى الحصان وتوجه إلى الوديان والجبال وبعد مدة صادف جماعة من الغجر زواداتهم مليئة باللحم والرز، فأستغرب سيامند من أمرهم، وقال لهم: من أين لكم هذا الطعام؟ أجابوه: إذا كنت تحب الرز باللحم فاذهب إلى حفلة الزفاف المقامة لأجل خجي وابن زعيم العشيرة، ثارت ثائرته، وامتطى حصانه راجعاً صوب قرية حبيبته، وفي الطريق كان يجادل أفكاره: سأخطف خجي، ولكن هل سأخطفها سراً كاللصوص أم سأخطفها نهاراً أمام الجميع؟.

وعندما التقى بها، قال لها: خجي هل توافقين على ما عقدت العزم عليه، لم تتردد خجي في الموافقة، فنادى سيامند نافخ المزمار وضارب الطبل والمنشد ورمى إليهم قطعاً ذهبية وطلب منهم “أن يعلنوا ويهتفوا “الشاباش” باسمه واسم خجي وعلى شرفهم، خافوا أولاً وترددوا ثم صاحوا: المجد لسيامند، المجد لخجي.

رفع سيامند خجي و أركبها وراءه على الحصان أمام أعين الرجال والنساء وجرى باتجاه الجبل.. حاول رجال الزعيم اللحاق بسيامند، ولكنه كان يسابق الريح، وصعد جبل خلات، وقال لحبيبته: يا خجي أريد الاستراحة، وأن أضع رأسي على ركبتيك وأنام برهة.. وضع رأسه على ركبة خجي وغرق في نوم عميق.

مر سرب من الأيائل، بينها أيلة جميلة يحيط بها سبعة من التيوس، أبعدوا عنها أيلاً أعرج مكسور القرن، اضطرب فؤاد خجي وقالت في نفسها: إن التيوس السبعة هم إخوتي والأيل المبعد هو سيامند والظبية الجميلة هي أنا، وبكت حتى سقطت دموعها على وجه سيامند، فاستيقظ و قال: خجي قسماً بالله لئن كنت ندمت فلن أتزوجك، وسأعيدك إلى أهلك كما أتيت طاهرة بريئة.. .

ردت عليه بالقول:

لولا حبي لك ورضائي بك لما أتيت معك من أول الأمر، ولا عرضت نفسي للخطر والغربة، ولكن حبي لك جعلني أتخلى عن كل ذلك وأرافقك في الوديان والجبال..

إذن ما سبب هذا البكاء إن لم يكن بكاء ندم، فأفصحت له عن السبب، قال سيامند: خجي أنا سيامند وتقارنينني بالأيل الأعرج.. سوف أصيد ذلك الأيل وأذبحه.

وبعد أن سلك درب الأيل رآه واقفاً على صخرة مشرفة على واد سحيق، منفرداً بالظبية الذهبية، سدد إليه السهم في نحره فأصابه، ثم جرّد نصله من الغمد ووضعه على عنقه ليذبحه، فاضطرب الأيل بشدة وصدم سامند صدمة عنيفة ألقت به في الهاوية السحيقة فوق شجرة يابسة مسنونة الأغصان، اخترق غصن حاد ظهره ونفذ من صدره .

مكثت خجي برهة ولاحظت أن سيامند تأخر، فراحت تبحث عنه، وشاهدت الأيل مطروح هناك نصف مذبوح ولكن أين سيامند؟… سمعت أنين سيامند يتعالى من الوادي، أطلت عليه فإذا هو ملقى على ظهره منشوب في الشجرة اليابسة فأجهشت بالبكاء… قال سيامند: كفاك بكاء، أنا في الرمق الأخير، إصعدي إلى الأعلى عسى أن تشاهدي إخوتك… رأت خجي إثنين من إخوتها يتقدمان صوبها ويدققان النظر فيها، ظلت خجي صامتة جامدة من الحزن والخجل، وحينذاك ترامى إلى أسماعهم أنين سيامند آتياً من تحتهم، فقالوا: سيامند ماذا جرى لك؟ رد سيامند: إنكم ترون بأعينكم ما جرى لي…

أخذوا أختهم وجواد سيامند وغادروا المكان كأن شيئاً لم يحدث،.. فكرت خجي: يريدون إعادتي وتزويجي بابن زعيم العشيرة، وهل يوجد من يقارب سيامند حسناً وشهامة.. لا.. لا.. خلعت خجي خلخالها الذهبي ورمته خفية في الطريق ثم قالت أيها الأشقاء نسيت خلخالي هناك انتظروني ريثما أعود به حالاً… صعدت خجي إلى شفة الهاوية، ونادت:

سيامند أفسح لي المكان، سألقي بنفسي إلى جانبك، لا أريد أن أسبب مزيداً من الألم لجرحك العميق…

قال سيامند: استحلفك بالله أن لا تغامري بحياتك، أما أنا فقد كان الأمر خطأ خارجاً عن إرادتي… وقفت خجي وعصبت عينيها الجمليتين بمنديلها الذهبي وألقت بنفسها في الهاوية فوق الشجرة اليابسة واستقرت هامدة بجانب سيامند…

انكفأ الإخوة على أعقابهم راجعين إلى خجي، ورأوا أن أختهم ساكنة بلا حراك بجانب سيامند يهفو عليهما أريج عابق ونسيم عليل.

مغزى القصة:

إبراز للشجاعة والفروسية والتضحية، ودور المجتمع الذكوري في العشيرة، وإبراز لبعض التقاليد البالية في المجتمع الريفي والقبلي التي تدفع بالعاشقين إلى الهرب معاً، والموت وحده الذي فرق بين قلبيهما وحال دون وصلهما… وكذلك دور الحقد الذي كان السبب المباشر في دفع الحبيبة إلى الانتحار بجانب حبيبها، فلو حاول إخوة خجي الاهتمام بجثمان سيامند ودفنه، ربما لا تقدم خجي على الانتحار.

ملحمة قلعة دمدم

أو ملحمة الأمير ذو الكف الذهبية

استهلال

تعد هذه الملحمة أحد أهم وأشهر ملاحم البطولة في تاريخ الكرد، وجرت أحداثها في القلعة المسماة “دمدم” بين الكرد والفرس في العام 1605م في زمن الشاه اسماعيل الصفوي. والقلعة تقع في شمال شرقي كردستان، وحسب ورودها في كتاب “شرفنامة” فإن قلعة دمدم كانت تتبع رئيس عشيرة برادوست، والبرادوستيون كانوا يقطنون اورمية، وته رغة، ومه رغة، وبعض المناطق الأخرى.

عندما التجأ أمير خان إلى الشاه الصفوي عباس بعد هروبه من السلطان العثماني، تمّ إعادة رئاسة عشيرة برادوست إليه، إذ وصلت أنباء شجاعته إلى مسامع الشاه، وكان اسمه على لسان جميع أهل المنطقة، فأعاد الشّاه عباس إليه رئاسة القبيلة، وعوضه عن كفّه التي قطعت لأصابتها بطلق ناري في معركة جرت قبل سنوات خاضها لمساعدة حاكم سوران، بكفٍ مصنوعة من الذهب، ولذلك كان يلقّب بـ الكف الذهبية*.

إن أحداث هذه الملحمة ليست من نسج الخيال، وإنما تستند إلى وقائع حقيقية هزّت مشاعر ووجدان الأدباء والشعراء الكرد على مر الأجيال، فنظموا فيها ملاحم شعرية ونثرية تمجد ابطالها، والاختلاف في هذه النتاجات الأدبية هي من حيث وسائل التعبير وأساليب الصياغة والمعالجة الفنية، وهذا أمر طبيعي لاختلاف الرؤى والأساليب.

تناول هذه الملحمة باحثون وكتاب كرد ومستشرقون شعراً ونثراً، ومنهم المستشرق الروسي الكسندر زابا الذي نشر أول ملحمة شعرية عن صمود هذه القلعة في عام 1860 في بطرسبورغ، وهي تنسب إلى الشاعر الكردي الكلاسيكي فقي تيران،  كما تناولها الكاتب والشاعر جاسم جليل في كتابه “أغاني الجبال” الصادر في يريفان عام 1970، والكاتب والشاعر عرب شمو أصدر كتاباً في يريفان عام 1966 بعنوان “دمدم”، كما قدمها الدكتور اورديخان جليل بشكل بحث لنيل شهادة الكتوراة من جامعة بطرسبورغ عام 1960، ثم نشرها في كتاب عام 1967، في موسكو بعنوان “الخان ذو الكف الذهب الكردي – دمدم”.

موجز الملحمة:

كان لعشيرة برادوست زعيم اسمه “أمير خان”، وقد شيد قلعة “دمدم” لحماية نفسه وأبناء عشيرته وإمارته من شرور الأعداء،  وبعد أنّ أتمّ إكمال بناء القلعة التي تضمّنت العديد من الغرف والصّالات ومخازن الأعتدة، وصلت رسالة إليه من الشّاه عبّاس يطلب فيها إسكان ثمانية آلاف من مجموع عشرين ألف من قطّاع الطرق الجلاليين الذين هربوا من العثمانيين، وهذا الطلب من الشاه ما هو إلا مكر وخديعة للإستيلاء على القلعة والتحكم بأهلها وشعبها، وقد قوبل هذا الطلب بالرفض من قبل أمير خان والعشيرة كلها، حتى لو كلّفهم ذلك حياتهم وأموالهم وأرواحهم.

قام الشاه بجلب الآلاف من عساكره وقادته وجنوده للهجوم على القلعة والسيطرة عليها، ومع بزوغ الفجر اشعلت نيران الحرب واستبسلت المنطقة التي كانت بأمرة عفدال بك أحد قواد أمير خان، وشتتوا شمل الجلاليين ذوي الطواقي الحمر. كانت “فيان” حبيبة عفدال بك تشارك النسوة في ملء مخازن بنادق المقاتلين، وتشتهر نساء وفتيات الكرد على مرّ التاريخ بأنهن خير ظهير ومساند للمقاتلين.

لم يكن الكرد داخل القلعة يعانون من أي نقص، فقد كان لديهم طعام وفير، والخندق المحفور تحت القلعة يوصلهم إلى ينبوع ماء، لم يكن العدو يعلم بوجوده، ومع اشتداد المعارك بين الطرفين بمرور الأيّام، بادر “حسن خان” قائد القزلباش باللجوء إلى الشاه عباس، لطلب مزيد من العون والإمداد.

أرسل الشاه رسالة لأمير خان كتب فيها:

“إستناداً إلى الأمر الصادر من الشاه العظيم، أبدأ بمحاصرة القلعة بجيش يفوق عدداً وعدّة قواتكم بعشرين مرّة فليس أمامكم أية فرصة ولكي لا تسيل دماء أكثر، آمرك بأنّ تسلّم نفسك وتفتح أبواب القلعة وإلا نضطر إلى قصف القلعة بالمدافع بعد أربع وعشرين ساعة من الآن”.

الإمضاء: قائد الجيش/ الوزير الأعظم، معتمد الدولة، صدر في السادس والعشرين من شهر شعبان، من العام 1017 هجريّة (اليوم الخامس من كانون الأوّل من العام 1608 م).

وكان رد أمير خان: ليعلم الجميع في هذا العالم، أن البرادوستي لن يطأطئ رأسه للوزير الأعظم، ولن يسجد للشاه عباس، فإما النصر ونيل الحقوق، وإما التضحيّة والفداء والشهادة في سبيل الوطن.

ومع اشتداد المعارك وزيادة الصراع، لم يهدأ لـ فيان بال على حبيبها عفدال بك، فهي دائمة الخوف عليه، ومن جانبه بالرغم من التعب والمسؤوليّة التي يتحمّلها في المعركة، لم تغب عن شفاه عفدال بك الكلمات الرقيقة الّتي تمسّ شغاف قلب فيان، فهو دائم الخوف والقلق عليها وهي تتحمل متاعب المعركة وتزوّد المقاتلين بالأعتدة والرصاص. هذا يعني أن العاشق مهما شغلته متاعب الحياة ومتاهاتها، لن ينسى من أحبه، وسهر الليالي من أجله.

وكما عادة الخونة بين الكرد، فإن محمود كيهكاني خان أهله وشعبه ووطنه، وكشف مكان الينبوع الذي يزوّد أهل القلعة للعدو، وبذلك وضع أهل القلعة في حالة مأساوية بعد أن جفّت الحفر من الماء، إلا أن عفدال بك وبعض الجنود خرجوا من القلعة في وقت متأخر من الليل إلى عيون الماء، وتمكنوا من قتل الحرّاس الستة هناك، وجلبوا الماء بالمطرات إلى داخل القلعة.

قرّر قائد العدو بالهجوم على القلعة لاحتلالها بأي ثمن، جمع قادة الفرق ومعاونيهم، وحدّد لهم مهامهم وأصدر لهم أمراً “إمّا احتلال القلعة أو موتكم جميعاً”، ثم بدأ الهجوم بالقصف المدفعي على القلعة، ثم تقدم السلالم الخشبيّة الطويلة باتجاه القلعة من أربع جهات، وبدأ الهجوم الشامل، واستغرقت المعارك أكثر من شهر استطاع جيش العدو من إقامة معسكر لهم قرب القلعة، وتمكنوا من احتلال البرج الأوّل وهدمه، والمسمى ببرج (البيشمركة- الفدائي) الذي كان بأمرة (قره بك). وفي نفس الليلة مات الوزير الأعظم معتمد الدولة الذي كان قائداً عاماً لقوات الشاه. فخلفه “محـمد بك بيكدلي” قائداً عاماً.

ومع مرور الوقت، واشتداد المعارك ضعفت قوّة المقاومة عند المقاتلين في البرج التابع لـ عفدال بك، فساد القلق والاضطراب في نفس فيان التي كانت في حركة دائمة تملأ مخازن بندقيات المقاتلين بالرصاص، وتسقي الماء لذاك، وتضمّد جراح ذاك… 

وكانت الانتكاسة باختراق طلقة لصدر فيان، وهي تضمّد جراح ساق حبيبها عفدال بك، فوقعت في حضوره تلفظ أنفاسها. ومن حزنه الشديد سحب اقسام بندقيّته، وبدأ بإطلاق النار نحو العدو، غير عابئ بأيّ شيء إلا الثأر والانتقام، ولم يكن يعلم بأن معظم المقاتلين الّذين كانوا معه في البرج قد استشهدوا، وإذا بصراخ يعيده إلى وعيه، حينما صاح في وجه (محمود) الّذي التف من حوله ليقتله، إلا إنّ عفدال بك اصطاده، وقال له: أيّها النجس الخائن مت الآن! ثم أصابته طلقة غادرة، فتنهد وكأنه تذكر وجه حبيبته وسقط تحت أنقاض القلعة.

أما أمير خان ورفاقه الباقين فقد اتفق مع المحتلين على وقف القتال ونشر السلام، حفاظاً على أرواح باقي العشيرة، وبشرط عدم إسكان الجلاليين في القلعة، وأثناء التوقيع على الاتفاقية خان الفرس وعودهم، ودخل الطرفان في قتال عنيف وشرس، وأسلّموا الروح إلى بارئها، لتكون نوراً مضيئاً للتاريخ الكردي على مرّ الزمان.

مضامين الملحمة:

تظهر الملحمة مفاهيم إنسانية وقيم جمالية وروح قومية ومشاعر وطنية، بالإضافة إلى الأمور التالية:

– مشاركة المرأة الرجل في القتال والدفاع والصمود، وفيان هي رمز للمرأة الكردية الشجاعة التي تأخذ دورها إلى جانب الرجل في معارك الدفاع عن الأرض، وتضحي بحياتها في سبيل ذلك.

– إظهار بأس وشجاعة الكرد في القتال والصمود دفاعاً عن أرضهم وديارهم.

– إن الانكسارات والنكسات في تاريخ الكرد لم تحدث بسبب التخاذل والجبن، وإنّما حدثت بفعل الخيانة (خيانة بعض النفوس الضعيفة)، و محمود كيهكاني خادم ابن الأمير عفدال بك قام بهذا الدور من خلال حرمان أهله من المصدر الوحيد المياه. وهذا أحد الأسباب الرئيسة الذي جعل العدو ينجح في دخول القلعة.

– إظهار الغش والخديعة اللذان يلجأ إليها العدو لتحقيق أغراضه، وينخدع بها الكرد، وتمثّلت في تظاهر العدو بقبول الصلح مع الأمير خان.

* وفي رواية أخرى: ان الشاه قد تنكر في زي تاجر ومر على خيمة الامير الكردي قرب أورمية، وأن كف الامير قد احترق وهو يناول جمرة نار ليشعل بها الشاه غليونه، فكافأه الشاه بكيس من الذهب وضعه في كف الامير.

** وفي رواية ثالثة: أنه قد ذهب الى بلاط الشاه من تلقاء نفسه، وعمل سائساً لخيول الشاه، وذات مرة هاجمته زمرة من قطاع الطرق فدافع عن نفسه دفاع الأبطال، واستطاع إنقاذ الخيول وقتل معظم أفراد الزمرة، ولكنه فقد كفه الأيسر في المعركة، فأمر الشاه بصب يد من الذهب له.

ملحمة “مم وزين”

الشخصيات الرئيسية في القصة

مم: شخصية إيجابية واقعية، مخلص لحبه، قوي أمام أعدائه، لا يتزحزح عن آماله، مستعد للتفاني والتضحية في سبيل حبه النقي الطاهر، ليصل به إلى الحب المثالي الصوفي.

زين: شخصية قفزت من حب واقعي إلى قمة حب أفلاطوني، بعد أن مرت بعوائق ومنغصات وعذابات للوصول، وبعدما تيقنت بأن ما جرى لها ولحبيبها كان قدراً مكتوباً، استغفرت للمنافق “بكر” الذي حطم آمالهما، وطلبت دفن جثته قرب مرقد مم باعتباره كان حائلاً دون زوال عشقهما، بل كان سبباً لحقيقتها.

ومثل آخر على سمو حب مم وزين وتساميه على الحب الدنيوي موت زين التراجيدي وهي تحتضن شاهدة قبر مم أمام الجمع الغفير من المشيعين، وقبول شقيقها الأمير وكل الحاضرين فتح مرقد مم ودفنها معه بدون حاجز.. ليسمع الحضور لفظة “مرحبا” تنبعث من قبر مم لثلاث مرات.

بكر: شخصية واقعية، عمل ضمن إطار أساليب السياسة وإدارة الحكم، وكان يرى أن أفعاله اللئيمة تبررها مصلحة الدولة وتقوية مركز الأمير، وازدياد هيبة السلطة.

الأمير زين الدين: شخصيته تمثل الحاكم المطلق المحافظ على تقاليد السيادة والحق الإلهي في الحكم، ومع سذاجته كان ينظر إلى مصلحته ومصلحة إمارته قبل كل شيء.

ملخص القصة

كان للأمير زين الدين حاكم إمارة بوتان شقيقتان جميلتان تسكنان في مدينة جزيرة (عاصمة الإمارة)، الأخت الكبرى تسمى “ستي” والصغرى تسمى “زين”. وكان للأمير قوة خاصة من جيشه تتكون من مئة شاب يرأسهم القائد (تاجدين) ابن وزير الديوان، وله شقيقان (عارف و جكو) من الرماة الشجعان، وله صديق اسمه (مم) يعتبره أخاه الروحي، و مم هو ابن كاتب ديوان الأمير، وهو شاب وسيم شجاع يتصف بالإباء والمعشر الحسن والأخلاق الحسنة.

من عادة الكرد منذ القدم الخروج إلى المروج والبساتين في عيد النيروز الذي يصادف يوم الحادي عشر من آذار، ومنذ الصباح الباكر خرجت الأختان ستي و زين للتنزه بلباس الرجال، ومن جانب آخر خرج مم و تاجدين من المدينة باتجاه الحقول، وعندما اختلطا بالجموع لاحظا اضطراب على مقربة، فاستفسرا شيخاً من المتواجدين بالقرب منهما، فأجاب الشيخ بأن ثمة شابين قويين كساحرين يجعلان من الجموع سكارى دون خمر، فانتفض تاجدين ومم وقررا أن ينازلا الشابين.

وعندما اقتربا منهما هالهما جمالهما وكأنهما شاهدا مَلَكين من الملائكة، وبعد أن تبودلت النظرات رقت القلوب وسلكت أرواحهم طريق الحب. ومن شدة هيامهما وقعا مغشياً عليهما، ولما أفاقا وجدا نفسيهما وحيدين وقد تبدل خاتميهما. وبعد أن تفحص تاجدين خاتمه وجد اسم (ستي) منقوشًا في باطنه ووجد مم اسم (زين) مكتوباً على خاتمه، وهنا أدركا أن صاحبي الخاتمين هما فتاتان تنكرتا في زي شابين.

ترك اللقاء أثراً كبيراً في قلبي الفتاتين، وتمكنتا بواسطة مربية عجوز من معرفة الشابين، وأخبرتهما العجوز بأن الفتاتين أحبتهما وهما مستعدتان للزواج بهما. عم الفرح قلبي الشابين ببعد أيام من العذاب والاضطراب. وأرسل تاجدين وفداً من الأعيان لخطبة (ستي) من الأمير، فوافق على زواجه منها، وجرت مراسيم الزفاف بصخب وأُبهة.

كان للأمير بواب أو حاجب ماكر نمام يدعى (بكر) يكن لتاجدين حقداُ كثيراً، ويحاول الإيقاع به في كل مناسبة، فأتى يوماً إلى الأمير ليسمم أفكاره وليعبر عليه مكائده فقال له: إنك أيها الأمير قد تسرعت بتزويج شقيقتك لتاجدين فلم يكن يليق بها إلا الملوك والقياصرة، وما تاجدين إلا من خدم الأمير، فأجابه:

أيها الأحمق ما ينفعني القياصرة والملوك عندما تحتدم المعارك؟ من لي بحمل السيف غير تاجدين ومم والآخرين؟ إلا أن بكر قال له بخبث:

نعم، أيها الأمير، لكن أمثال هؤلاء لا يستحقون الإحسان الذي تغمرهم به، فمن يوم ما أغْدقتَ على (تاجدين ابن اسكندر) النعمة أصابه الغرور وسيأتي يوم لا محالة ينافسك فيه على العرش!

رد عليه الأمير: كيف؟

أجاب: عندما زوّجته من شقيقتك الكبرى “ستي” قام بإهداء شقيقتك الصغرى “زين” إلى صديقه مم!!

عندها غضب الأمير غضباً شديداً، وأقسم أن يمنع زواج مم من زين مهما كانت الظروف والأحوال.

بقيت زين كسيرة الخاطر، بائسة، وهي تعلم أن حظها من الحياة هو مكابدة العذاب والحرمان. أما مم الهائم الممنوع من الوصال، فيتجرع الألم والعذاب.

في أحد الأيام خرج الأمير مع حاشيته إلى الصيد، وأرادت زين أن تتمشى في حديقة الأمير الواسعة، وأثناء تجوالها رأت مم يأتي صوبها ليتم اللقاء بينهما، فكان لقاء الحب الخالص، الذي زاد في لهيب قلبيهما اشتعالاً، وعندما تركا الحديقة ورجعا إلى القصر سمعا وقع أقدام حشد غفير مع صوت الطبول والنقارات والأبواق، وأسرع مم بالاتكاء على أحد أعمدة القصر وأخفى زين تحت عباءته الفضفاضة، ولم يتحرك من محله رغم مجيء الأمير ومعه تاجدين وبكر وجمع من الحاشية. وعندما سأله الأمير عن سبب وجوده في القصر أجابه:

أن مرضه قد اشتد عليه فجاء إلى حديقة الأمير للتفريج عن نفسه بالتفرج على الأزهار والأطيار ولصيد ما تصل إليه يده ما دام الأمير قد خرج إلى الصيد، وقد رأى في حديقة الأمير غزالاً أبيض غاب قبل مجيء الأمير بفترة وجيزة. فأدرك تاجدين مغزى كلامه، لكنه ترجى الأمير أن لا يحمل هذيان مم المريض محمل الجد، وهرول مسروعاً إلى داره المجاورة للقصر وأشعل فيها النار وتصاعد الدخان وعلت صيحات النجدة لإطفاء الحريق، فهرع القوم إلى الدار المحترقة وخلت الساحة لزين كي تخرج من مكمنها وتنجو بنفسها نتيجة تضحية تاجدين.

في أحد الأيام أخبر بكو الأمير بأن مم تحدى قراره ولم يترك حب زين، وقد انتشرت قصة حبهما بين الرعية، وما زال يأمل بالزواج منها. فاستشاط الأمير غضباً، فقال له بكو حتى يكتشف الأمير بنفسه تعلق مم بحب زين، أطلب من الحاشيته أن يعدوا له مجلساً مع مم ويوصيهم بأن لا يتسرب خبر الدعوة إلى تاجدين.

عندما حضر مم إلى المجلس طلب منه الأمير أن يلعب معه الشطرنج بشرط أن يلبي المغلوب طلب الغالب. وكان بين حرس الأمير فتى يدعى كوركين على صداقة حميمة مع مم استطاع أن ينسحب من المجلس خلسة ويخبر تاجدين وإخوته بالمكيدة، أسرع تاجدين وإخوته بالوصول مدججين بالسلاح، وتغلب مم وربح لثلاثة أشواط. إلا أن بكراً المفسد لاحظ زين تتفرج عليهم من نافذة مقابلة لهم، فانتهز الفرصة وطلب من الأمير تبديل مكان مجلسه مع مم ويواصلان اللعب، وما إن جلس مم قبالة الشباك ووقع بصره على حبيبته حتى فتر ذهنه عن مواصلة اللعب، وغلبه الأمير ستة أشواط، وغنم الأمير الفرصة لتحقيق مأربه فطلب منه تنفيذ الشرط الذي هو إخباره عن اسم الفتاة التي يحبها ليتمكن من تزويجه بها.

وبصراحة تامة كشف مم حبه لزين… بدى الانزعاج على الأمير من كلام مم واعتبرها انتقاصاً من هيبته، ومن شدة غضبه أمر الخدم بإلقاء القبض على مم وقتله… نهض مم شاهراً خنجره، وقام تاجدين وإخوته بالوقوف أمام مم وطلبوا من الخدم الامتناع عن أي فعل يسيء إلى مم، لكنهم لم يستطعوا المضي إلى أبعد من ذلك تجاه حكم الأمير، وقال تاجدين إنه ليس ضد أوامر الأمير، فأمر الأمير بحبس مم في أحد أبراج القلعة.

عانى مم في سجنه المظلم، وكابد آلام الفراق عن زين ورفاقه، لكنه أحال زنزانته إلى صومعة ليخلو بنفسه مع الله، لا يفكر إلا بالحب الخالص المرتفع فوق الأغراض الدنيوية، ومن جهة أخرى فإن زين عانت العذاب والألم بعد فراق مم، وحرمت على نفسها كل معالم الفرح، لكنها أعطت النموذج الحسن في صبرها ونكران الذات في سبيل حبها، فجلبت عطف الكل بمن فيهم شقيقها الأمير.

أثر فراق مم في تاجدين كثيراً، ورغم مساعيه الكثيرة لم يتمكن من عمل شيء لإنقاذه من السجن، وفي أحد الأيام قرر مع إخوته أن يقابلوا الأمير ويطلبوا منه بإلحاح ينم عن القوة إطلاق سراح مم، وأمام هذا التصميم القوي استجاب الأمير لطلبهم بعد أن أيقن بأن حب أخته لــ مم طاهر فوق الشبهات، ووافق على زواجهما.

ذهبت زين بكامل زينتها إلى السجن لتنقل بنفسها إلى مم الخبر السار، لكنها وجدته جثة هامدة. فكانت الفاجعة، ولم يتمالك تاجدين نفسه وهجم على بكر وأرداه قتيلاً. لكن زين استغفرت له وطلبت أن يدفن على مقربة من قبر مم، وتحت أقدامه دفن بكر. ولدى حضور زين مراسيم دفن جنازة مم ولمسها لشاهدة قبره لم تستطع أن تتمالك المشهد، فأسلمت الروح فوق قبره، وطلب الأمير أن تدفن زين بجانب مم في القبر نفسه ….

وبقيت قصة عشق مم وزين خالدة في القلوب لأنها تمثل النبل والطهر والتضحية.

مضمون ومغزى القصة:

تصوير للحياة المدنية والحضارية في إمارة بوتان وعاصمتها مدينة (جزيره)، من عادات الصداقة والإخلاص وتقاليد الأعراس والأعياد والألعاب، وعرض موضوع الحب في صورة راقية تظهر دور المرأة الإيجابي في الحياة ـ مع تجسيد رموز الإخلاص والوطنية.

ويمثل “مم” أفراد الشعب المخلصين والمتفانين في سبيل نيل الحرية، بالرغم من التضحيات والعذاب الذي كابدوه في سبيلها، واللجوء إلى القوة في النهاية لتحرير مم من السجن من قبل ممثلي الشعب والقوات المحاربة… يقول باسيل نيكتين: “خاني يصور في ملحمته الشعرية (مم و زين) بكردستان، وكأنها سجين مقيد بالأغلال، وأنه يبين لنا الوسائل والسبل التي ينبغي اللجوء إليها من أجل انقاذ الوطن”.

قصة “الوزير و العجوز

من عادة أمير أحد الإمارات الكردية قديماً، التجول في المدينة والاطلاع على أحوال الرعية، فطلب من وزيره تجهيز موكبه لتفقد أحوال الرعية.

في اليوم التالي تحرك الموكب إلى المدينة واستقبل الموكب من قبل الناس بالأهازيج والترحيب الحار لاهتمام الأمير بهم، وسؤاله دائماً عن أحوالهم ومعيشتهم والاستماع إلى طلباتهم.

أثناء سير الموكب في أحد الأزقة خرج أحد العجائز وهو يسحب بحماره وراءه يحمل براميل ماء للبيع فقد كان يعمل سقا، مما تسبب بتوقف الموكب، فتدخل الحراس لإبعاد العجوز عن الطريق، وبينما العجوز يعتذر منهم، طلب الأمير من الحراس أن يتوقفوا عن إبعاد العجوز لأنه يريد محادثة العجوز، فجاؤوا به إليه، ودار بينهما الحديث التالي، بدأها الأمير متسائلاً:

ألم تزرع مبكراً أيها السقا؟ 

العجوز: بلى سيدي، فقد زرعت مبكراً، ولكنه نبت مؤخراً..

الأمير: هل هو مهر أم ظهر؟

العجوز: إنه مهر أميري العزيز 

الأمير: وما أحوال البعد؟ 

العجوز: البعيد أصبح قريباً جداً سيدي.

الأمير: وما أخبار الاثنان؟

العجوز: لقد أصبحا ثلاثة أميري. 

أثناء المحادثة اقترب الوزير وهو ينظر لهما، تارة إلى الأمير وتارة إلى السقا العجوز، ولكنه لم يفهم شيئاً، ويتحرق إلى استيعاب الحديث بين شخصين لم يلتقيا قبلاً وليس بينهما معرفة سابقة… وأخيراً قال الأمير للسقا العجوز: لا تبيعه رخيصاً!

وأكمل الموكب طريقه حتى انتهى ورجعوا للقصر…

وفي المساء اقترب الوزير من الأمير واستفسر عن لغز الحديث الذي جرى بينه وبين السقا العجوز، ولكن الأمير رفض، وقال له:

إنك وزير فكيف لم تفهم الحديث وأنت معي ما يقارب السنين!

خجل الوزير وانسحب بهدوء إلى منزله… ولكن عزّ عليه النوم عندما حان وقته، حاول أن ينام ولكن هيهات، لأن نيران الفضول قد اشتعلت في جسده، فنادى على حراسه، وخرج في ذلك الوقت المتأخر من الليل، وتوجه إلى منزل السقا العجوز…

استفاق العجوز مذعوراً ومرعوباً من صوت الحراس وهم يطلبون منه فتح الباب، فهرول المسكين وفتح الباب فإذا بالوزير بشخصه، اعتقد العجوز بداية أنه بسبب عرقلته لموكب الأمير جاء الوزير، فأخذ يعتذر متوسلاً، ولكن الوزير طمأنه وأخبره أنه جاء لكي يشرح له ما جرى بينه وبين الأمير.

ولكن العجوز استسمح من الوزير بأنه يريد 500 قطعة ذهب مقابل ذلك، فقال له الوزير إنه كثير، فطلب منه العجوز أن ينسى الأمر إذا كان لا يهمه، ولكن الوزير وافق وطلب منه أن يشرحها له وغداً يأتي إلى ديوانه ليأخذ الذهب، ولكن العجوز رفض وقال:

وإن لم تعطني فمن سيصدق أن فقيراً مثلي له دين ب 500 ذهبة عند الوزير؟ فاقترح على الوزير أن يأتي بالذهب غداً مساءً ويأخذ الشرح…

وافق الوزير على مضض ومضى، وفي اليوم التالي أخذ الذهب وأعطاه للعجوز، ولكن العجوز طلب منه أن يعود في الغد لأنه لا يأمن الوزير فربما بعد أن يأخذ الشرح يرسل بحراسه ويأخذون منه الذهب ويضربونه، ولذلك فهو يحتاج يوماً آخراً حتى يخبئه في مكان أمين…

غضب الوزير، ولكن ما باليد حيلة فرجع مرة أخرى، وأصبح يعد الساعات حتى حان موعده، وهنا أدخله العجوز للمنزل وجلبت زوجته الشاي للوزير الضيف، فبدأ العجوز بشرح الألغاز:

أولاً: عندما رآني الأمير بتلك الحالة حزن لأجلي فقصد بكلامه “ألم تزرع مبكراً؟”، أي ألم تتزوج مبكراً؟ فأجبته إنني زرعت مبكراً ولكنه أينع مؤخراً، أي أنني تزوجت مبكراً ولكن أطفالي ولدوا مؤخراً.

ثانياً: عندما سألني “هل هو مهر أم ظهر؟” أي هل هم فتيات أم ذكور؟، فأجبته إنه مهر أي فتيات..

ثالثاً عندما سألني “ما أحوال البعيد؟”، أي كيف هي عيناك وهل ترى جيداً؟ فأجبته لقد اقترب البعيد جداً، أي إنني بالكاد أرى إمامي ولا أرى البعيد واضحاً.

رابعاً: عندما سألني “ما هو أخبار الاثنان؟” أي أقدامي، فأجبته لقد أصبحا ثلاثة، أي أستند على العكازة.
خامساً: وهو متعلق بك وزيري الكريم، لأن الأمير أحس بلهفتك على معرفة تلك الألغاز، لم يخبرك لكي تتوجه إلي، وهنا أراد مساعدتي فطلب مني “أن لا أبيعه رخيصاً”، أي أن آخذ منك ذهباً كثيراً أعيل به نفسي وأولادي إلى أن يكبروا وأرتاح في خريف العمر…

مغزى القصة:

حكمة الأمير وسرعة بديهة العجوز، وقلة خبرة الوزير…

أراد الأمير مساعدة العجوز الفقير عن طريق معاقبه الوزير بدفع مبلغ من المال للعجوز، وذلك بسبب قلة فراسة الوزير الذي عليه أن يفهم الأمور بحكم منصبه.

المعرفة والذكاء لا يتعلقان بالمنصب، وإنما بالفراسة والخبرة.

نوابغ وشخصيات أدبية كردية

الكرد والتراكم المعرفي

العلاقة الوطيدة والوثيقة، بين القراءة والكتابة، وآثارها على التطوير في سائر حقول المعرفة، تنطلق من ما يسمى ب “الوعي”، وهو من نتاج العقل، مثل: التأمل والتفكير، الذاكرة والسلوك، التحليل واستنباط القواعد والمعادلات، ربط المقدمات بالنتائج، ثم اتخاذ القرارات. لذلك تكون الخطوة الأولى للعقل هو وعي الذات أولاَ، ومن ثمّ إدراك ومعرفة البيئة والمحيط تالياَ.

إن الوسيلة التي تحقق العلاقة الآنفة الذكر هي القراءة في كتب الوجود الكوني، بأشكالها المختلفة، وما يبنى عليه من عالم مخيالي افتراضي، سواء أكان ذلك المخيال شعرياً أو صورياً، وهي تعتبر منصة الانطلاق نحو الإبداع الأدبي أو العلمي بداية، ومن ثم ليشمل الحقل والحيز الفسيح للثقافة عموماَ، وبالتالي منطلقاَ نحو الإبداع والاختراعات العلمية والتكنولوجية، التي تخدم المجال البشري بعمومه.

ولذلك فإن التراكم المعرفي يأتي أولاَ، يليه الارتقاء بالمعرفة ثانياَ، والكتابة هي الجسر الذي ينقل المعرفة من السلف إلى الخلف، لكي يبنوا عليها، ويضيفوا إليها.

يرى العالم الأنثروبولوجي “فيليب ديسكولا” بأنَ هناك زمنان: زمن خطي، وزمن تراكمي… أي أنّ المجتمعات التي لا تجيد إلاّ القراءة، يكون زمنها خطياَ، تتسم ثقافتها بالشفاهة والضحالة، وعرضة على الدوام للنسيان والزوال، وكأنّ زمنهم هذا ساكن، ولا يعوّل عليه للتقدم والارتقاء، أما المجتمعات التي امتلكت أدوات وآليات الكتابة في التدوين والتوثيق والتخزين، فهي تمتلك خزاناً معرفياً، يمكن تسميته بالذاكرة الجمعية لأي تكتل، أو مجموعة بشرية، والكتابة تزيد من استمراريته، وتنقله إلى الأجيال المتعاقبة، هذا الخزان هو ما يعول عليه، كمنصة تنطلق منه الأجيال اللاحقة، إلى مواقع وآفاق جديدة ومتقدمة.

ولنعترف بأن هذا التراكم المعرفي، قد حُرِمت منه الذاكرة والحاضنة الثقافية الكردستانية، نتيجة افتقادها لأدوات التدوين والتوثيق لفترات طويلة، ولو أنها كانت متقطعة، وترافقت مع فقدان آليات الحكم والسيادة في غياب كيان الدولة الكردستانية، بعد انهيار الدولة الميدية، والتي ساهمت سلباَ على التراكم المعرفي بشكل عام.

أن اللغة هي جوهر الهوية (ناسنامة بالكردية) لأي أمة، وهي حاوية وحاضنة تاريخ وتراث وآداب وأفكار هذه الأمة، أي حاضنة البنية التحتية للأمة، هذه البنية تحركها وتدفعها، الملكات والغرائز الفطرية، التي تهدف إلى تأمين مستلزمات ومقومات البقاء والاستمرارية، إلى جانب بنية أخرى هي البنية الفوقية، والتي هي نتاج العقل والفكر الجمعي لهذا المكون البشري، والتي تهدف إلى ترويض وتطويع الملكات الفطرية والغرائز، والارتقاء بها وتهذيبها، وكلا البنيتين في تفاعل، وتأثير متبادل، ومستمر، بعلاقة طردية، أي أن ضمور وانحسار أي منهما يؤثر سلباَ في الأخرى، كما إن تطور وازدهار أي منهما، يؤثر إيجاباَ في الأخرى.

نوابغ ساهموا في الترا كم المعرفي الأدبي الكردي

إن بدايات التدوين في الثقافة الكردية، يعود إلى عصر الدولة الميدية. والأبجدية الكردية كانت تستعمل حتى عصر الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، فقد كتب أحمد بن وحشية النبطي الكلداني، في كتابه (شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام) في سنة “241 ه – 856م”، موضوعاَ عن الأبجدية الكردية، قائلاً: لقد رأيت /30/ مجلداً من الكتب الكردية مكتوبة بالحروف الكردية، (يوجد في الشام/ دمشق أحد هذه الكتب عنوانه “غرس النخي”) وقد نشر الكاتب الكردي “محـمد الملا عبدالكريم” صورة أبجدية قديمة نقلاً عن كتاب إبن وحشية، وفيها دوَّن إبن وحشية، مقابل كل حرف من حروف هذه الأبجدية الكردية ما يقابله من الحروف العربية.

أصبحت اللغة العربية، هي اللغة الرسمية لجميع الشعوب الإسلامية غير العربية، وخاصة عندما تم تعريب دواوين الحكم في الأقاليم في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، حيث كانت لغة الدواوين تكتب باللغات المحلية، فكانت دواوين الشام تكتب باللغة اليونانية، ودواوين مصر تكتب باللغة اليونانية والقبطية، ودواوين العراق تكتب باللغتين: الفارسية “الفهلوية” والكردية.

وفي مناطق كردستان كانت اللغة الكردية هي لغة الدولة في دفاتر ديوان الخراج، حتى عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، وتنفيذاَ لسياسة تعريب الدواوين قام الحجاج بن يوسف الثقفي (والي العراق)، بإرسال “صالح عبد الرحمن” بديلاَ عن مسؤول ديوان الخراج الكردي واسمه (زادان مه روخ) الذي تعامل مع مسؤول الخراج الكردي خلال استلام المهام، بخشونة وقلة احترام، الأمر الذي أدى إلى الخلاف بينهما، فأمر الحجاج بقتل زادان. وتم ترجمة جميع الدفاتر وأمور الدولة إلى اللغة العربية، ومنعت ترجمة القرآن إلى اللغات غير العربية في تلك العصور، وحتى الأحاديث النبوية، وكتب التفسير.

كل إجراءات التعريب ساهمت في تطوير اللغة العربية، ولكون الأبجدية العربية هي لغة القرآن وتفسيره ولغة الحديث، وفرضت فرضاً على الشعوب الإسلامية، استبدلت هذه الشعوب بالأبجدية العربية مع إضافة بعض الأحرف لتتلاءم مع المخارج الصوتية للغتهم، فمثلاً: العثمانيون أضافوا سبعة أحرف إلى الأحرف العربية لتصبح 35 حرفاً بدلاً من الـ 28 العربية، إلى أن استبدلها “أتاتورك” بالأبجدية اللاتينية عام 1928 م، والفرس أضافوا اربعة أحرف، والكرد أضافوا عليها عشرة حروف، وما زال بعض الكرد يكتب بها، أما الغالبية فتستخدم الأبجدية اللاتينية في الوقت الراهن.

شخصيات أدبية:

الأدب الكردي المدوّن، منذ نشوئه وحتى القرن الرابع عشر الميلادي، إبتدأ بالشاعر الصوفي بابا طاهر الهمداني(937 – 1010)م، ومروراً بشعراء اليارسان (أهل الحق) الآخرين، خلال (901-1600)م، وأبرزهم:

بير شاليار (1006-1098)م، شاخوشين (1015-107م)م، سلطان إسحق (1272-1388)م، عابدين الجاف (1320-1394)م، بابا يادكَار (1359-1480)م وانتهى بالشاعر بابا جليل ددواني (1478-1560)م.

و من القرن الرابع عشر حتى القرن الثامن عشر الميلادي، فإن أبرز الشعراء باللهجة الكَورانية (وكانت سائدة لقرون عدة كلهجة أدبية في بقاع واسعة من كردستان) هو الشاعر الصوفي الملاّ بريشان (1356-1421)م، ومروراً بالشعراء: عيل بك الجاف (1492-1553)م، بيساراني (1643-1791)م، ألماس خان(1702-…)م، ولي ديوانة (1745-1801)م، وانتهى بالشاعر رنجوري (1750-1809)م.

أما في بدايات القرن التاسع عشر وحتى نهايته فكانت النهضة الشعرية في جنوبي كردستان في ظل الإمارتين البابانية والأردلانية، حيث تناول أوضاعهما السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مع بروز الحركة الصوفية (الطريقتين القادرية والنقشبندية)، ومن أهم الشعراء في هذه الحقبة:

نالي (1800-1856)م، سالم (1805-1869)م، كردي (1812-1850)م

 والثلاثة يعتبرون من أعلام النهضة الشعرية باللهجة الأدبية الفتية وهي السورانية (الكرمانجية الوسطى).

أما غلام رضا أركوازي (1775-1840)م، ميرزا جامريزي (1776-1836)م، صيدي هورامي (1784-1848)م، كوماسي (1798-1878)م، مولوي (1806-1882)م، فأشعارهم باللهجة الكَورانية (الهورامانية) التي كانت ماتزال سائدة أدبياً في بقاع أوسع من إنتشار اللهجة السورانية.

وفي هذه الحقبة أيضاً يبرز شعراء في مناطق أردلان، موكريان، سوران وكرميان، ومن أبرزهم:

حاجي قادر (1816-1897)م، فـقي قادر هموندي (1830-1890)م، محوي (1831-1906)م، الشيخ رضا طالباني (1837-1910)م، وفائي (1844-1902)م، سالم سنه (1848-1911)م. ومن خراسان؛ جعفر قلي زنكلي (1814-1905)م.

أما في شمالي كردستان حيث اللهجة الكرمانجية التي أصبحت لهجة أدبية مدوّنة منذ أوائل القرن الرابع عشر الميلادي، فإن نهضة الأدب الكردي كانت من قبل أبرز شعرائها، من أمثال:

علي الحريري (1530-1600)م، ملاّ احمد جزيري (1567-1640)م، فقي تيران(1650-1707)م، أحمدي خاني(1650-1707)م، ملاّ احمد باتيي (1675-1760)م، علي ترموكي (1592م – ؟)، إسماعيل بايزيدي (1654- 1709)م، شريف خان (1689- 1748)م، مراد خان البايزيدي (1737- 1784)م، ملا محمود بايزيدي (1797–1868) م، ملا يونس الهلكاتيني، بيرتو هكاري (1756-1825)م.

أما أحد أبرز شعراء الكرمانجية الشمالية (لهجة قديمة) فهو وداعي (1790-1850)م.

*****

المصادر و المراجع:

1. الواقعية في الأدب الكردي – الدكتور عزالدين رسول 1964.

2. تاريخ الأدب الكردي – الأستاذ علاء الدين سجادي.

3. القضية الكردية – د. بله ج شيركوه.

4. الأكراد “تاريخ شعب وقضية وطن” – احمد تاج الدين.

5. القاموس الكردي الحديث – علي سيدو الكوراني.

6. تاريخ الأكراد – توماس بوا (ترجمة محمد تيسير ميرخان).

7. تاريخ الكرد وكردستان – باسيل نيكيتين.

8. محـمد أمين عثمان ـ مم وزين، شرح وتحقيق، بغداد، 1990م.

10. علي سيدو كَوراني ـ من عمان إلى عمادية، مطبعة السعادة، مصر، 1979م.

11. د.شاكر خصباك ـ الأكراد دراسة جغرافية أثنوغرافية، بغداد، 1972م.

12. الشرفنامة من تأليف الأمير شرمخان البدليسي، تعريب ملا جميل روزبياني، بغداد، 1953م.

13. محـمد سعيد رمضان البوطي، مم وزين، تأليف أمير شعراء الكرد وأدبائهم أحمد خاني، بيروت، دار العلم للملايين.

14. الأكراد – مينورسكي.

15. العقد الجوهري – ملا احمد زفنكي.

19. “سياحة أوليا چلبي في كوردستان” ترجمة سعيد ناكام.

20. رؤوف عثمان “الأدب المقارن والنقد التطبيقي في الأدب الكوردي”.

22. “تاريخ الأدب الكوردي”، الأستاذ الدكتور معروف خزندار.