1- حكايتي مع الجثث
أجد جثثاً أحياناً في بيتي. أعثر عليها في أماكن متفرّقة. في المطبخ. أو داخل خزانة الملابس. أو في علبة القهوة. أو خلف أحد الكتب. أو أسفل المغسلة..
جثثٌ صغيرةٌ جافّة..
لا أعرف كيف كانت تصل هنا!
– من الذي يلقيها؟
سألتُ نفسي في البداية. ثمّ كففت. قلت:
– ليست مشكلتي. هنالك من بإمكانه أن يتولّى الأمر خيراً منّي..
وكنت أحملها إلى الشرطة. وكانوا يستلمونها منّي. يضعونها داخل مرطباناتٍ زجاجيّة، ثمّ يكتبون لي إيصالاً، ويعدونني أن يتّصلوا بي إذا احتاجوا إليّ..
لكنّهم لم يفعلوا أبداً. وبدوري لم أتابع الموضوع. قلت:
– قمتُ بما عليّ. وهو عملهم في النهاية. يعرفون ماذا يفعلون..
إلى أن اكتشفت أنّهم يلقون بها في مخازنهم، كما قد يفعلون مع الكثير من الأشياء. ثمّ ينسونها. وعندئذٍ قرّرت أن أحتفظ بالجثث لنفسي. لم يهن عليّ أن تنتهي هذه النهاية البائسة. أن تتحوّل إلى مجرّد لُقى في مخزنٍ معتم..
كنت ألتقطها. أجرّدها من ملابسها التي غالباً ما تكون باليةً، أو ممزّقةً، أو مدمّاة. أدهنها بمراهم مطرّيةٍ، ثمّ أخيط لها ملابس جديدةً بعد أن آخذ مقاساتها. وأراعي دائماً ذوق الجثّة نفسها. أنظر في ملامح وجهها جيّداً. في عينيها خصوصاً، وأقدّر أنّها من النوع الذي يحبّ الألوان الفاقعة مثلاً. أو الهادئة. أو يميل إلى الملابس الرسميّة. أو الرياضيّة الفضفاضة.. أهتمّ بالنساء على نحوٍ دقيق. منهنّ من تفضّل الملابس الفاضحة. وهؤلاء بالذات كنت أوليهنّ عنايةً خاصّة. أعلم كم هنّ متطلّبات. ومشاكسات. وسريعات الغضب..
ثمّ.. أوزّع الجثث على أرجاء المنزل، بعد أن أختار لكلٍّ منها الوضعيّة التي أقدّر أنّها تعبّر عن شخصيّتها.. جثّة على السرير في المشفى. أو على الأريكة تشاهد التلفزيون. أو تقرأ. أو تستحمّ. أو تعدّ طعاماً في المطبخ. أو في الخندق تطلق النار على عدوٍّ ما..
أمتلك المئات من الجثث. يكلّفني الاحتفاظ بها مالاً كثيراً. ووقتاً أيضاً. لكنّني أتدبّر أمري..
حكايتي مع الجثث..
لم يبق منها سوى هذه الذكريات أستعيدها وأنا سجين هذا المرطبان الزجاجيّ على رفٍّ في مخزن الشرطة.. أحدهم وجدني في جيب سترته وهو يفتّشها قبل إرسالها إلى الغسيل..
2- صدأ في الرأس
لديّ الكثير من الذكريات. مخزنٌ هائلٌ هنا في رأسي. أحملها معي من مكانٍ إلى آخر..
لا أدري ماذا أفعل بها..
أستخدم بعضها في صناعة حكاياتٍ أبيعها على شكل قصصٍ قصيرةٍ أو روايات. وأكسب منها مالاً..
الذكريات الغامضة أصنع منها قصائد. أكتبها بخطّ يدي، وأطيّرها في الهواء..
أستغلّ أحياناً صداقة أحدهم، فأدعوه إلى بار، وأنتظر ريثما يسكر، فأهجم عليه بذكرياتي. أغرقه بها، ولا أدعه حتّى يبكي..
هنالك ذكرياتٌ أعثر عليها مصادفةً. أستغرب أنّها لي. هذه بالذات ألتقطها فرحاً بها في البداية. أحاول أن أجلو الصدأ العالق فيها. أقلّبها كلّ يومٍ مراراً، وفي النهاية أعيدها إلى مكانها عميقاً، وبعيداً، إلى أن تختفي ثانيةً..
بعض الذكريات أستعمله كدواء. يحدث ذلك عندما تهجرني امرأةٌ أحبّها. ألتهم كميّاتٍ كبيرةً منها. جرعةٌ كلّ خمس دقائق. وأقول:
– كم كنت سعيداً مع هذه المرأة!..
هنالك ذكرياتٌ كاذبة، أخترعها، وأرويها لأولادي وأحفادي عندما يسألونني عن الشجاعة والذكاء والشرف خصوصاً..
وذكرياتٌ أخرى أتعامل معها بحذرٍ شديد. أعلم أنّها شديدة الخطورة. أحتفظ بها كعقاقير سامّة، وأحتاط كلّما اقتربت منها..
ذكرياتي التي لا أدري كيف أتخلّص منها.. أستهلك منها الكثير، وتظلّ على حالها. لا تنقص شيئاً..
والغريب أنّني متّهمٌ بالنسيان!!..
3- هلام الذكريات
في عائلتنا نحبّ اللحم كثيراً. لكن يبقى للحم البشريّ مذاقٌ خاصٌّ يضعه في الصدارة دائماً، وبلا منافسة..
ومع ذلك فنحن لا نتناوله إلّا في المناسبات.. الأعياد. حفلات الزواج. مولودٌ جديد. ضيفٌ عزيز. فوز النادي الذي نشجّعه بمباراةٍ حاسمة.. وما أشبه ذلك..
ولا نشتريه من السوق. عبقريّة المذاق في اللحم البشريّ تكمن في طزاجته. يخرج الوالد عندما نقرّر أن المناسبة تستحقّ، مسلّحاً بمديةٍ فقط. لا يستعمل البندقيّة إطلاقاً. يقول إنّ دخان البارود يفسد اللحم. يخرّب نكهته الأصليّة. يجعل طعمه واخزاً كما لو أنّه مطبوخ بالخلّ..
خبرة والدي بلحم البشر – وليس هذا من باب الادّعاء – واسعةٌ جدّاً. وبحكم هذه الخبرة فإنّه يميل إلى الفرائس ذات العمر الأصغر، لأنّها سريعة النضج. كما أنّها قليلة الملح، وهو أمرٌ مهمّ بالنسبة لمن يحرص على صحّته..
يأتي والدي بالفريسة. يقوم هو نفسه بتقطيعها. والعمليّة ليست سهلةً أبداً. تحتاج إلى مهارةٍ خاصّةٍ، حيث لا بدّ من الحذر في التعامل مع أجزاء معيّنةٍ من جسد الفريسة. القلب على سبيل المثال. ذلك أنّ قلوب البشر تأخذ وقتاً طويلاً إلى أن تتوقّف عن النبض تماماً. حتّى بعد الموت. تخيّلوا. ولذلك فإنّه يفتح الصدر أوّلاً، وينظر إلى القلب، فإن رآه ما يزال ينبض، فعليه أن ينتظر.. لا أعرف الحكمة من ذلك. أظنّ أنّها حالةٌ نفسيّة. وبكلّ الأحوال فإنّ طبخ قلبٍ ينبض ليس بالأمر المستساغ..
إضافةً إلى القلب فهناك الدموع. والدموع لا تظهر على العينين فقط، وإلّا كان الأمر هيّناً. غريبٌ هذا النوع من الكائنات – البشر. تكتشف أنّهم يذرفون الدموع في أماكن غير متوقّعة. قد تجد الدموع تملأ حجرات القلب، أو في أكياسٍ شفّافةٍ صغيرةٍ معلّقةٍ بالقرب من الحنجرة، وفي بعض الحالات نراها على شكل بودرة ناعمة داخل العظام..
الدموع أيّاً كان مكان وجودها، وأيّاً كان شكلها، خطيرةٌ جدّاً. سامّة. وقد تؤدّي بمن يتناولها إلى الموت. وفي أهون الحالات قد تصيبه بالجنون.. لذلك لا بدّ من الحذر.. لا بدّ من تنظيف الفريسة تماماً، وتخليصها من أيّ أثرٍ لها..
يلي ذلك، من حيث درجة الخطورة، الذكريات. وكلّما كانت الفريسة متقدّمةً في العمر ازدادت كميّة ذكرياتها. وهذا أحد الأسباب التي تجعل الوالد يفضّل الفرائس صغيرة العمر.
نجد الذكريات على شكل هلامٍ داخل الرأس. وخطورة هذا الهلام أنّه سريع الامتصاص. تتناوله، فيتسرّب فوراً إلى دمك، ومنه إلى رأسك، لتختلط عندئذٍ ذكريات الفريسة بذكرياتك الخاصّة.. ولهلام الذكريات ألوانٌ كثيرة، لكنّ أخطرها وأخبثها ما كان أسود اللون.. وقعت مثل هذه الحوادث مع أشخاصٍ لا يمتلكون الخبرة الكافية في إعداد اللحم البشريّ، واحتاجوا إلى سنواتٍ إلى أن تخلّصوا من أثر هذه الذكريات السيّئة..
وينصحنا الوالد بأن نتفحّص عيني الفريسة جيّداً. قد نجد تحت الأجفان قطعاً ملوّنة. يقول إنّها ظاهرةٌ غريبةٌ لا توجد إلّا عند هذا النوع من الكائنات. يقول إنّها الأحلام. وهذه ينبغي التخلّص منها أيضاً. ليست خطيرةً جدّاً، لكنّها تسبّب نوعاً مزعجاً من الهلوسة..
كما ترون..
ليس سهلاً التعامل مع اللحم البشريّ..
لكنّه ممتعٌ في الواقع..
إحساسٌ لا يوصف، وأنت تغامر، وتقامر. تلتهمه وأنت خائفٌ من خطأٍ ما ربّما تكون قد ارتكبته أثناء إعدادك له.. لكنّ اللذّة التي تتحصّل عليها تستحقّ فعلاً..
اللحم البشريّ..
أنصح به..
4- جثّة للتسلية
يحتفظ والدي بجثّة أبيه محنّطةً في قبو المنزل. لا نعرف إن كان هو نفسه من قام بعمليّة التحنيط، أو أنّه استعان بأحدٍ له خبرةٌ في ذلك. حدث الأمر قبل ولادتنا، وعندما كبرنا سألناه لكنّه لم يجب..
كان تحنيطاً مثاليّاً على أيّ حال. جثّةٌ رائعةٌ لم تفقد شيئاً من رونقها رغم كلّ هذه السنوات..
في صغرنا كنّا نظنّ جدّنا لعبةً، ولولا أنّ الوالد كان شديد الحذر لغافلناه، وقفزنا نحو الجثّة لنعانقها. كانت ستتفتّت تحت ثقل أجسادنا بكلّ تأكيد. لكن والدي ظلّ دائم اليقظة، فلم يسمح لنا مرّةً بالاقتراب إلى الدرجة التي تهدّد سلامتها..
شيئاً فشيئاً اعتدنا على القوانين التي وضعها الوالد فيما يخصّ التعامل مع جثّة جدّنا. عرفنا أنّها رغم جمالها تحتاج إلى الكثير من العناية. بالنسبة للغبار فيكفي أن ننفضه عنها باستخدام مقشّةٍ من الريش. أمّا الذباب فلا بدّ من إحكام إغلاق النوافذ كي لا يتسلّل إليها، وفي حال اكتشاف ذبابةٍ في الغرفة فلا ينبغي استخدام أيّ نوعٍ من المبيدات. لا بدّ من مطاردتها والإمساك بها، ثمّ رميها في الخارج..
لم يضايقنا أبداً أنّنا نعيش مع جثّة، فالحقّ أنّها كانت تسلّينا إلى حدٍّ كبير..
منذ أسبوع توفّي الوالد..
سنجد طريقةً لتحنيطه هو الآخر، لكنّ السؤال الذي ينبغي أن نجد إجابةً له قبل أن نتّخذ أيّ قرار:
– ماذا سنفعل بجثّة جدّنا؟ القبو لا يتّسع لكليهما..
النقاش ما زال محتدماً.. وأمّنا في الغرفة الثانية تهشّ الذباب عن الجثّة وتنتظر..