“صديقي العزيز،
التقيت فرويد بعد ظهر هذا اليوم، وقد تجاوز الانطباع الذي تركه فيّ كلّ ما كنت أتوقعه. أولًا هذه النعومة العظيمة التي في داخله، جنبًا إلى جنب مع كثير من القوة. نشعر بذلك عبر “تعاطفه” مع كلّ الإنسانية التي كان قادرًا على فهمها، والتي لا نشكل نحن فيها سوى قطعة غير محسوسة”.
يعود تاريخ هذه الرسالة إلى يوم 30 سبتمبر/ أيلول من عام 1925، وقد كُتبت في فندق بريستول في مدينة فيينا النمساوية. لم تكن كاتبتها سوى ماري بونابرت، وقد بعثت بها إلى رينيه لافورغ، أحد أوائل المحللين النفسيين الفرنسيين. هي رسالة، يمكن لنا أن نراها مفصلية، أو حتى تاريخية، إذ تفتتح صداقة طويلة بين ماري، أميرة اليونان والدنمارك، وسيغموند فرويد، محللها النفسي ومعلمها. ومع ذلك، كانت كلّ الدلائل تشير إلى أنه من الصعب جدًا أن يجتمع هذان الشخصان، المفترقان إلى درجة النقيض، إذ يقف كل واحد منهما إلى جانب مختلف عن الآخر.
ولدت ماري بونابرت عام 1882 في سان ـ كلو (بالضواحي الباريسية، على بعد 10 كيلومترات تقريبًا من كاتدرائية نوتردام). هي الابنة الوحيدة للأمير رولان بونابرت، ابن شقيق الإمبراطور نابليون، وماري فيليكس بلان، الوريثة الثرية، التي توفيت بعد شهر من إنجابها. أمضت الأميرة الصغيرة طفولتها بين مربيات مختلفات، وبين خدم من بينهم باسكال، وهو ابن زنا من جد ماري، بيير بونابرت، قاتل الصحافي فيكتور نوار. كانت في السابعة من عمرها، حين بدأت ماري في كتابة ما أسمته “حماقات”، على دفاتر صغيرة ذي أغلفة سوداء، سجلت فيها كل خيالات وفانتازيات طفولتها الحزينة، إلا أنها كتابات كانت تتمتع بخيال غنيّ، وقد شكلت مادة أساسية في علاجها التحليلي النفسي، وقد نُشرت بين عامي 1939 و1951.
كانت ماري بونابرت تبحث دائمًا عن صورة أبوية محبوبة ومُرضِية، وهي التي كانت تشك دائمًا في جسدها، كما في قدرتها على الإغواء. لذا كان من الممكن أن يتوافق خطيبها المستقبلي مع هذه الصورة التي لطالما رغبت فيها كثيرًا. من هنا جاء هذه الخطيب عبر من اختاره والدها لها: الأمير جورج، أمير اليونان والدنمارك. تزوجا في عام 1907، ورُزقا بطفلين، أوجيني، وبيير. وإذا لم يحقق الأمير جورج كل تطلعات زوجته، إلا أنه بقي “رفيقها المخلص” حتى نهاية حياته.
خلال الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)، قامت ماري بتمويل المستشفيات، وكذلك الصليب الأحمر. ارتبطت مع غوستاف لوبون (1841 ـ 1931)، مؤلف كتاب “علم نفس الحشود” (1895)، بعلاقة ابنة بأبيها الروحي، إذ كانت على مقربة من أفكار عالم الاجتماع هذا، وقد نشرت في عام 1920 كتاب “الحروب العسكرية والحروب الاجتماعية”. من عام 1913 إلى عام 1918، كانت للأميرة علاقة عاطفية مع أريستيد برياند (1862 ـ 1932)، وهو محامٍ اشتراكي وأحد أبرز السياسيين في تلك الفترة. كان لترددها على شخصيات مماثلة ما يعزز من شغف ماري بونابرت بالكتابة. ففي عام 1924، نشرت كتابًا صغيرًا من الحكايات وقد أهدته لطفليها، وهو بعنوان “الربيع على حديقتي”، ومن ثم “مغامرات فليدا البِحار الكئيبة”، وهي قصة نجد فيها جزءًا من حياتها الشخصية التي تعاملت معها كتابيًا بشكل رمزي.
توفي والدها عام 1923. وبعد أن أصبح كل من بريان ولوبون مثاليين “قديمين”، لجأت ماري بونابرت إلى عملية جراحة لحلّ إحدى مشكلاتها: البرودة الجنسية. حول هذا الأمر، كتبت في إحدى المجلات الطبية البلجيكية، مقالة باسم مستعار هو أ. و. نارجاني بعنوان “اعتبارات حول الأسباب التشريحية للبرود الجنسي لدى النساء”، حيث تدعو فيه إلى “القيام بعمل جراحي للبظر في الصماخ البولية”.
في تلك الحقبة، قرأت ماري بونابرت عملًا لـ فرويد لتبدأ معه، في فيينا، جلسات التحليل النفسي؛ مثلما تُظهر ذلك الرسالة المشار إليها في أول هذه المقالة، بمعنى آخر وجدت الأميرة بونابرت، وهي التي تنتمي إلى الجمهوريين سياسيًا والملحدة، بطلًا جديدًا في فرويد، ومثالًا جديدًا في التحليل النفسي. كانت تشعر بأنها مستودع فكر مبدع التحليل النفسي. وبعد سنوات عديدة، عندما أصبحت واحدة من الشخصيات الرئيسية في جمعية التحليل النفسي في باريس، أطلق عليها زملاؤها لقب “أخبرني فرويد”.
بدءًا من لقائها هذا مع فرويد، اندمجت حياة ماري بونابرت مع تاريخ التحليل النفسي في فرنسا. في عامي 1926 و1927، قامت بإنشاء جمعية التحليل النفسي في باريس (SPP)، مع محللين من الشرق، وأطباء نفسيين. كذلك قامت بتمويل “المجلة الفرنسية للتحليل النفسي”. وقد احتوى العدد الأول، في القسم غير الطبي الذي كانت تديره، على مقالتها “حالة السيدة لوفيفر”، إذ سلطت الضوء فيه على “هذه الجريمة الأوديبية” التي ارتكبتها هذه المرأة حين قتلت زوجة ابنها الحامل. كذلك شكلت المقالة هذه فرصة لها لتأكيد عدائها لعقوبة الإعدام. في بداية عام 1960، وبعد أن جعلت عددًا من الشخصيات والمثقفين الفرنسيين يوقعون على عريضة، سافرت إلى الولايات المتحدة لمحاولة إنقاذ كاريل شيسمان، المحكوم عليه بالإعدام من قبل ولاية كاليفورنيا. بيد أن الأمر كان ضربًا من العبث
نشرت عددًا من النصوص التي تنتمي إلى ما يعرف بـ “التحليل النفسي التطبيقي”، حول الحقائق الاجتماعية والأدب، مثل دراستها الرائعة عن إدغار آلان بو. وفي مواجهة بعض الأعضاء الذين أرادوا تحليلًا نفسيًا على الطريقة الفرنسية، حيث لن يكون لمفهوم الرغبة الجنسية (الليبيدو) مكانة مركزية، دافعت ماري بونابرت عن أممية الفكر الفرويدي.
لأكثر من عشر سنوات، حتى وفاة فرويد، كانت ماري صديقة متفانية من أجله، ومريضة مخلصة ومتابعة شغوفة لقضية التحليل النفسي. ومع ذلك، دارت مواجهة بين الاثنين، حين أصرت على شراء رسائله (ضد رغبته) التي كان أرسلها إلى فيلهلم فلييس بين عامي 1887 و1904.
أمام تهديد النازية، بذلت ماري بونابرت كلّ ما في وسعها لضمان أن يغادر معظم أفراد عائلة فرويد النمسا، لذلك قامت بتمويل، مع الإدارة النازية، تصاريحهم للهجرة إلى بريطانيا العظمى. عندما وصل الألمان إلى باريس، قررت الأميرة إغلاق جمعية التحليل النفسي في العاصمة الفرنسية. اختارت النفي الطوعي إلى جنوب أفريقيا خلال الحرب العالمية الثانية، وقد واصلت هناك الكتابة ضد المعاداة للسامية. بعد الحرب، سيكون تأثيرها داخل جمعية التحليل النفسي أقل أهمية، لكنها دافعت دائمًا عن العقيدة الفرويدية في مواجهة بعض “الانحرافات”.
بعد أن اختارت، في نهاية حياتها، البقاء بشكل أساسي في مسكنها الصيفي، توفيت في عام 1962 بسبب سرطان الدم، بالقرب من سان تروبيه.
في ثمانينيات القرن، عندما سألت سيليا بيرتين، كاتبة سيرة ماري بونابرت، آنا فرويد، عن رأيها بما يميز الأميرة، أجابت هذه الأخيرة بالقول: الاستقامة.
***
أعود وأستعيد، في ما سبق، بعض النقاط من سيرة ماري بونابرت، وارتباطها بعالم النفس الشهير سيغموند فرويد، لتأتي بمثابة “تمهيد ما” للحديث عن الكِتاب الصادر في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي في العاصمة الفرنسية، عن منشورات “فلاماريون” بعنوان “الرسائل الكاملة (1925 ـ 1939)”، وهي الرسائل المتبادلة بين ماري بونابرت وسيغموند فرويد (أشرف على الكتاب ووضع هوامشه ريمي أمورو، أما الرسائل المترجمة من الألمانية فقد قام بها أوليفييه مانوني، 1084 صفحة، وهي رسائل كانت محفوظة في مكتبة الكونغرس في واشنطن).
نحن، إذًا، لسنا أمام عمل ضخم فقط، يتضمن ألف رسالة تقريبًا تمّ تبادلها خلال 14 سنة (من عام 1925 إلى عام 1939، أي لغاية سنة موت رائد التحليل النفسي)، بل إننا أيضًا أمام آخر متن عائد لمراسلات فرويد، الذي كان لا يزال غير منشور، حتى اللحظة التي صدر فيها، وهو بذلك يكتمل، ليضع أمام المختصين والمعنيين آخر جزء “مجهول” من مدارات سيغموند فرويد.
من هنا، يعد هذا العمل الذي قامت به “مؤسسة نابليون” على درجة كبيرة من “الحساسية” والأهمية بالتأكيد، بعد أن عملت لسنوات على إصدار المراسلات العامة لنابليون الأول. وما أتاح لهذه المراسلات أن تكون اليوم أمام جمهور القراء الواسع قبول أحفاد ماري بونابرت بالسماح بنشرها، إذ لولا ذلك لما نُشرت هذه الرسائل إلا في عام 2032، وفق قرار الأحفاد السابق.
تبدأ الحكاية، إذًا، وكما أشرنا أعلاه، حين ذهبت الأميرة ماري بونابرت إلى فيينا، لعيادة البروفسور فرويد. هذا اللقاء أصبح “أعظم حدث في حياتي”، وفق ما تصف ذاك اللقاء الذي أصبح مليئًا بالشغف. لذا، ليس من المستغرب أن تكون هذه الرسائل مليئة بدورها، بهذا الشغف الرائع، من البداية إلى النهاية، كذلك هي مليئة بالمعلومات حول إدخال التحليل النفسي إلى فرنسا. مراسلات تروي أيضًا عن عالم كان يتجه إلى الاختفاء والاندثار كان يعيش في قلبه كائنان وهما اثنان من أكثر الشخصيات “المذهلة” في زمنهما. فما بين الأميرة التي أتت لعلاج اكتئابها وأحد أكثر العلماء نفوذًا في عصره، ولدت صداقة سرعان ما تجاوزت إطار التحليل النفسي. تُظهر هذه الرسائل المتبادلة أيضًا أن فرويد بدوره يغوي، ويسلي، وأحيانًا يسأم من هذه المريضة التي لا تتوقف أبدًا عن رغبتها في أن تعيش حياتها العاطفية بالكامل، وتتساءل عن المفاهيم الفرويدية للمرأة في زمن كان فيه البحث عن متعة الأنثى أمرًا مدمرًا للغاية.
إنها “آخر بونابرتية”، مثلما كانت تحب أن تطلق على نفسها، وهي بعيدة كلّ البُعد عن كونها التلميذة الورعة التي وُصفت بها أحيانًا، وهذا ما تشهد عليه هذه الصفحات المكتنزة بحرية فكر جريئة. إذ مهما كانت خلافاتهما، فقد رأى فرويد في ماري بونابرت “تلميذًا مخلصًا”؛ لأنها، في الواقع، لم تخنه أبدًا، مثلما وضعت ثروتها في خدمة جمعية باريس للتحليل النفسي، التي عملت على إنشائها مع آخرين، وبالاشتراك مع عدد من المؤيدين، سوف تساعده لاحقًا على مغادرة النمسا النازية في عام 1938.
كانت ماري بونابرت مفتونة جدًا بمحتوى هذا التحليق الفكري العالي عند فرويد: بقدر ما كانت تلميذته؛ ومع ذلك كانت تحب إثارة الجدل معه ولا تتردّد في مناقضة “أستاذها”، لا سيما عندما تجد في جزء من مطالبه النسوية بعض القيود الأبوية التي لم يتخلص منها فرويد أبدًا (ولماذا كان يجب أن يتخلى منها؟). في أي حال، لقد دعت الأميرة “الذئب” إلى حظيرة غنمها حين أسمت البروفسور النمساوي بـ “أبي العزيز”… وما هذا التحول المدهش (في العلاقة) سوى اقتران واضح بصداقة عميقة لم تكن أبدًا، أحادية الجانب.
تبدو الرسائل الأولى بينهما رسائل يائسة بشكل كبير، تقول بونابرت: “أنا بحاجة إليك! لتفهمني، لكي أولد من جديد! لكي استعيد أخيرًا شجاعة الانتصار التي تكمن في داخلي كي تستحق أن تسود! بيد أنه هذا هو السبب في كون الآخرين شرسين جدًا ضد هذا الذي يمكن أن يحررني من القيود التي سأرزح تحتها، والتي جعلتني لسنوات عديدة، إلى حد ما، وحش عبء الآخرين!” (من رسالة إلى فرويد، بتاريخ 27 ديسمبر/ كانون الأول 1925).
بعد وفاة والدها بوقت قصير، عندما بدأ أطفالها بالابتعاد، ولم يكن زوجها قريبًا منها أبدًا (كان في الواقع مثلي الجنس)، كانت ماري بونابرت وحيدة مع هذا الشعور بالعائق الدائم أمام السعادة، لتحقيق حياتها. تلاحقها كوابيسها؛ تكتب إلى فرويد: “في الليلة الماضية كنت ميكانيكيًا لقطار انطلق في نفق تحت الأرض ومرّ عبر جميع العوائق، كما هي الحال عندما يتم وضع علامة أعلاه: خطر الموت”. الشخصيات الوحشية وغير الواقعية التي شيدها خيالها على أساس صدمة الطفولة تستحوذ على لياليها. من هنا كان التحليل النفسي وفرويد هما أملها الوحيد.
هذه الرسائل المتبادلة “تثير القلق” في بعض الأحيان، لأنها تكشف عن العلاقة الحميمة بين سليلة العائلة الإمبراطورية التي تكشف عن نفسها بالكامل أمام محللها، وتضع على الورق أسئلتها حول حياتها الجنسية (وحياة النساء بشكل عام)، كما حول صدمات طفولتها، وعلى الشخصيات العميقة للمقربين منها. إذ شيئًا فشيئًا، وبينما كانت الجلسات تتابع، نجد أن ماري استطاعت التخلص من هذه “القبضة” الملقاة عليها، والممسكة بها، والتي كانت “تضطهدها”. لقد استطاع فرويد إنقاذها في نهاية الأمر. لقد أصبح “والدها” الرمزي مثلما أصبح التحليل النفسي أحد أهداف حياتها، إذ تروي مئات الرسائل وإجابات فرويد عليها رحلة هذه المرأة التي اعتقدت أنها ضاعت وابتلعتها الحياة، ولكن أيضًا تروي فيها تفاصيل حياتها اليومية: وفاة الملكة لويز ملكة السويد. الرحلات إلى اليونان. أفراح العائلة ومآسيها. في 14 يناير/ كانون الثاني 1930، تكتب ماري بونابرت لـ “معلمها” التالي: “زوجة أندرياس أخ زوجي (…) غرقت في الذُهان. في غضون ستة أشهر، أصيبت بهذيان صوفي؛ إنها ترى يسوع المسيح الذي يزورها، الذي يتحدث معها، لم تعد تأكل شيئًا بعد الآن، تنام على الأرض، وتقول إنها أصبحت قديسة. كما أخبرتك، هي امرأة لديها رغبة جنسية قوية (ليبيدو) بشكل غير عادي؛ كانت امرأة شبقة تقريبًا”. وبالتأكيد هناك في الكتاب إجابات فرويد على ذلك.
ثمة تعليقات كثيرة نجدها، في هذا الكتاب، ما بين الأستاذ وتلميذته، حول الحياة الأدبية والفنية الأوروبية. فعندما صدرت رواية سيلين “رحلة إلى أقصى الليل”، على سبيل المثال، تكتب ماري في رسالتها: “أجدها، بطريقتها الخاصة، [رواية] رائعة. إنها بالتأكيد عمل شخص سادي يكره والدته، لكنه كتاب قوي!”. لم يكن فرويد، في جوابه على هذه الكلمات، موافقًا. يقول: “أقرأ كتاب سيلين بشكل متقطع، إنني في منتصفه. لا أجد متعة في رسم البؤس، في تمثيل عبثية الحياة البشرية الحالية وفراغها”.
وإذا ما كان لدى القارئ، في بعض الأحيان، انطباع بأنه “متلصص” في أثناء تصفح خطوط هذه الرحلات الطويلة، إلا أنه سوف يقدر الإضاءة المتعددة التي تقدمها. أولًا، هناك تلك الإضاءة حول العصر: يمكننا أن نشعر بظهور النازية باعتبارها مصدر قلق بارز في الجزء الأخير من محادثاتهما، ثم الحاجة الملحة إلى تنظيم رحلة فرويد وعائلته وأرشيفه، لمغادرة النمسا نهائيًا. ثانيًا، حول بداية تمركز التحليل النفسي في فرنسا: سوف تصبح ماري بونابرت أشهر سفيراته، عبر سعيها، بداية، لترجمة أعمال فرويد، ثم كمحللة نفسية هي نفسها، ولغاية خسوف نجمها مع وصول الجيل الجديد من الأطباء النفسيين وعلماء النفس بعد الحرب [العالمية الثانية] ـ المتأثرين إلى حدّ كبير بـ لاكان؛ من هنا نجد أن ما دفعها إلى الكتابة إلى فرويد، وفي وقت مبكر هو كونها “زميلة مهنة”، وهذه حقيقة منسية، تأتي هذه المراسلات لتذكرنا بها بشكل مذهل كما لتلقي ضوءًا ساطعًا وجديدًا عليها.
كانت هذه المراسلات غير العادية تشكل واحدة من آخر الكتابات الفرويدية العظيمة غير المنشورة. وهي كتابات مدهشة، بفضل البيئة التي انحدرت منها ماري بونابرت: قصور أوروبا في بداية القرن العشرين. لكن وراء هذه القصة الصغيرة، تظهر صورة امرأة شجاعة، بالنسبة إلى أصدقائها، كما أيضًا بالنسبة إلى نفسها. لقد أنقذت ماري بونابرت نفسها حين توجهت إلى المجهول، إلى هذا العلم الجديد الذي كان عنوانًا لإثارة القلق إلى حدّ كبير. لكنها في توجهها هذا، في رحلتها الطويلة تلك، فازت بقدرها كإنسان.
مقاطع مترجمة من الرسائل
(من ماري بونابرت إلى فرويد، 10 أبريل/ نيسان) 1926، سان ـ كلو)
“معلمي الحبيب،
[…] يُعلمنا التحليل قبول الحياة، ويعطينا معنى الحتمية الداخلي، ويدفعها إلى أقصى الحدود، ونتيجة ذلك، أن يكون تعلم الحب بشكل أفضل أقل من الفهم بشكل أفضل. الحب الذي أحمله لك، على سبيل المثال، أكان انتقالًا أم لا، هو شيء آخر، يعني وسيلة لا نتيجة، سببًا وليس تأثيرًا ـ وإذا بقي، إذا نجا من تطور التحول، فهذا أمر قائم بذاته لا يمكن للمرء المزج بينه وبين نتيجة التحليل، نتيجته المحددة، وهي أنه بعد الفهم، يتقبل المرء ذلك، وأن المنتجات غير الخانقة للشعور بالذنب التي أسيء فهمها تذوب مثل العفن تحت الشمس.” […]
(من سيغموند فرويد إلى ماري بونابرت، 30 مايو/ أيار 1928، فيينا)
“عزيزتي ماري،
[…] لقد تابعت باهتمام كبير تقلبات البرودة [الجنسية] المتبقية لديك. ليس هناك شك في العنصر النفسي، سيكون من الجيد لتحليلنا أن يصل بالعنصر الحاسم إلى هذه النقطة. مؤقتًا، أود أن أتهم حقيقة أنه باستثناء والدك دائمًا، لم تحبي أبدًا رجلًا بالمعنى النفسي الكامل للكلمة، على الرغم من كلّ ادعاءات الشهوانية.
سوف نرى ذلك لاحقًا”.
(من سيغموند فرويد إلى ماري بونابرت، 3 يناير/ كانون الثاني1937، فيينا)
عزيزتي ماري
[…]
لقد هزتني قضية المراسلات مع فلييس. بعد وفاته، طلبت مني أرملته الرسائل التي كان قد وجهها إليّ. قبلتُ من دون قيد أو شرط، لكنني لم أستطع الحصول عليها. هل تمّ إتلافها، أو تمّ ببساطة إخفاؤها بفن؟ ما زلت أجهل مصيرها إلى اليوم. إن بيع رسائلي عمل غير سويّ، وغير سار للغاية. صحيح أن إيدا فلييس هذه امرأة سيئة، حتى وفقًا لشهادة ابنها، الذي يعمل الآن كمحلل نفسي في نيويورك. لقد نجحت أيضًا في تدمير صداقتنا، التي كان لها، لكلينا، معنى غير عادي طيلة عشر سنوات، حتى عام 1904.
كانت مراسلاتنا على درجة من الحميمية التي لا يمكن لك أن تتخيليها. من المحرج للغاية أن تقع في أيدٍ غريبة. لذلك إن استعادتك لها ووضعها بعيدًا عن الأذى هو عمل خيري استثنائي. إنه يجعلني فقط أشعر بالأسى على المصاريف التي تكبدتها. هل من الممكن أن أقترح عليك التشارك بنصف المبلغ؟ كان يتوجب عليّ الحصول على الرسائل بنفسي فيما لو كان هذا الرجل قد تحدث إليّ مباشرة. لا أحب أن أترك أيًا من هذا كله لما يسمى بالأجيال المقبلة […].
مرة أخرى، الشكر الجزيل من فرويد الخاص بك”.
(من ماري بونابرت إلى سيغموند فرويد، 23 فبراير/ شباط 1938، باريس)
أبي العزيز!
[…]
لعنة الذهب لا تزال تحيا في كنف عائلتي! هذه المرة، أظلم جو الخطوبة من جديد. لأنه عندما جاء والد الشاب الذي يعيش في بولندا إلى باريس، سألته عمّا يمكن أن يقدمه لابنه. فأجاب: 5000 فرنك في الشهر. في هذا الصدد، اكتشفت أوجيني أنه في الواقع لا يعطيها شيئًا: هذا الدخل هو ببساطة ما ورثه عن والدته.
أفراد الأسرة الأربعة الآخرون ـ شقيقان وبنتان ـ لديهم في الوقت الحالي أكثر من ذلك بقليل، ولا سيما الابن الثاني. تم تقسيم الميراث (ممتلكات الأراضي) بعد وفاة الأم، ويجب أن يحصل الثاني على 300000 فرنك في السنة. الشاب الأكبر، دومينيك (خاصتنا) سيحصل على أقل من ذلك بكثير، لأنه هو الذي، لاحقًا، بعد وفاة الأب، سيحصل على الممتلكات. لكن في غضون ذلك، اعتمد الأمير العجوز جيروم على واقع أنه سيدفع كل شيء لابنه ولأوجيني. (هو نفسه سيحصل على دخل يزيد عن مليون فرنك).
لكن، ومع ذلك، لم تتوقف عُقد أوجيني. بدأت تبكي وقالت لي إنها لا تريد أن تحصل على أكثر مما سيحصل عليه زوجها. إذا كان الولد لديه 5000 فرنك فقط في الشهر، فهي لا تريد المزيد أبدًا! إلا إذ لم يعطه الأمير العجوز، الأب، أكثر من ذلك بقليل! المجموع 10000، على سبيل المثال. يمكنه فعل ذلك (يقول الصبي ذلك أيضًا!)، لكنه يخشى زوجته الثانية، تلك التي تزوجها منذ وفاة الأرشيدوقة (هي أيضًا من آل رادزيويل، وهي أصغر منه بعشرين عامًا).
لأن أوجيني لا تريد إعالة زوجها! وقد عرض عليها الشاب دومينيك، التي روت له كل ذلك، أن تفسخ الخطوبة، لأنه لا يريدها أن تعيش معه بمستوى أقل من ذاك الذي تعيش فيه من دونه… في النهاية هي التي لا تريد ذلك… إلخ.
تحدثت اليوم مع والده. عليه أن يقوم “بحركة” ما، وأن يقدم أكثر من ذلك بقليل، بضعة آلاف من الفرنكات، كل شهر لابنه. إنه حرّ، بالطبع، لكن إذا لم يفعل ذلك، فلن تفسخ أوجيني خطوبتها، لكنها ستقاطع بالتأكيد جميع أهل زوجها. من المؤكد أنها لن تغفر موقف الرجل العجوز هذا: لقد أصبح الآن “والدها السيئ” ـ لأن الأب الحقيقي يتصرف بمثل هذا الإحسان. وربما ستعيش بعيدًا جدًا عن بولندا. […] “.
(من سيغموند فرويد إلى ماري بونابرت، 13 مارس/ آذار 1938، فيينا)
عزيزتي ماري،
بدأت أول من أمس بكتابة رسالة طويلة لك، تتضمن وصفًا مفصلًا للأيام السيئة التي قضيتها عندما عذبتني الجراح، وللتحولات التي أثرت علينا في الوضع الخارجي. بعد محادثتك الهاتفية مع آنا، اتخذت قرارًا آخر. لن أكمل رسالتي، فأنا متمسك فقط بحقيقة أنك أبلغتنا بنيتك في زيارتنا، والإشارة إلى حقيقة أنك مستعدة أيضًا للإسراع بالقيام بها. إنه لأمر مؤسف أنني لا أرى الزوجين الشابين الآن، لكنني آمل أن يكون ذلك في وقت لاحق، ويمكنك مساعدتنا والعديد من الآخرين كثيرًا بنصائحك وأفعالك، إذا أتيت بالفعل لرؤيتنا الأسبوع المقبل. سنعرض لك ـ وخاصة آنا ومارتن ـ جميع خططنا.
مع كل تحياتي القلبية إليك وإلى أوجيني.
فرويدك.
ملاحظة: إنها أول رسالة أكتبها في شهر مارس/ آذار. بيد أنني الآن في تحسن متصاعد.
هوامش:
كثير من معلومات هذه المقالة حول حياة ماري بونابرت مستقاة من كتاب:
Marie Bonaparte وهو من تأليف Celia Bertin منشورات Perrin (2004)
كما أن بعض المعلومات المتعلقة بتاريخ التراسل بين فرويد وبونابرت ترتكز بدورها على موقع عائلة بونابرت www.napoleon.org
*ضفة ثالثة