– لجوء
قرّرنا أن نغادر. بحثنا في الخريطة عن أماكن مناسبةٍ فلم نجد. هنالك صحارى فقط. أو جزرٌ صغيرةٌ لا تكفينا. أو مدنٌ ترابط عند أسوارها وحوشٌ تنفث النار من أفواهها..
لكنّنا لم نيأس. قلنا:
– انظروا.. هذه الخريطة ممزّقةٌ هنا.. ثقبٌ صغير.. إلى أين يقود؟
تبادلنا النظرات، وتمتمنا:
– من يدري؟.. قد نجد شيئاً.. لنجرّب..
وزلقنا أجسادنا داخله..
كانت مدينةً جميلةً في الأسفل. أعجبتنا كثيراً. لكنّ الأمر لم يخلُ من أشياء غير مفهومة..
هذا المتحف الكبير مثلاً. دخلناه. كان فارغاً تقريباً. باستثناء تلك الصور المعلّقة على الجدران. صورنا محاطةً بشرائط سود..
*
غبار الكوكب
تمكّنّا أخيراً من النجاة بأنفسنا. غادرنا هذا الكوكب في اللحظة الأخيرة، قبل أن يتحوّل إلى مجرّد غبار..
سفينتنا كانت ضيّقةً، لكنّنا تدبّرنا أمرنا..
قلنا للسائق:
– حاول أن تسرع.. بيننا أطفالٌ، وكبار سنّ، ومرضى..
وكنّا على حقّ. فقد فقدنا بعض هؤلاء، وكنّا نضطرّ إلى التوقّف كلّ مرّةٍ لنلقي بالجثث في الخلاء..
لكنّنا نجونا في النهاية..
التقطتنا مخلوقاتٌ كانت تمرّ بالمكان مصادفةً. ثمّ نقلونا إلى كوكبهم..
كوكبٌ جديدٌ. نظيفٌ. وواسعٌ. بشمسين في النهار، وثلاثة أقمارٍ في الليل، وعشرة أيّامٍ في الأسبوع، وتسعة عشر شهراً في السنة..
أفردوا لنا قارّةً كاملةً تطلّ على بحرين.. واستأذنوا للذهاب إلى أشغالهم..
عشنا حياتنا طبيعيّةً تماماً..
تقاسمنا القارّة.. رسمنا خرائط.. وضعنا حدوداً.. واختلفنا حول الحدود.. ثمّ أشعلنا حروباً.. ومتنا سعداء ونحن ندافع عن الوطن..
*
العائد من الحرب
عاد أخي من الحرب بإصابته البليغة تلك، والتي تسبّبت له بإعاقةٍ قيل لنا إنّها قد تلازمه طيلة حياته. لم نفهم في البداية كيف حدث ذلك، كما أنّهم رفضوا أن يقدّموا لنا أيّ تفسير. تركوا الأمر هكذا، مع اعتذارٍ شديدٍ عمّا حدث له، ووعدٍ بمتابعة حالته كلّما سمحت الظروف..
نحن بدورنا لم نجد فائدةً في إشغال أنفسنا بالبحث عن السبب. توقّفنا عن السؤال حالما وجدنا أنّ ذلك لن يغيّر شيئاً، وقرّرنا أن نوجّه جهودنا لرعايته باعتبار أنّ الحالة تتطلّب يقظةً وحيطةً على مدار الساعة..
مشكلة أخي أنّه لم يعد مرئيّاً.. كنّا نستدلّ على وجوده من خلال بعض الأصوات التي تصدر عنه أحياناً. عندما يسعل مثلاً، أو يعطس، أو يتنهّد، أو يزفر، أو يتأفّف.. وأحياناً أخرى كنّا نشمّ رائحته.. وقد نجد آثار قدميه الموحلتين على السجّادة. عادته القديمة التي لم يتخلّ عنها. ألّا يخلع حذاءه عند الباب.. هنالك أيضاً دموعه التي تعثر عليها الوالدة على مخدّته جافّةً بيضاء ناعمةً كالملح..
وكنّا قلقين بشأن صحّته..
تقول الوالدة:
– كيف يعيش من لا يأكل؟ ثمّ إنّه يطيل الجلوس وحيداً منعزلاً..
وتقترح أن نزوّجه. لكنّ الفكرة مستحيلةٌ طبعاً..
– من المجنونة التي تقبل أن تعيش مع رجلٍ معاق؟
بمرور الوقت اعتدنا على أخي ووجوده الملتبس. أصبح التعامل مع إصابته أسهل إلى حدٍّ ما. بل يمكن القول إنّنا لم نعد نذكر كيف كان قبل تعرّضه لها..
إلى أن فقدناه ثانيةً..
حدث ذلك يوم تشييع الوالدة..
أقوى الاحتمالات أنّه نزل الحفرة يعانق جثمانها.. ثمّ أهلنا التراب عليه دون أن ننتبه..