إبراهيم محمود، باحث ومفكر كردي سوري، متفرغ للكتابة والبحث العلمي منذ عام 2002
هل نفتتح المقال/ البحث هذا بعبارة “لنمض إلى إدلب!”؟ أم ترانا نعيش إدلب هذه، كما نعيش شقيقاتها المدن الأخرى وهي تتوزع في حيواتها الجغرافية ومن ثم الإنسانية بين ما هو قتل وخوف من قتل واستعداد لخوف من خوف من القتل منذ أكثر من عقد من الزمن؟ أكثر من ذلك، أكثر من ذلك بكثير وكثير جداً، في أي جهة تقع إدلب الآن، وهي لم تعد إدلب الآن، كما كانت، حيث كان عميد سخريتها وأبعد في الكتابة حسيب كيالي “1921- 1993″، إنما إدلب التالي عليه في السخرية وكيمياء المفارقات المرة خطيب بدلة “1952-…” في ” كوميديا الاستبداد “2018”، وليست إدلب التي احتضنتها عن قرب قبل عشرين عاماً، صحبة الكاتب ومدير الثقافة فيها عبدالحميد مشلح، صاحب “الظاهر والمدفون في بلد الزيتون”، إنما حيث يبكي زيتونها مناجياً أهله، وحيث تبكي تربتها الثكلى، مناجية أصوات فلاحيها وأهليها ممن كانوا يأتنسون بها، وهي تنبسط بأريحية وحميمية أمام طلاقة أغانيهم ومسامراتهم؟
إدلب اللاإدلب، إدلب اللامكان، في عهدة المكان المدمَّر، المنفلق، الملغّم، المتفجر من الداخل، حتى أعالي الهواء المكدر واللاهي عما يجري، إدلب اللاخريطة، فالقتلة – ربما- وحدهم في مقدورهم الإجابة عن سؤال الخريطة، أو طوبوغرافيا جهاتها، وقد تفرقت أيدي سبأ صحبة مئات ألوف مؤتلفة من أهلها، متبلبلي الذاكرة، ليصبح اللامكان في وضع كارثي لا يعرَف آخر الخطو فيه متى وكيف، إن اعتمدنا على مفهوم “مارك أوجيه” صاحب مأثرة “الزمن أطلالاً” ونحن نعيش أهوال: إدلب الزمن فظائع تنفتح على جهات شتى، وبجهات مستجدة.
إدلب ذات يوم، ليست إدلب هذا اليوم بالتأكيد، بالتأكيد تباعاً، فبين اليومين هذين، انسحقت ذاكرة جماعية، وانخسفت آمال، وشهقت حيوات كائنات، حتى الحجارة عينها فقدت فحواها، على وقع الدمار ممن يتوحمون إلى أجل غير مسمى في شهوة اليباب المركَّب، على كل ما له صلة بالموت الجماعي المباغت، والانفجار الأرضي المتدوّم والصاعق.
إنها إدلب وادعة الجغرافيا، وديعتها وفجيعتها في شمالها السوري، وهي تنزف إدلبيتها، كما لو أنها لم تكن إدلب ممن ذكرتهم، أبعد من لحظة الكارثة المعممة والمهدِدة لكل معنى.
تلك هي اللحظة الممتدة المشتدة المحتدة منذ أكثر من عقد زمني، عقد زمني لو يحسَب نفسياً، لاخترق جدار الزمن بمفهومه المتداول وخلَّفَه وراءه كثيراً، مأخوذة بفكرة: دعوني أتكفل بالخراب، بحيث لا تبقى ذاكرة تسمّي الخراب، حتى هو نفسه يُعدَم في مجهول ما!
إدلب يجب أن تدمر! إنها ليست قرطاجنة التي أريد لها دماراً في زمن معلوم، وبوسائل معلومة أرضياً، إنما ما يفوقها في قدرات الدمار والتدمير والكارثية القصوى، واللحظة التي توقف الزمن عينه، مطبقة على الأرض من السماء، وقاذفة السماء من الأرض، وواصلة في هستيريا الرعب المعمولة هذه بين الأختين التوأمين: الأرض والسماء، كما لو أن إرادة دمار شاملة بُثَّت بين جنبي اللحظة المزمنة الممتدة هذه!
حيث الوجوه تترجم الدمار الحاصل، والنزف الجماعي المتكاثر دون إمكان دقة الوصف، لرعب المشهد في قرنه الحادي والعشرين طبعاً.
في السياق هذا، يحضر الإرهاب، وصُنّاعه وأتباعه وسماسرته، وهو حاضر بالنسخة الأحدث إيلاماً، حيث وجوه القتلة ومن أصبحوا قتلة، ولم يكونوا قتلة، إنما في طور يصدم حساب كل قيمة اعتبارية للحياة، وما في ذلك من إثراء مروّعٌ للإرهاب نفسه.
في متابعتي هذه، أطرق مقالاً / بحثاً، هو نسيج تنويع من مقالات وأبحاث منقولة عن الفرنسية، سوى أن القاسم المشترك فيها جميعاً، هو فعل العنف الكارثي، والساحة والإطار والمحتوى والحداد المتصادي: إدلب، ربما هناك وصل بين قول وآخر، بين فقرة وأخرى، بين اسم وآخر، ليكون هناك وضوح رؤية للمقروء أكثر، فلا أسمى هنا كاتب مقال بالطبع، حرفياً.
وسوف أعمد إلى تثبيت هذه المقالات والأبحاث في النهاية بعناوينها، وأنا أكتفي بذكر الاسم بداية ومختصره ضمناً، ليكون هناك تأكيد آخر على حجم كارثة إدلب هذه، وكيف تعيش ميتاتها داخلاً وخارجاً، ومن يعرّفون بأنفسهم كثيراً تميّزهم لغة القتل هنا.
إنما أذكّر هنا، أنني أعتمد على مقال ثقيل المحتوى شديد الهول بنسيجه المعرفي، ومن ثم الاعتباري، وأعني به “قبر حلب وقتل في بعض الأماكن الأخرى” للكاتب سيرج إيرولدي” حيث يستقطب ما عداه، وفي ضوئه تتناغم وتَشكُّلُ المقصد، وحيث إن العنوان “قبر حلب ..” لا يبتعد عن كونه “قبر إدلب” سوى أنه فاغر فاهه أكثر، والصراخ الجماعي أكثر تعبيراً عما هو كارثي، بأكثر من معنى.
لا مدخل، فإدلب مداخل كوارث
مَنْ الحريص على إدلب، مَنْ ليس حريصاً على إدلب؟ ما أقل الذين استمروا في الحرص على أن تكون إدلب هي إدلب كما كانت. لقد اتسعت ساحة الإرهاب، من جهة الذين انضمّوا إليها، وتقاسموها: من كانوا “محرّرين” ليصبحوا نقيضاً.
ما الذي يُعلّمنا بذلك منطق الإرهاب، عمله، معناه، في وضع انفجاري كهذا؟
جان بول شانيولو، في مفتتح ملف عن الإرهاب، وفي مستهل (الإرهاب: وبلغة الجمع Terrorisme(s)”” يواجه قارئه، مخاطِبه بالمستجد (المنطق في العمل الإرهابي يقوم على بضعة مبادئ بسيطة. أولاً، التركيز في الوقت المناسب: ينشأ عمل إرهابي فجأة في لحظة معينة، ويتكرر على الفور في جميع أنحاء وسائل الإعلام، ويتم تضخيمه بشكل غير متناسب démesurément. يمكن أن ينتج التركيز في الوقت أيضاً ليس عن فعل واحد ولكن من عدة إجراءات، موزعة على فترة قصيرة لا يعرف أحد مدتها. ويشير هذا إلى المبدأ الثاني: تعظيم عدم اليقين. إن العمل الإرهابي غريب وعشوائي وغير عادي insolite: فهو ليس ثابتاً ولا منتظماً. يمكن أن ينشأ في أي مكان وزمان؛ إنّه مخالفٌ لِما يحدث عادة، وينتج عنه تمزّقٌ في النظام القائم. وبالتالي يمكن إطالة أمده من خلال طارئه البسيط. وتكفي حقيقة حدوثه لإثارة القلق وبث الخوف وإذكاء الشائعات. ويمكن أن يَحلُّ التهديد الوحيد عندئذٍ محلَّ الفِعل نفسه، ويؤدي إلى ظواهر الذهان الجماعي، حيث سيسعى الإرهابيون بعد ذلك إلى استغلالها لتحقيق أفضل مصالحهم.
وبالتالي، فإن العمل الإرهابي هو دائماً جزء من منطق محدَّد لا يكون أبداً غير منطقي irrationnelle حتى لو بدا كذلك. إنه يستخدم الضحايا الأبرياء للضغط على الخصم الذي هو في الواقع، الهدفَ الحقيقي في حالة النزاع التي يتشارك فيها مرتكبوها. ويحدث كل شيء كما لو أن العلاقة بين شخصين (إرهابي وضحية) قد تحولت إلى “مثلث إرهابي – ضحية – هدف مستهدف”. والضحية، التي ترتبط عادةً بالهدف ولكن ليس بالضرورة، تعمل كأداة لإيصال رسالة إلى الهدف، لإحداث صدمة أو إحباط أو التأثير عليهم بطريقة ما. وبالتالي فإن العملية الإرهابية هي جزء من عملية مرتبطة باستراتيجية معقدة إلى حد ما، في تكوين سياسي معين يتميز بتوازن قوى غير متكافئ. أولئك الذين ينفذون هذا النوع من الوسائل لديهم هدف أو أكثر: تأكيد أنفسهم، وزعزعة الاستقرار، والضغط، والانتقام ..).
يمكن لهذا المقتبس أن يضيء الكثير مما تقدمنا به، وسنتقدم به. الكلمات تتقدم بأبعاد كثيرة، وفي كل بعد ما ينبّه إلى بنية المفارقات، واللحظة الأخطبوطية في الجغرافيا السورية/ الإدلبية:
بالنسبة إلى إيرولدي، يكون اقتباسه لمقولة من لدى موريس بلانشو، كشف حساب لهذا الرعب بعائده الإرهابي (الكارثة تدمر بينما تترك كل شيء كما هو). أليس لا منطق الكارثيّ، الفاجعيّ والمستثمَر في إدلب، هو السعي إلى إزهاق روح كل منطق؟
في مدخل مقال إيرولدي، هناك المكان، وزمانه، وحدثه الذي يتقدم لنا، باحثاً عن نظير له، أو مال يقرّبه نظيراً: إدلب. في التنويه إلى فيلم له أصل في المكان (سيناريو الفيلم مأخوذ من رواية ش ج ويلز: شكل الأشياء القادمة. ربما استجاب الكاتب المستقبلي الرجعي إلى تحذير ستانلي بالدوين: سوف يتمكن المفجر دائماً من العبور. رئيس الوزراء البريطاني ثلاث مرات من عام 1923 إلى عام 1937، قدم بالدوين هذا الإعلان في عام 1932 إلى البرلمان).
المكان ألمانيا، والتحضر للكارثية التي عمت أمكنة وأصقاعاً وجِهات:
(دائماً، سوف يمر المفجّر.
والقنابل دائماً ستدمر. سوف تفرّق ما يوحده الوقت والجهد. سوف تقتل.
قتل البشر لا يكفي. إن قتل الروح البشرية خطوة أخرى إلى الأمام في مشروع الإقلاق الأسمى. يُعدُّ الاستمتاع بالقدرة على قتل البشر وأرواحهم بِدايةً أكثر اتساقاً للآفة المسعورة. لتصفيح المكان الذي كان فيه الإنسان هو الآخر، أثرُ الغرابة السماوية، جسيمٌ ضروري للتجمع المحتمل، غبارُ المعرفة المفيد، هذا هو الطموح النهائي.
اقتل أماكن الإنسان. اقتل الأرض المأهولة l’oïkoumène (من اليونانية οἰκουμένη. المترجم. عن الانترنت) اقتل مساحة الطفولة، الخبرة – عالمنا المعروف، فضاء الحب، اللقاء المحتمل، كل ما كان لنا، نحن بداخلنا، هم فينا. اقتل الشّعر – حتى الذي يتجاهل نفسه، اقتل الشعر مرة أخرى – كلّ شِعر الأماكن والأقاليم والمناظر الطبيعية، وهو أيضاً يستعيد المسافة التي اخترعتها الكراهية وعدم الفهم. سوء التفاهم.
اقتل مواقع المجيء. اقتل أي وحدة إدارية pagus. المشهد التأسيسي. إيرولدي).
ثمة تأسيس لقتل غير معهود، قَتلٌ يُنذرُ الأسماءَ نفسها، حيث لا تعود هي نفسها. إذ في مقدور الكارثة التدميرية، أن تعدم الزمان والمكان، إذ تُحيل الفضاء إلى دخان وغبارْ.
ربما كان لدى “بنجامين بارث” في مقال: “أعظم قصة رعب إنسانية في القرن الحادي والعشرين، حالياً في إدلب بسوريا” ما يشدد على هذا الواقع الأليم غير المسبوق، حيث:
(وصل عدد سكان المحافظة النازحين بسبب القتال منذ كانون الأول/ ديسمبر 2019 إلى 900 ألف، 80٪ منهم من النساء والأطفال.
ثمانية أشهر من التحليق اليائس تحت القنابل، السقوط الحر الذي يبدو أنه لا شيء قادر على إيقافه. تمثل محنة عائلة الحلاق، المزارعين في محيط إدلب، رمزاً للمعاناة التي يعيشها المدنيون في هذه المحافظة في شمال غرب سوريا.
تتحدث الأمم المتحدة عن “أعظم تاريخ للرعب الإنساني في القرن الحادي والعشرين”. وصل عدد سكان محافظة إدلب النازحين بسبب القتال منذ كانون الأول 2019 إلى 900 ألف، 80 بالمئة منهم من النساء والأطفال. يتراكم هذا التعداد السكاني بين دركوش والدانا وعفرين واعزاز، وهي مناطق متجاورة مع تركيا، لم يمسها القصف نسبياً).
ربما يكون الأكثر إفصاحاً عن المنطق اللامكاني ممن قدِموا من أمكنة شتى في العالم، صعاليك أكثر من كونهم صعاليك، فهم يلغّمون كل شيء: الأخضر واليابس، أكثر من كونهم شذاذ الآفاق، لأنهم اختبروا الخراب المروّع، وكيف ينمّونه اسماً ومسمى، كما تعايَن إدلب الرعب!).
نتحدث عن “كارثة التقدم” إذاً، بلغة فالتر بنيامين، كما لو أن الحرب العالمية الثانية لم تتوقف عن التنويع في أهوالها، واختيارها لضحاياها وجلاديها ومسارحها وابتداع منطقها الملازم.
إذ وفق أي معنى، نحتفي بمعنى ما، إذا كان فضاءً كاتماً للصوت، إذا كان برميلاً متفجراً، إذا كان واعداً بما يلغي كل أمل بوعد منتظَر؟
(في عام 1944، بدأت انتفاضة وارسو في 1 آب الساعة 5 مساءً. ألساعة W انفجرت قنبلة في مقر الغستابو. انتهى التمرد في 2 تشرين الأول التالي.
منذ الأيام الأولى من شهر آب، شن الجنرال إريك فون ديم باخ زيلفسكي هجوماً مضاداً. في 5 آب، أعدمت قواته عشرات الآلاف من المدنيين. يسجل التاريخ هذه الحلقة على أنها مذبحة ووولا. عدد الوفيات كَم؟ 200000؟ أكثر من ذلك؟ في محاكمة نورمبرغ، أعلن كبير القتلةchef déclare : “إذا كنتَ تبشر لمدة عشر سنوات طويلة بأن الشعوب السلافية هي عرق أدنى وأن اليهود هم دون البشر، فمن المنطقي أن يتم قبول قتل الملايين من هؤلاء البشر كظاهرة طبيعية.
اقتل الإنسان. اجعله حشرة. فكفكه. أرسل له القنبلة.
خلال هذه المعارك، تم تدمير ما يقرب من ربع المدينة. بعد انتهاء الأعمال العدائية، أمر هتلر بمواصلة التدمير. ثلث إضافي يختفي. في عام 1939، غرقت قرابة 10٪ من المباني تحت القنابل و 15٪ أخرى بعد تصفية الحي اليهودي. بمجرد قتل البنادق، أصبح أكثر من 85 ٪ من وارسو في حالة خراب. إيرولدي)
الأمكنة مختلفة، سوى أنها تتشارك في الحداد العظيم عينه، في الموت العاصف القاصف عينه، في بث الظلمات عينها، في استزادة الجلادين صحبة الضحايا عينهم. فالمكان واحد، وأهلوه هم في الواحد يلتقون، والأرض رحم واحد، جسد واحد، والكل مأخوذون بها.
هنا، في بنية أو أصلة اللحظة الاستثناء تكون إدلب المأخوذة بالمنايا جمعاً:
(تتحدث الأمم المتحدة عن “أعظم تاريخ للرعب الإنساني في القرن الحادي والعشرين”. وصل عدد سكان محافظة إدلب النازحين بسبب القتال منذ كانون الأول 2019 إلى 900 ألف، 80 بالمئة منهم من النساء والأطفال. يتراكم هذا التعداد السكاني بين دركوش والدانا وعفرين واعزاز، وهي مناطق متجاورة من تركيا، لم يمسها القصف نسبياً.
وجد المحظوظون خيمة في أحد المخيمات الضخمة، التي تضربها الرياح والثلوج، والتي تنتشر في هذه التلال في أقصى سوريا. ينام الآخرون في العراء أو في سياراتهم أو في مبانٍ غير مكتملة. تم الاستيلاء على جميع الملاجئ الجماعية، مثل المساجد والمدارس، خلال موجة النزوح السابقة، في ربيع وصيف 2019، والتي طالت 300 ألف شخص.
المنبوذون من إدلب محاصرون في شبكة مفتوحة. أغلقت تركيا، التي تأوي 3.5 مليون سوري على أراضيها، لكنها ترفض الترحيب بوصول جديد للاجئين، حدودها بثلاث طرق.
لقد أدى انفتاح المدينة الكبرى في شمال سوريا إلى إسعاد سكانها. واستهدفت أحياءها الغربية بانتظام جماعات مسلحة في الضواحي. وبحسب الأمم المتحدة، تسببت نيران المتمردين في مناطق سيطرة الحكومة في حلب وشمال محافظة حماة، في مقتل 93 مدنياً منذ نيسان 2019، بينهم 23 امرأة و28 طفلاً. بارث).
(أتذكر هذه الرؤية لنهاية العالم من فيلم عازف البيانو لرومان بولانسكي. بعد سنوات من المحنة، والاختباء هنا وهناك، والبقاء على قيد الحياة قدر المستطاع، والفرار من القتال والانهيارات والأطلال التي تتجه نحوه، يكسر عازف البيانو فلاديسلاف زبيلمان جداراً ويكتشف حجم الهدم. وارسو لم تعد موجودة. وارسو هيكل عظمي متفحم. جبل من الرماد، الدموع، التهمت المنازل حيث كانت الحياة ذات يوم. حيث كان في يوم من الأيام شوبان، لوحة مفاتيح. موسيقى هادئة. أغنية رقصة الفالس. بولندي عظيم.
اقتل المدينة.
لا شيء يكفي لوقوع كارثة، كما كتب موريس بلانشو في كتابه كتابة الكارثة/ الفاجعة L’écriting du désastre.
الساعة W.
حان وقت القتال.
يحيلني هذا الحرف W إلى كتاب غريب لجورج بيريك: W أو ذكرى الطفولة.
في افتتاح هذا العمل، كتب بيريك: “ظللتُ متردداً لفترة طويلة. لقد نسيت ببطء التقلبات والمنعطفات غير المؤكدة لهذه الرحلة. لكن أحلامي كانت مليئة بهذه المدن المهجورة، مع هذه الأجناس الدموية التي ما زلت أعتقد، أنني أستطيع سماع آلاف صنوف الصخب التي ما زلت أعتقد أنه يمكنني سماعها، مع هذه اللافتات المكشوفة التي تمزقها رياح البحر. اختلط سوء الفهم والرعب والسحر في هذه الذكريات التي لا نهاية لها. ولفترة طويلة، بحثت عن آثار لتاريخي، واستشرتُ الخرائط والأدلة، وأكوام المحفوظات. لم أجد شيئاً وبدا لي أحيانًا أنني حلمتُ، أنه كان هناك كابوس واحد لا يُنسى”.
في مقابلة أجراها ذات مرة مع الشاعر جان بول سمعان، أعرب الشاعر محمود درويش عن أسفه لما شاهده من تدمير منزل طفولته. كان بيته كلَّ مدينته، كل موسيقاه، كل الخريطة التي ولد تحتها، كل سمائه، نهاونده. ثم ينزف الجرح مرة أخرى من أشجار الزيتون المجاورة، التي مزقتها الجرافات الإسرائيلية، والتي يبلغ عمرها عدة مئات من السنين.
في كتاب محمود درويش “في حضرة الغياب” يخاطب الشاعر الفلسطيني ظلّهُ:
“وأخرجوك من الحقل، أما ظلك، فلم يتبعك ولم
يخدعك، فقد تسمر هناك وتحجر”. الاقتباس من إيرولدي).
نعم، كانت وارسو، كانت غزة، وها هي إدلب، ها هي عفرين.. أخوات تتواسى في نزف مشترك.
هل يمكن التذكر؟
(ذاكرة حلب المنقرضة. مفتاح مكسور. نحن. قابس الضوء Interrupteur. لا شيء بأثر رجعي. المدينة ميتة الآن. الغريب الغريبة في مدينته/ـها ، حيث يفر/ تفر في الحافلات الخضراء ذات النوافذ، هذه العربات الخضراء المتسخة المروعة، التي أتاحها له/ ـها جلاديه/ ـها ويتجاهل/ تتجاهل القذارات، أصبح ذلك الظل متحجراً في بلده/ ـها. فقط الظل الذي يذهب في جميع أنحاء وجهته/ ـها. نسيها/ هته حتى القدر. والمدينة ليست أكثر من صورة ظليلة مفككة، فم غادر بفارق الموت، مع أنفاسها من الرماد ودم تذوق الحديد والصدأ.
حلب، كانون الأول 2016. لقد غطى الثلج للتو الجروح الرهيبة في المدينة. لقد قامت طائرات بوتين والأسد القاتلة بالعمل القذر. لقد دمرت آلة الحرب المدينة بأكملها. قنابل، قذائف، هاون، قذائف عنقودية. الغازات الخبيثة. أسلحة مصرّح بها. التسلّح غير المشروع. كل ضراوة في العالم. مجموعته للتدمير. تم دفن الموتى هناك الآن لتذكير الآفاق التي ستأتي هنا بمجرد سقوط دراما عظيمة. هبوط بشري حضري.
كانون الثاني 2017. ثلاثة نواب فرنسيون، بينهم “الصديق” تييري مارياني – هذا ما يسميه نظام دمشق – يقومون برحلة للقاء الأسد. ساعة وربع محادثة. عندما عاد، على التلفاز، سمعت “صديقه” مارياني يقول إن “15٪” من حلب قد دمرت. ليست المدينة كلها. 15٪ فقط.
عيد الميلاد 2016. في المدينة المدمرة، نصب الشباب أكاليل وشجرة للاحتفال بميلاد المسيح. مشهد مولد أيضاً في كنيسة مدمرة. وإلى جانب صور جلالة الرئيس بوتين، الأسد، لا أعرف أي قائد ميليشيا شيعية لبنانية وعراقية، ولا أعرف أي دليل للثورة الإيرانية. أيقونات الشر. جميع الأيقونات المتمردة.
هؤلاء الناس عاقبوا كل شيء في المدينة. لقد جعلوا من مبيدات الحشائش الطريقة الأكثر راديكالية في “التطهير”. تنقية الأجساد والنفوس والأسوار والذكريات. على الرخام، يكون الحمض دائماً هو الأقوى.
كانت حلب أرضاً خصبة، مكاناً لثقافة مشتركة، الأرض التي غذّت قيمة التبادل على مدى آلاف السنين، إنها الآن قبر.
في عام 1927، في مجلة الفن الشرقي وعلم الآثار، كتب ر. دورم: “حلب! هناك عدد قليل من المدن في الشرق الأوسط كلها تترك انطباعاً أقوى أو أكثر إمتاعاً للمسافر. أسواقها المقببة الرائعة، حيث يتنقل المارة في مأمن من أمطار الشتاء وشمس الصيف الحارقة، وخاناتها الفخمة، حيث كل ما تنتجه سوريا والأناضول وبلاد ما بين النهرين. ساحاتها الواسعة وجيدة التهوية، حيث تلتقي أنقى عينات من البدو الرحل وسكان المدن من جميع الأجناس؛ الكثير من عوامل الجذب التي تحتفظ بالأجنبي وتجعله يُقدّر، كما ينبغي، كرم الضيافة الأسطوري للسكان”.
كما يستدعي التقاء القوافل القادمة من الاسندرونة والبحر الأسود والفرات، ومياه نهر قويق، والريف الخصب للمحيط، والقلعة التي لا تضاهى، فإن هذا الجمع الغني يقول لمؤلف المقال: “مثل يحظر موقع على أولئك الذين يحتلونها في جميع الأوقات، أن يكونوا أحد تلك الشعوب السعيدة التي ليس لها تاريخ “.
لطالما احتفل الجميع بالمدينة: المعري، ابن بطوطة، أقرب إلينا، لورنس العرب، معجب متحمس بهذا “المشكال” وهذه “الطاقة المتعددة”.
لم أقم بالرحلة إلى حلب أبداً.
كنت أرغب في ذلك بشدة.
لن أذهب إلى حلب بعد الآن.) إيرولدي.
ربما كان في مقدور نيكولاس تنزر، محاضر في الشؤون العامة الدولية، ومن خلال مقاله النازف “في سوريا يجب ألا يغطي الصمت الجرائم المرتكبة في إدلب، 18-3-2019 ” ما يأخذ صورة نازفة لهذا الحدث الأليم إدلبياً:
“لماذا استسلم العالم؟
لماذا صمته الرهيب؟
لماذا لا أحد يهتم بنا؟
لماذا لا يتضامن أحد مع مصيرنا؟
هل نحن بلا قيمة؟
هل نحن مجرد أرقام؟
ماذا يحدث لهذا العالم؟”
كانت تلك هي الرسالة قبل أيام من فريد، صحفي ومصور سوري من محافظة إدلب. وقد تكررت هذه الرسالة مراراً وتكراراً منذ بدء حرب الأسد ضد شعبه، منذ مجازر حمص والغوطة ودرعا وحصار وسقوط حلب.
وهو يواصل القول إن تقاعسنا عن العمل يكمّل انهيار تمثيلاتنا السياسية والأخلاقية لما هو جيد وسيئ، وما هو صواب وخطأ. إنه يرسم مرة أخرى هذا الخط الأحمر غير المرئي، ولكن أولاً، بين – من ناحية – أولئك الذين يهتمون، ويشجبون، ويحتجون، ويسمون أعداءنا بكلمات واضحة، ومن ناحية أخرى – أولئك الذين يمكن أن تحظى جرائمهم ضد البشرية بلامبالاة العالم وتختفي بضجيج الحياة اليومية).
تتداخل الذكريات للتشديد على ما كان، وما هو كائن، وكيف؟
(عندما كنتُ طفلاً، كنت أتساءل دائمًا عن هؤلاء الملوك القدامى وأباطرة العصور الوسطى والغزاة الغاضبين الذين استولوا على مدينة ودمروها بالأرض. للحلاقة، مثل العودة إلى الجلد، بواسطة الشفرة الخطرة، أو وجّه بلا لحية. ماذا كانت تعني إبادة مدينة في الماضي؟ أشعلوها في النار ودمروا ما يمكن أن تأكله النار؟ نهب الثروة؟ قتل الرجال والنساء والأطفال بالطبع؟ لكن الحجر، هذا الحجر الميسيني والروماني والبابلي؟ هذا الحجر غير المادي؟ هذه المدن الحصينة مع هذه الأسوار العالية والواسعة؟ كيف نكسر هذا؟
هل كان تدمير المراكز الحضرية أكثر من مجرد مكان أدبي؟ “، يسأل جان إيف جواني في استخدام الأنقاض L’usage des ruins.
الآن نحن نعرف كيف نُسحق. يمكننا أن نُطحن. بشكل هائل.
المكان المعلوم لم يعد من الخيال، المكان المعلوم هو اللانهائي الذي يميل نحو ذرَّة ذرَّة الذرَّةl’atome de l’atome de l’atome . المكان هو الغبار النهائي المحتمل. أصبح الجبل الحي سهلاً ميتاً.
القنبلة تمر وهنا بداية لا شيء. لا شيء على الاطلاق). إيرولدي
هناك أكثر من هناك، كما أن هنا أكثر من هنا، من خلال أكثر من صرخة مكتومة، هنا وهناك، أو بالعكس، وحيث الصور تشهد ببلاغة رؤيوية حجم الكارثي مكانياً.
مع نيكولاس تنزر، تخاطبنا صورة تتحدث عنا، عن الآخرين، عن نفسها في فجيعة أكثر من كونها فردية، وما يترتب على ذلك من صراخ لا يكف عن التدوّي:
(محاضر في الشؤون العامة الدولية، العلوم)
في خان شيخون بمحافظة إدلب، 26 شباط 2019: رجل يحمل رفات ابنته التي استشهدت في قصف لقوات النظام. أنس الدياب/ وكالة الأنباء الفرنسية.
المأساة مراراً وتكراراً
وفيما يتعلق بسوريا، تتركز الأنظار على السقوط الوشيك لآخر معقل لداعش في الباغوز و”عودة” الجهاديين الأجانب، فإنهم يبتعدون عن المأساة المعلنة في محافظة إدلب والمجازر التي لا تنتهي في سوريا. تحت سيطرة بشار الأسد.
احصل على الأخبار برعاية الخبراء، وليس الخوارزميات.
معلومات عنا
نوع من الليل يغلفهم، كما لو أن الحكاية التي تحملها قوتها عن انتصار مكتسب قد أعفتنا من عبء الغضب. هذا بالتأكيد ليس جديدا. كما لاحظ ميشيل دوكلوس مؤخراً:
“كانت المعركة ضد القوة الإرهابية للبغدادي على رأس أولويات الحكومات الغربية لمدة خمس سنوات، ويمكن القول إنها على حساب الاستثمار الحقيقي في القضية السورية ككل”.
مرة أخرى، تم استهداف رجال الإنقاذ المدنيين من الخوذ البيضاء أيضاً. مرة أخرى، تتواصل جرائم الحرب التي ميّزت الصراع السوري، والقوى الغربية تلتزم الصمت، وكأنها أصبحت “طبيعية” جديدة.
خوف مزدوج
كان معروفاً أن منطقة إدلب، حيث تدفق نحو مليوني لاجئ من أجزاء أخرى من سوريا، بما في ذلك مناطق حلب والغوطة بعد مجازر النظام، ستكون ملاذاً محفوفاً بالمخاطر.
اليوم الخوف ذو شقين. من ناحية أخرى، يمكن للمرء أن يتخيل تماماً نتيجة القصف المكثف من قبل النظام وروسيا على منطقة تضم أكثر من 3 ملايين نسمة، بما في ذلك حوالي مليون طفل، والذين لم يعد لديهم أي مكان يفرون إليه. قد يكون أسوأ مما عاشه الشعب السوري خلال ثماني سنوات من الحرب.
من ناحية أخرى، فإن 80٪ من سكان المنطقة مدرجون في قائمة المطلوبين من قبل دمشق، وهنا أيضاً نعرف جيداً المصير الذي سيلحقهم به التعذيب وآلة الموت التي يمارسها النظام.
علاوة على ذلك، ماذا سيكون مصير المدنيين الذين سيتم تحريرهم من قبضة داعش بعد سقوط الباغوز؟ هل هربوا من جحيم الخلافة ليسقطوا في ذلك النظام؟
على مدار ثماني سنوات، لم نرغب في حماية وإنهاء القتل المتعمد لأكثر من نصف مليون شخص والسماح باستمرار الجرائم التي لا نهاية لها ضد الإنسانية وجرائم الحرب، لكننا قمنا بإخفاء ضعفنا تحت الكلمات المريحة المتمثلة في العجز الجنسي أو، الأمر الأكثر فاحشة، الواقعية والتعقيد.
إذا كان الأمر كذلك، فما هو الفضل الذي لا يزال بإمكاننا منحه للاحتجاج بقيم القانون والحرية والكرامة التي تحملها أورُبا؟ فكيف لا نراها كلمات جوفاء وبائسة؟)
حيوات مستميتة في إظهار الدائر
لأثبت مساحة أكبر لما يستحق العطاء لتعميق أثر الدائر بنسَبه الإدلبي:
(1 تشرين الثاني 2016. غيث جاسر “مواطن فرنسي من أصل سوري” يكتب رسالة مفتوحة طويلة إلى رئيس الجمهورية الفرنسية. تلخص هذه الرسالة كل الدراما في سوريا وكل تشابك الشيء السياسي القبيح في المنطقة وفي العالم. اقرأها مرة أخرى على syrie.blog.lemonde.fr.
على طول السطور، يتذكر غيث جاسر حجر حلب الأبيض، الفستق الحلبي، مربى الورد، موسيقاها، مطبخها الراقي. يتذكر المكتبة الوطنية. لقد أخفت وثائق “لا يمكن الاستغناء عنها”.
كارثة، مرة أخرى.
يكتب غيث جاسر: “حلب اليوم ليست فقط تحتضر ولكنها تأسف لولادة الفيلسوف الملحد العظيم أبو العلاء المعري (973-1057) المدفون في مدينة سورية شهيدة أخرى (معرة النعمان) قرب حلب. نقش مكتوب على قبر الفيلسوف، تعلّمناه على مقاعد مدارسنا:
إنها الجريمة التي ارتكبها والدي ضدي، ولم أرتكبها بحق أحد
(البيت في أصله العربي شعراً:
هذا جناه أبي عليَّ وما جنيتُ على أحد)”.
أول هرب في زمن أمينوفيس الثاني ورمسيس الثاني، حلوان تحت سلماننصر الثالث (859-824 قبل الميلاد)، بيرية للإغريق وللمؤرخ الروماني فلافيوس جوزيفوس، تعرف رواية حلب الطويلة آلاف المغامرات، مثل هذا الدمار الذي لحق به. مدينة Ha-la-ap أو Halpa للملك الحثي موشيليش الأول. نفس الذي دمر بابل. دعونا نعيد قراءة ملحمة هذه المدينة بأكملها التي يحتفظ بها اسم سامي باسم حلب: الحليب الطازج.
هذا هو ما قتله الروس الأشاديون بوحشية في حلب: ذكرى الحليب الطازج النقية. فكرة هذه النضارة المغذية هي حضارة كاملة.
اقتل بأي ثمن. اقتل، كسّر، تخلص من التاريخ، التعددية حتى يسيطر المرء على كل شيء، ويسحق كل شيء آخر. اقتل الحليب الطازج للآخرين.
يسأل هولدرلين: “إذن من أين تأتي الرغبة غير الصحية بين الرجال في أن هناك واحدة فقط وأن هناك واحدة فقط؟”
الشّعر، الشعر الذي أراد أن يستعيد المسافة المخترعة. لكن مصيبة الإنسان؟ لكن مصيبة المدن؟
اقتل المدينة. اقتل المصفوفة. بحيث لا يوجد سوى واحد. لكن من احتفال هزيل بعيد الميلاد في حالة خراب مع “صور مقدسة”، صور الجلادين الذين لم يحتمل أن يرحموا على وجه الشمع، الذين ماتوا بالفعل، لأنهم قضوا الكثير من الموت.
اقتل لقاء المدينة.
مارِس التطهير الحضري مثل التطهير العرقي.
وبعد ذلك: أن يتجول وحده في الأنقاض حيث كانت حياته من قبل. احتفل بعيد الميلاد وحدك في أنقاض رهيبة.
سحق المكتبات والمساجد والنوافير والساحات والمباني الشاهقة وكل المعالم التي تشير إلى الآخر، نوع من الخلط السلمي. امسح آثار الآخر. انشر “الكراهية الهائلة”، كما كتب فرانسوا شاسلين. يضيف بينيديكت تراتنجيك: “دمروا المشهد الحضري لتدمير التمدن”. إنكار المدينة وإنكار وجودها بمحوها من المناظر الطبيعية وحتى من تاريخ البشرية”. في كل هذا، اجعل من مبيد الأرواح “الأكرونيا المضادة للمدن”.
في هذا الكتاب الرائع: استخدام الأنقاض، يقرن جان إيف جواني في العنوان مشروعاً وحالة يمكن للمرء أن يفترض فيها عدم التوافق. ما “استخدام” يمكننا الاستفادة من الأنقاض؟ أولاً وجدت هذا الاقتباس من راندال جاريل من لوسيس: “في قاذفات القنابل بأسماء فتيات صغيرات، ذهبنا لحرق البلدات التي تعلمناها في الفصل …”. وكما تقرأ، فإن هذا التحليل: “إن فرض الأنقاض على المهزوم هو منعه من أنقاضه، وقطع التسلسل الزمني للمريض من أساطيره”. يأتي المقتطف من الفصل المخصص للمهندس النازي ألبرت سبير، وزير البناء والأسلحة في الرايخ. كان لهذه العقيدة عقيدة فضولية، تتعلق بشكل حتمي بالخطاب الرومانسي أكثر من ارتباطها بآثار الحرب، أو نظرية قيمة الخراب Ruinenwerttheorie، أو “نظرية قيمة الأنقاض”. يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر وكان مديناً للمهندس المعماري الألماني جوتفريد سمبر. أيد هتلر هذه الفكرة التي تنص على أنه “يجب تصميم وبناء أي مبنى جديد لغرض وحيد هو إنتاج أطلال جميلة”، يلاحظ جوان.
جبل الشيطان (Teufelsberg) في برلين، هو تل يبلغ ارتفاعه ثمانين متراً أقيم بعد الحرب العالمية الثانية، وفقاً لتعليمات الحلفاء، حيث تم جمع اثني عشر مليون متر مكعب من الأنقاض في برلين.
في الخريف الألماني، يكتب ستيج داغرمان، الكاتب والصحفي السويدي، تقارير ما بعد الحرب في ألمانيا. يلاحظ اختفاء هامبورغ. أخذ قطاراً عبر المدينة المنهكة ولاحظ أن الغرباء فقط هم من يشاهدون الأنقاض. يكتب: “[…] إذا كنت تحب التسجيلات، إذا كنت تريد أن تصبح خبيراً في حالة خراب، إذا كنت لا تريد رؤية مدينة خرائب بل منظراً طبيعياً من الأطلال، مقفر أكثر من صحراء، وحشي من جبل ومدهش كحلم حزين، ربما توجد، على الرغم من كل شيء، مدينة ألمانية واحدة فقط على مستوى المهمة: هامبورغ”.
سمّي قصف هامبورغ بعملية عمورة.
العملية التي جرت في الفترة من 25 آب إلى 3 أيلول 1943 تدين باسمها للحادثة التوراتية: “ثم أمطر الرب الكبريت والنار من عند الرب على سدوم وعمورة من السماء. دمّر هذه المدن، وكل السهل وكل سكان المدن ونباتات الأرض … “.
وثيقة سرية بتاريخ 27 أيار 1943 من خدمات عمليات قيادة القاذفات: “تشير التقديرات إلى أن هناك حاجة إلى ما لا يقل عن 10000 طن من القنابل لإنجاز عملية التنظيف هذه”.
النقطة. “الغرض. تدمير هامبورغ “.
كان الأمر يتعلق بالوصول إلى الإمكانات الصناعية للمدينة ولكن أيضاً في الأداء السيئ للغاية، والتأثير بشكل كبير على معنويات الألمان، تم القضاء على حي هامربروك بالكامل. ألتونا تعاني من أضرار جسيمة. النسب والأرقام وبعد فترة طويلة من انتهاء الحرب، تناثرت الأطراف إلى الأبد في الأنقاض. كشرِّ الجثث الذي لا ينتهي إلى العدم، متزوج من هذا الغبار الذي أصبح نعشاً.
كم آلاف الأطنان اللازمة لـ “تنظيف” حلب؟ قنابل روسية؟ قنابل سورية؟
أعيد بناء المدن الألمانية المدمرة. نورمبرغ، روتنبورغ، لوبيك، كولونيا، بريسلاو. آحرون. درسدن.
من درسدن، تذكر صديقي القديم أنطوان القصف. في شباط 1945، كان لا يزال يعمل في STO في مصنع في سوديتنلاند Sudetenland، على بعد أقل من خمسين كيلومتراً من المدينة. تم إسقاط القنابل العنقودية والحارقة من يوم 13 إلى يوم 15. قال لي: “في الليل، يمكنك أن ترى هناك كما في وضح النهار”. كثيراً ما أفكر في ذلك الظلام في العمل الذي أعطى الوهم بالوضوح …
لقد قرأت أن 1300 قاذفة قنابل أسقطت ما يقرب من 4000 طن من القنابل على درسدن في ثلاث غارات. هذه المرة مرة أخرى، كان لابد من تدمير الروح المعنوية للألمان. مرة واحدة وإلى الأبد.
في عام 1946، أعطت اللجنة الدولية للصليب الأحمر عدد القتلى بأكثر من 305000. من سيعرف كم عدد الذين ماتوا في الحقيقة؟
عاد المصور ريتشارد بيتر إلى درسدن في أيلول 1945. وهو مسئول عن سلسلة من الصور. على وجه الخصوص، هذا التمثال الرمزي اللطف، على برج قاعة المدينة. تحت قدميه الخراب المطلق. في بادرة يديه وفي تعبير وجهه: غير مفهوم.
من المناسب أيضاً، في هذا الأدب المؤلم أدب الأنقاض Trümmerliteratur، أن نقتبس من ف. غ. سيبالد وعمله: عن التدمير كعنصر من عناصر التاريخ الطبيعي. قراءة سيبالد تعني البحث في ظلال قصة قتلها مؤلفون ألمان. إنه لاكتشاف هؤلاء الكتاب النادرين الذين تجرأوا على استكشاف أنقاض بلادهم، مثل فريدريش ريك، مؤلف مجلة يائسة، على سبيل المثال. في هذا الكتاب، يتعلق الأمر بمحطة في بافاريا العليا، 20 آب، 1943. سقطت حقيبة من الورق المقوى على المنصة وتنتشر محتوياتها: “ألعاب، طقم أظافر، كتان محترق جزئياً. أخيراً، تقلصت جثة طفل متفحّم إلى حجم مومياء كانت تحملها معها المرأة نصف المجنونة باعتبارها بقايا من الماضي لم يمسها أحد قبل أيام قليلة”.
كم عدد الحقائب التي فتحت بعيداً عن الكارثة، مليئة بجثث هؤلاء الأطفال المتفحمة بفعل الحياة المستحيلة والقنابل؟ كم عدد المدن التي تم سحقها بصق الشهداء الصغار التعساء في أماكن أخرى؟ إلى متى ستتقيأ المدن المختفية هذه العربدة من الوبر التي كان عليهم أن يبتلعوها؟
يقتبس سيبالد أيضاً كتاب تحت القنابل لجيرت ليديج. ذات يوم في تموز 1944، دمّر هجوم جوي مدينة ألمانية كبيرة. طيار أمريكي يسقط قنابله، لكنه قرر القيام بذلك على مقبرة. لتجنيب المعيشة… إيرولدي).
هناك ما يشير إلى الوجه الآخر من الحياة، المواجهة، التحدي، الموت اعتباراً، ومن ثم إشهاراً للمرئي وتشهيراً لما يشكّل إهانة للحياة عينها، ومن منظور نسوي هذه المرة.
ذلك ما يمكن التوقف عنده، انطلاقاً من مقال شارلوت لوريس روديونوف “المقاومة النسائية في إدلب: خط سير إحدى الناشطات”.
المقال طويل نسبياً، ولكنه مدجج بالكارثة، بالاستجابة لمنطق الحياة المطارَد، طبعاً، وأنا أورد ما يكمّل خريطة الجرح الإدلبي المتفجرة أكثر فأكثر:
(يعطي هذا النص الكلمة لدينا، وهي شابة سورية من بلدة إدلب. هذه المدينة المتوسطة الحجم في شمال سوريا، على بعد ستين كيلومتراً من حلب، كانت خاضعة لسيطرة النظام وقوات المعارضة بالتناوب، قبل أن تخضع لسيطرة جبهة النصرة، وهي مجموعة من المقاتلين الجهاديين. أحد المكونات الإسلامية للمعارضة المسلحة في سوريا. التقينا في عدة مناسبات بين تحرير إدلب في آذار 2015 وتشرين الثاني 2017. اضطرت دينا إلى مغادرة بلدتها عندما علمت النصرة أنها تدرب النساء والأطفال على حقوقهم السياسية والمدنية. تعيش الآن في المنفى على الحدود التركية السورية وتنتظر بفارغ الصبر سقوط النصرة حتى تتمكن من العودة إلى ديارها.
عندما التقيت دينا في تركيا عام 2015، كانت لا تزال تعيش في شمال سوريا، في مدينة إدلب حيث تعيش مع والديها وتدرّس الرياضيات في الجامعة. تسافر بانتظام إلى تركيا حيث تقضي ما معدله أسبوعين كل شهرين لتنسيق عملها مع المنظمة التي توفر لها التدريب في مجال حقوق الإنسان والتربية السياسية والمدنية للمجموعات النسائية في منطقة إدلب. “يشبه الأمر أن تكون مصاباً بالفصام وأن تضطر إلى التنقل بين تركيا وسوريا! تعتاد بسرعة على الظروف التي تعيش فيها ثم فجأة تضطر إلى تغييرها”. قالت وهي تشرح أنه في إدلب عليها الآن أن ترتدي عباية، هذا الثوب الأسود الطويل الذي يلبس فوق الملابس، وأن تكون محجبة بالكامل باللون الأسود، أما في تركيا فيمكنها أن تلبس ما تشاء.
لا تحب قضاء الكثير من الوقت في تركيا، رغم أن ذلك يمنحها مساحة للتنفس، لأن العيش في إدلب ليس بالأمر السهل. لا يمكنها أن تقدر الحياة في تركيا: التسوق أو الخروج أو الذهاب إلى مطعم يمنحها متعة أقل من الشعور بالذنب. تشير بروح الدعابة إلى أنه حتى لو كانت تتسوق في تركيا، فلن تتمكن من ارتداء أي من الملابس التي ستشتريها في إدلب.
الاختلاف الأكبر بين الحياة في سوريا وتركيا هو عدم وجود طائرات أو مروحيات للإشارة إلى قصف وشيك. لكن دينا تشير إلى أنه حتى في تركيا، فإن أدنى ضوضاء لطائرة أو مروحية تخيفها. تتذكر أنه بعد تدمير منزل أختها في غارة جوية، انتقلت الأخيرة مع أطفالها وزوجها إلى منزل والديهم. لم تستطع ابنة أختها النوم خائفة من احتمال تعرضها لقصف آخر. لتهدئتها، أخبرتها دينا ألا تقلق، لأن الطائرات كانت تنام في الليل أيضاً. ولكن ما إن جعلتها تنام حتى سقط برميل متفجر على منزلهما. لم تستطع الفتاة الصغيرة أن تغفر لخالتها لأنها كذبت عليها. أخبرتني دينا أنها تحدثت معها عبر الهاتف قبل أيام قليلة وسألتها عما إذا كانت تفضل إدلب أم ألمانيا. أجابت الطفلة الصغيرة: “ألمانيا: لا توجد طائرة هنا! “. الكلمة دينا الآن.
لم يعد لدى أحد أحلام شخصية بعد الآن، كل ما فكروا فيه هو كيفية جعل الثورة تنتصر حتى يحصل الناس في النهاية على الحقوق التي يستحقونها. كنا نفكر في كيفية تحقيق العدالة للشهداء وإطلاق سراح جميع المعتقلين. كانت هذه أحلامنا.
وعلى الرغم من أنني كنت جزءاً من الثورة منذ البداية، فقد تمت مصادرة صوتي لاحقاً، ومثل العديد من النساء الأخريات، فُقدّتُ تلك القوة لإسماع صوتي.
لقد غيرت الثورة حياتي تماماً. قبل الثورة، شعرت أن حياتي ليس لها هدف. صحيح أن إنهاء دراستي، والزواج، وإنجاب الأطفال كانت، بطريقة ما، أهدافاً، لكن لم يكن هناك حقاً هدف أعلى في حياتنا. عندما بدأت الثورة، شعرت حقاً بتغيير في داخلي: شعرت أخيراً أن هناك هدفاً يتجاوزني، هدف لم يكن هدفي فقط، بل هدف مشترك مع بقية العالم… بدأت حياتي تتغير: لم أفكر في الأشياء التي كنت أفكر فيها حتى ذلك الحين. بدأت أفكر في أشياء أكثر أهمية كانت بعيدة كل البعد عني: ما الذي يجب أن أفعله لكي تنجح الثورة؟ مع من كان من الضروري أن نتحالف مع أنفسنا لضمان نجاحها؟ لقد قُطعت العلاقات مع الكثير من الأشخاص الذين كانوا أحياناً مقربين جداً، مع الكثير من الأصدقاء لأنهم كانوا ضد الثورة. وأصبحت جميع العلاقات تتمحور حول الثورة. ربما لم يكن اختياراً ذكياً تماماً! لأنني أدركت لاحقاً أن العلاقات التي أقيمت في اللحظات الأولى من الثورة كانت تستند أحياناً إلى سوء الفهم: كان هناك أشخاص لم يكن لدي سوى القليل جداً من القواسم المشتركة معهم في النهاية والذين وقعت في حبهم. أدركت أخيراً أن لدي اختلافات كبيرة عن الثورة، لكنها ظهرت فيما بعد.
رأيت منازل تحولت إلى رماد أمام عينيّ، لكنني لم أغادر. تسألني لماذا؟ لكن لماذا المغادرة؟ والداي وعائلتي لا يزالون يعيشون في إدلب فلماذا أرحل؟
كانت هذه الفترة صعبة للغاية: لم يكن هناك ماء ولا كهرباء ولا خدمة. كانت الفوضى والنظام يقصف باستمرار. نظراً لعدم وجود خدمة، لم تعد المدارس تعمل. لذلك، مع مجموعة صغيرة من النشطاء، قررنا محاولة إعادة فتح المدارس حتى يتمكن أولئك الذين بقوا أو عادوا من متابعة الدراسة، ومنع الطلاب من فقدان عامهم الدراسي بأكمله. تمكّنا من فتح مدرستين، وأولئك الذين بقوا في إدلب بدأوا تدريجياً في إرسال أطفالهم هناك.
عند عودة السكان إلى إدلب، سيطر جيش الفتح على المدينة بأكملها وأجزاء من محيطها. فرض جيش الفتح قواعد معينة هناك: يجب على النساء ارتداء المعاطف الطويلة واللباس الأسود، الألوان محظورة؛ لا تستطيع المرأة الخروج بمفردها. السكان الذين عادوا إلى المدينة امتثلوا لهذه القواعد التي تم فرضها قبل وصولهم والتي كانت مرتبطة بالفعل بنظام القمع. في المرة الأولى التي قلنا فيها لك فقط أن تفعل هذا أو ذاك، لكن في المرة الثانية يمكننا إيقافُكِ أو إيقاف والدكِ أو أخيكِ أو زوجكِ.
أصبحت الحركات النسائية أكثر تقييداً. ومع ذلك، عادت النساء والفتيات إلى المدرسة، وعاد المعلمون إلى مناصبهم، لكن الجميع بدأوا يفعلون ما يريده الجيش. هذا حيث كنا مخطئين! كان يجب أن نقول لا منذ البداية. لكن الأهالي لم يرفضوا الالتزام بهذه القواعد خوفاً، وأيضاً لاعتقادهم أن هذا الجيش قد حررهم من نير النظام وبالتالي لا يستطيعون رفضه.
بالنسبة لي، النصرة هي نفسها داعش. يجب على النساء الآن ارتداء العباءة والحجاب الأسود. إذا لم يرتدوه، تتدخل شرطة الأخلاق. ومن الواضح أن المعطف الذي يرتفع فوق الكاحل ليس طويلاً بما يكفي، كما أوضحت لي شرطة الأخلاق مؤخراً. يذهب ضباط الشرطة إلى حيث تصطف النساء لشراء الطعام، ويخبرونهن كيف يرتدين من الآن فصاعداً، ويعلقن على ما يرتدينه. في البداية لم يكونوا مخيفين للغاية لأنهم لم يكونوا يحملون أسلحة، لكنهم الآن يتجولون مسلحين لتأكيد سلطتهم. ذهبوا أيضاً إلى الجامعة حيث يُمنع الآن وجود فصول مختلطة. لم أعد أستطيع تعليم الرجال. سألته لماذا هم طلابي بعد كل شيء، وأنا أدرسهم الرياضيات منذ سنوات … لكن رئيس الجامعة أشار إلى أحد مقاتلي النصرة وأجاب: “سي هكذا الآن! إما أن نتبع قواعدهم أو يغلقون الجامعة “.).
وثمة ما يناظر هذه المدينة أو تلك، من المدن التي اكتوت بوجوه الإرهاب، ولكل مدينة سرديتها، تغريبتها، صوتها المدوي في برية يُشتبَه في أمرها.
هنا تحضر نماذج يوغسلافية إزاء المُشار إليه في حرب هتلر الفظيعة، وأبعد، مدن تتسلسل، تتساقط بأهليها وحيواتها كالفراشات في نيران مباغتة:
(على العكس من ذلك، أتذكر تلك المقابر البوسنية حيث استغلت القذائف الصربية أو الكرواتية الجنازات وسوء الحظ لإضافة المزيد، من الألم والرهبة إلى قلوب هي في حداد بالفعل.
ما زلت أتذكر سراييفو وكلمة: مبيد “urbicide” التي صاغها العمدة السابق لبلغراد، المهندس المعماري بوجدان بوجدانوفيتش للإشارة إلى “طقوس القتل في المدن”. المدن، إذن، ليس كهدف استراتيجي ولكن كهدف هوية.
في سراييفو، حكم الكومسيلوك، وهي طريقة للعيش سمحت للمجتمعات بالعيش معاً. هذه الكوزموبوليتانية هي التي تم إسقاطها في نفس الوقت الذي دمر فيه الصرب بشكل منهجي كل التراث المتعدد الأعراق للمدينة: الطبقة العثمانية والنمساوية المجرية وطبقة ميتليوروبا وآثار القرون من اليهود والمسلمين، الديانات الكاثوليكية، الأرثوذكسية …
طقوس القتل قد حدثت.
كان.
أنظر مرة أخرى إلى الصور الطويلة لجيرار روندو أثناء حصار سراييفو. مثل كل شيء رآه هناك، خلال ذلك الحصار البغيض، تمكن من التعبير، بالأبيض والأسود، عن البساطة الفظيعة. الحرب. دينه الصامت. الحياة اليومية التي تحاول المقاومة. الثلج…
كان الثلج يتساقط في سراييفو.
في ذلك اليوم كان الثلج يتساقط في حلب. وكان عيد الميلاد احتفلنا به. كما في حكاية ملعونة، لن تعرف أبدا الاطفال المتفحمين ولا أدري ما هي الأمتعة.
كتب موريس بلانشو أيضاً أن الكارثة تعتني بكل شيء
وحمص. وكاراكوتش. وجويرنيكا. وهيروشيما. وناغازاكي. وغروزني. ولوهافر. ولوفين. وبيروت في حالة حرب، كتب عنها برنارد واليت في كتاب “المناظر الطبيعية مع أشجار النخيل”. وطروادة الذي أبولو وبوسيدون، يخبر الإلياذة، مختزلاً تحت الماء والرمال. وعقاد. وباريس التي أراد هتلر تدميرها. ويأس لييج الذي أحرقه تشارلز الغامق “بشكل كبير” لميشليه. وكل ما أنساه وأتجاهله
– طقوس القتل.
وقرطاج البونية التي سحقها سكيبيو إميليان لتولد من جديد مدينة رومانية. يؤكد جان إيف جوانيس: “أن أكون الجلاد والشاهد bourreau et le témoin، وأن يبكي على المنظر الذي كان سيقدم نفسه له”.
ويصوغ هذا الأخير دليلاً قوياً: “إن المذبحة ترقى إلى مستوى العقاب، في حين أن الخراب سيكون وسيلة الإذلال”.
وغدا الموصل، وغدا إدلب، واحسرتاه.
متى وكيف سنعيد بناء ما كانت خلفية الحياة وتاريخهم اللامتناهي؟
احترقت روما وبنى نيرون مدينة أكثر ضخامة.
لكن حلب؟ كيف نعيد بناء القرون والقرون؟
حلب، مثل أي مدينة أخرى، لم تكن قط حجرا على حجر على حجر. لقد كانت عمل فكرة متحركة، مثل سمرقند، مثل البندقية، مثل براغ، مثل القدس.
كيف تبني مدينة؟ حتى فيتروفيوس لم يعرف. حتى الكسندر. حتى سليمان. حتى قيصر.
المدن تخترعنا، نحن لا نخترعها أبداً، حتى كبناة وفنانين وفلاسفة، إلا بهذه الطريقة لتعكس ما فعلوه بعبقريتنا الحميمة والجماعية.
تدمير هذه الجغرافيا هو القضاء على رسم الخرائط الحميمة للجميع، إنه نهب للكنز غير المرئي. تدمير الجراثيم الأولى.
يضيف بلانشو أن التفكير في كارثة (…) لم يعد لدينا مستقبل للتفكير فيه.
أعيد قراءة هذا النص الرائع، الجسر فوق نهر درينا لـ إيفو أندريك. جائزة نوبل للأدب اليوغوسلافي تخترع مصير قرية فيزغراد، التي يتم تنظيمها حول جسر فوق نهر ومجتمعاتها.
تمر القرون صماء ومظلمة.
الجسر دائما يقاوم: “اتبعت القمريات بعضها بعضاً واختفت الأجيال سريعاً، لكنها بقيت دون تغيير، مثل الماء الذي كان يتدفق تحت أقواسه. لقد كان يشيخ، بطبيعة الحال، أيضاً، ولكن على نطاق زمني أكبر بكثير ليس فقط مدى عمر الإنسان، ولكن أيضاً سلسلة كاملة من الأجيال … “.. إيرولدي).
كيف يكون النظر في الجهة الجالبة لأمان ما، للوجه الذي يشير إلى طريق خلاص ما، إلى اليد التي تطمئن بوصفها يد مصافحة، لا مسافحة، أو ضغط على الزناد، أو سحب للصاعق؟
إنها مناورات متداخلة، وقد تداخل العدو ومن كان صديقاً، أو برسم الصديق الآن في هذا المعمعان الجهنمي؟! والمقاومة نفسها محل اختبار، استناداً من كل رقعة مكانية.
لنمض مع إيرولدي، وهو يشير إلى الجسر ورمزيته، وما بعد وصف الجسر ورهابه:
(الجسر يعيش. “لقد اهتز، مثل الغبار، كل الآثار التي خلفتها أهواء الرجال واحتياجاتهم العابرة، وظلّ بالرغم من كل شيء، دون تغيير ولا تغيير”.
كتب موريس بلانشو، دعونا نشارك الخلود لجعلها عابرة.
تساعدنا مدننا في هذه المهمة المستحيلة. جميع المدن هي مدننا.
قتلهم هو الغطس في كهف تدنيس المقدسات).
ثمة ما يستدعي الماضي لتكون لوحة الموت الجماعية أكثر فظاعة:
(لا أخلاق في هذا الأمر، لا غنائية، تلك المعاناة، خسارة جسيمة أخرى، تؤثر علينا أيضاً، من خلال حرماننا من ذاكرة أساسية كانت لدينا في قلوبنا أو حتى أننا لم نكن نعرفها والتي تشكلنا.
في النهاية، دعونا نشارك هذه السطور من الكاتبة السورية ماري سورات التي نُشرت في صحيفة لوموند في 17 كانون الأول 2016. ماري سورات من حلب. توفي زوجها ميشال سورات، الذي احتجز كرهينة في بيروت عام 1985، أسيراً في السجون سيئة السمعة لمنظمة الجهاد الإسلامي اللبنانية، المرتبطة بحزب الله، وهي حركة شيعية موالية لإيران. يستحضر قلعة المدينة. يعود التحصين الأول إلى الفترة الهلنستية ومن سلوقس نيكاتور، وهو جنرال من الإسكندر الأكبر. دمرها المغول عام 1260، ودمرتها قوات تيمورلنك عام 1400، وأعادها المماليك وسيادتهم الأشرف قانصوه الغوري في القرن الرابع عشر، وعبر العثمانيون الذين استولوا على حلب عام 1516. زلزال 1822م. اهتز قبل إعادة إنشائه في عام 1850 من قبل السلطان عبد المجيد الأول. في يوليو 2015، دمر انفجار جزءاً من أسوار القرن الثالث عشر.
هل تدمير المغول مقبول أكثر؟ لا بالطبع. لم يتم العثور على الخسارة، لكن القرون تم إصلاحها وظهرت أنطولوجيا جديدة للمكان. ومرة أخرى، يجب أن نعرف ما الذي نتحدث عنه عندما نكتب “الدمار على يد المغول”.. إيرولدي)
بالمقابل نكون في مواجهة طبيعة التحركات داخل خريطة إدلب، لحظة الحديث عن “جيب إدلب المعارض”:
(يشكل جيب إدلب المعارض، أكثر من مجرد منطقة تمرد، العديد من التحديات الدبلوماسية للقوى المشاركة فيه، وعلى رأسها تركيا وروسيا وإيران.
كجزء من عملية أستانا، تعهد الموقعون الثلاثة بإنشاء نقاط مراقبة على طول خط الجبهة لضمان الاحترام الفعال لوقف إطلاق النار بين المتمردين والقوات الموالية. مع الأخذ في الاعتبار علاقاتها “المتميزة” مع المتمردين، كان من المتوقع منذ البداية أن يكون لتركيا الدور الرئيسي في إنشاء نقاط المراقبة هذه التي تمكنت، علاوة على ذلك، من تثبيتها على الجانب الثوار من البلاد. وليس من جانب الموالين كما فعلت إيران وروسيا. نصت اتفاقية أستانا على أن تنشئ تركيا اثني عشر مركزًا للمراقبة، وروسيا عشرة، وإيران سبعة.
بالإضافة إلى ذلك، تحتفظ تركيا بعلاقات جيدة بشكل مناسب مع بعض الجماعات المتمردة في منطقة إدلب، التي أعيد تجميعها الآن، تحت قيادة أنقرة، في “الجيش الوطني” المذكورة سابقاً. بعض مجموعاتها، ولا سيما أحرار الشام، خدمت ولا تزال تعمل كمساعدين في العمليات العسكرية التركية ضد الكورد على وجه الخصوص؛ لقد أكسبتهم هذه الشراكة لقب “مرتزقة” تركيا من قبل الكورد، أو حتى “الجهاديين” بسبب الإيديولوجية الإسلامية التي تشترك فيها معظم الجماعات المتمردة المنضوية تحت راية “الجيش الوطني”.
وبحسب منظمة المرصد السوري لحقوق الإنسان، فإن التفجيرات والاشتباكات في محافظة إدلب منذ بدء الهجوم في أيار تسببت في مقتل 900 مدني ورحيل قرابة 330 ألف آخرين إلى تركيا.. بارث).
ومع إميل بوفييه:
(“أعظم كارثة إنسانية في القرن”: هكذا تحدث مارك لوكوك، مدير الشؤون الإنسانية بالأمم المتحدة، عن الأوضاع في منطقة إدلب أمام مجلس الأمن في 30 تموز. إذا تم استخدام عنوان “أسوأ كارثة إنسانية” حالياً لوصف صراعات أخرى في العالم، فإن الوضع في منطقة إدلب المتمردة يتميز بخطورته، وعلى وجه الخصوص، من خلال إمكاناته الكارثية المتزايدة في حال فشل المجتمع الدولي في تنفيذ سياسة خفض التصعيد بين مختلف الأطراف المتحاربة في المنطقة.
جيب الثوار الأخير هذا هو جيب حقيقي في الأراضي السورية، محاصر من الشمال الغربي بالحدود السورية التركية، وأقامت تركيا على طوله جداراً، وتحيط به من الجنوب قوات النظام السوري، في الشرق وعلى جزء كبير من الشمال، يقع جزء من الجيب متاخماً من الشمال للأراضي التي يسيطر عليها الجيش التركي وقواته السورية.
أراضي هذا الجيب المتمرّد مشتركة بين عدة مجموعات متمردة والتي، وفقاً للباحث ديفيد ريجوليه روز، الباحث في المعهد الفرنسي للتحليل الاستراتيجي، تمثل “فسيفساء تجمع كل المشاعر الإسلامية”. حركتان رئيسيتان تعارضان بعضهما بعضاً.
الأولى هي هيئة تحرير الشام. تشكلت رسمياً في 28 كانون الثاني 2017، وهي في الواقع حركة نشأت – وهي اليوم منفصلة – عن القاعدة، والتي أُطلق عليها على التوالي اسم جبهة النصرة في عام 2012 وفتح الشام في عام 2016. ثلاثون ألف جندي تسيطر على معظم أراضي إدلب.
ويعارض هيئة تحرير الشام تحالف إسلامي مقرب من جماعة الإخوان المسلمين وتدعمه تركيا. هذه هي “جبهة التحرير الوطني” (FLN – Jabat Al-Wataniya Al-Tahrir) ، وتتألف بشكل خاص من جماعة أحرار الشام، والتي تدور حولها مجموعات: فيلق الشام، وجيش العزة، وصقور الشام، أحرار الشام، حراس الدين، جيش النصر، جيش الأحرار، جبهة أنصار الدين، أنصار الإسلام وأنصار التوحيد.
مجموعة ثالثة، أصغر هذه المجموعة، تجمع العديد من الحركات المتجمعة داخل الحزب الإسلامي التركستاني. وهي تتكون بشكل أساسي من الأويغور والأوزبك والشيشان وتدعو إلى الجهاد الدولي، قاتل بعض أعضائها في أفغانستان قبل أن يلتحقوا بالمسرح الشامي.
أما بالنسبة لداعش، فلدى التنظيم عدة خلايا متناثرة وغير منظمة وبدون أي قيادة حقيقية، يقدر عددها بألف مقاتل على الأكثر.
وقد اشتبكت هذه الجماعات الجهادية مراراً وتكراراً من أجل تحقيق مكاسب إقليمية ونفوذ متزايد، كما كان الحال على سبيل المثال من 19 شباط إلى 24 نيسان 2018.).
وهكذا الحال مع نيكولاس تنزر والسخرية المرة والفاقعة للجاري هنا وهناك، كإجراء لحل، أو لإيجاد حل، في سوريا عموماً، وإدلب في المواجهة، طبعاً دون نسيان، أوجه العنف المدمرة، والإرهاب المرئي في الجوار، وأمكنة أخرى:
(تقسيم أوروبا على سوريا عامل مضاعف آخر، إلى جانب انسحاب المملكة المتحدة العالقة في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، من المسرح العالمي. عدم القدرة على التنبؤ من جانب تركيا العضو في الناتو وميل بعض دول الخليج إلى التخلص من جرائم الأسد من خلال إعادة فتح سفارتها في دمشق – والتي يجب أيضاً (على الرغم من عدم تأكيد القرار)، أن تُعاد إلى جامعة الدول العربية، التي ستُعقد قمتها القادمة في الحادي والثلاثين من آذار، كان له تأثير أيضاً على إضعاف تحالفاتنا المحتملة في المنطقة.
نعم يمكننا العمل
لكن فرنسا ليست خالية من أي قدرة على المبادرة وهي في وضع يمكنها من إقناع بعض الحلفاء في الاتحاد الأوروبي، سياستنا في سوريا لا تنفصل عن ثلاثة اعتبارات عالمية.
أولاً، تتم في إطار كفاحنا من أجل احترام القانون الدولي، وخاصة القانون الإنساني، ومسؤوليتنا عن الحماية (R2P): حجم الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب التي يرتكبها النظام وداعموه – وكذلك لا يمكن أن تكون الأطراف الأخرى، وإن كانت مشاركة بدرجة أقل، موضع إدانة شفهية وحدها.
عندما يحين الوقت – ما زلنا بالتأكيد بعيدين عن ذلك – يجب أن تضمن الانتخابات الحرة في سوريا، تحت السيطرة الدولية، مشاركة الجميع، بمن فيهم اللاجئون. بعد إفلاس المبعوث الخاص السابق للأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا، مهما كانت الأسباب، فإن الموقف الذي يبدو غير مدرك لحيل روسيا الجديدة، غير بيدرسن (الذي لم يطرح حتى مسألة إطلاق سراح السجناء السياسيين)، يمكن أن تكون إشكالية. يتطلب هذا الخطر أيضاً التزاماً أقوى من فرنسا وأوروبا، حتى لو علمنا أن الدبلوماسية لن تكون كافية.
من المستبعد أيضاً أن أكثر من 5.6 مليون لاجئ يمكنهم العودة وأن 6.2 مليون نازح داخلياً يمكن أن يصلوا إلى محافظاتهم – علاوة على ذلك، فإن القانون رقم 10 (الصادر عن دمشق) الذي ينظم نهب ممتلكاتهم يستبعد الكثير منهم. يجب أن تواجه هذه الملاحظة الواضحة أيضاً فرنسا وأوروبا – وبالطبع دول المنطقة – في سياسات اللجوء الخاصة بهم.
سوريا تهدد بأن تصبح هذه العلبة بعيدة عن الأخبار الدولية لأن الصرخات لن تصل إليها بعد الآن. قد يرتاح ضميرنا جباناً، ويخف إحراج جبننا، لكن انعدام الأمن في العالم سيتضخم وسيكون هذا إرثاً لنا).
والمفارقة الموازية بلسان آخر، وهو نسوي إدلبي تماماً، وعمق العذاب المرصود:
(ثورة ثانية على جيش الفتح؟
الجزء الأصعب هو رؤية من شاركنا معهم في المظاهرات الأولى ينقلبون علينا. أولئك الذين كانوا أصدقاءك، حلفاءك بالأمس، هم الذين يضطهدونك الآن! الأشخاص الذين سرنا معهم جنباً إلى جنب في الاحتجاجات المناهضة للنظام، هم أنفسهم الذين قلقوا على سلامتنا وتأكدوا من عدم حدوث أي شيء لنا في الاحتجاجات. هؤلاء هم نفس الأشخاص الذين يقولون لنا اليوم ألا نغادر منازلنا. إنهم يضطهدوننا بقدر النظام! ولكن كيف نقبل أن يأتي هذا القمع الآن من الذين انتفضوا معنا ضد النظام؟ عندما نقول لأصدقائنا أنه لا يمكننا الصمت، ولا يمكننا السماح لأنفسنا بالقيام بهذه الطريقة، يجيبون علينا: “هل من المفترض أن نبدأ ثورة ثانية؟ ألم نخسر أرواحاً كافية بالفعل؟”
المشكلة هي أن الكثير من الثوار تخلوا عن المعركة. وعندما أتحدث إلى الأصدقاء الثوريين، فإنهم لا يشعرون بالقلق مثل النساء الثوريات من المصير المفروض عليهن. إنهم لا يدركون أنهم التالون على القائمة، كما هو الحال في الرقة! حتى أنهم يفرضون هذه القواعد على زوجاتهم … في الوقت الحالي لا يرون المشكلة، لكن القيود لا تتعلق فقط بالسجائر والملابس. يعتبر حمل العلم الثوري الذي يسمونه علم الكفر جريمة.
تحرير إدلب؟
لا يمكننا القول إن إدلب قد تم تحريرها! إنه شكل آخر من أشكال القمع الذي نشأ … لا يوجد سوى عدد قليل من الأماكن في الريف حيث يقاوم السكان بفضل المجالس المحلية القوية، التي كانت موجودة هناك لفترة طويلة، والتي ترفض السيطرة ووجود الأجانب المقاتلين. جميع المقاتلين محليون، وهذا أمر حقيقي لتغيير قواعد اللعبة. هذا يسمح لهم بفرض قواعدهم الخاصة ومواصلة العيش كما كان من قبل. كانت النساء هناك أكثر تحفظاً في القاعدة، لكننا لم نجبرهنّ على تغيير عاداتهنّ في ارتداء الملابس أو إعاقة الدورة الدموية بفرض حراسة عليهن. والرجال يدخنون الشيشة بحرية في الشارع. الشعار الأسدي “بشار أو لا شيء” أصبح “نصرة أو لا شيء”: لقد أخذوا البلد لأنفسهم! الناس الآن يلومون الثورة على جلب النصرة إليهم، لكن هذا لم يكن على الإطلاق أحد أهداف الثوار … لقد صادروا الثورة والآن هم يسرقوننا من البلاد!
النصرة تحرم الحديث بتعبير ثورة عن الوضع في سوريا. بالنسبة لهم هو جهاد! إذا اعترضنا على هذا المصطلح وقلنا لهم أن الأمر كله لم يبدأ بالجهاد بل بالثورة، فإنهم يرفضون هذا التفسير. بالنسبة لهم، إنه مجرد جهاد.روديونوف).
وإلى أين، أو وماذا بعد، بعد هذا الكارثي؟
ربما هناك ما يستوجب التقاطاً للأنفاس، والدخول في حساب سريع. التشاؤم بالمطلق، أم ببعض أو كثير منه، دون نسيان جرعة محمودة من التفاؤل، تجنباً للوقوع في أيدي الجلادين، أو إعلان نهاية كارثية لمن يواجه الخراب وذويه وحماته ومنظريه، والتشبث بالحياة:
(الآن الجدار قد عاد مرة أخرى – المكان المعلوم هو الجهاز المتفجر الذي تم التغلب عليه، وكتبت ماري سورات: “نسخة داكنة من القلعة مؤطرة في عام 1909، مؤطرة بعدسة لامبوين المكبَّرة، معلقة على شكل نذُر سابق على جدار مدخل بلدي شقة باريسية، وكأن على المنفى تحديد الجينوم الخاص بها. القلعة صورتي التقية، مجال مغناطيسي. مثل العذراء والقلب المقدس. دائماً في مرمى البصر، بجميع أشكاله وطبقاته، نقش، قلم، زيت، مائي. كانت هناك موارد شاملة في الماضي، والتي سمحت لي حتى وقت قريب بتذكر كل الذكريات: التعريشة، والياسمين، وكونفيت السترون. فستق ومشمش مجفف بالشمس، صابون غار، حمامات ساخنة، نوافير مجمدة. والسمكة الذهبية في مثمن بركته. من الأفضل التوقف عند هذا الحد … أليس ذلك أساساً من الذكريات التي يعاني منها الهستيري؟ أشاهدها وهي تفتح فمها في هذه القلعة. يبدو أنها لا تزال واقفة”).
لكنه التفاؤل الذي يُخشى منه، على وقع هذا الخراب المستشري:
(الخوف من حلب جديدة:
بعد سقوط حلب في كانون الأول 2016، بدأ الخوف الشديد لدى الناس في إدلب. عندما رأينا كيف دمر النظام المدينة وعامل الثوار وكيف أنهك المدينة حتى اللحظة الأخيرة … كنا خائفين لأننا من آخر معاقل الثورة في الشمال السوري مع بضعة أماكن في ريف حلب. رأينا كيف فر الناس وهم يعيشون الآن في المخيمات. فقط النشطاء والقادة العسكريون الذين لديهم بعض المال لاستئجار منازل وصلوا إلى إدلب. إذا هاجم النظام إدلب فأين نذهب؟ لم يتبق لنا أماكن أخرى للجوء إليها، خاصة وأن تركيا أغلقت حدودها … لذا فالناس خائفون جداً جداً بعد سقوط حلب.
لكن ثوار إدلب كانوا يأملون أيضاً أن يؤدي وصول الثوار الذين طردوا من حلب إلى تغيير ميزان القوى في المدينة، بعد وصولهم، تظاهرنا معاً ورأينا مرة أخرى أعلام الثورة ترفرف في إدلب، كانت هناك لحظة أمل، كان يُعتقد أن اضطهاد النصرة سينتهي. وبعد ذلك، بدأت الجماعات النسائية في الاحتجاج على قواعد النصرة.
اخترت الثورة واخترتها جزئياً لأنني كنت أتمنى أن أحقق حياة أفضل لمن حولي، لكن للأسف لم ننجح في جلب أي شيء آخر غير الموت والدمار والقصف. واليوم آمل أن يتوقف القتال والحصار المفروض على السكان المدنيين وخاصة في الغوطة. لكن لأكون صادقًا، أشعر أن هذا الحلم ضخم وطويل الأمد. الحلم الذي سأتمكن بلا شك من تحقيقه هو وقف القتال… روديونوف).
أي غد ينتظر إدلب، ينتظرنا مع إدلب، ينتظر البلد، وضمناً إدلب، ينتظر البلد والمنطقة، حيث شعوب كثيرة تكابد إرهاباً متعدد الوجوه والألسنة، لكنه يعدم الحياة في كل شيء، حتى في نفوس الذين يتبنونه، أو يتفاخرون بما يقومون به، وتحت تسمية أخرى؟
هل ستُرى إدلب وقد خرجت من بين أنقاضها، كأي مدينة، تكون إرادة الحياة أقوى من تصورت القتلة، ومورّثي الخراب، والعنف هنا وهناك؟
مصادر وإشارات:
1- جان بول شانيولو: الإرهاب (وبلغة الجمع أيضاً) في ملتقى البحر الأبيض المتوسط 2017/3 .
Jean-Paul Chagnollaud: Terrorisme(s)Dans Confluences Méditerranée 2017/3 (N° 102)
2- سيرج ايرولدي: قبر حلب، وقتل في بعض الأماكن الأخرى، في ملتقى البحر الأبيض المتوسط 2017/3 (رقم 102)
Serge Airoldi:Tombeau d’Alep,Et de quelques autres lieux tués,Dans Confluences Méditerranée 2017/3 (N° 102)
3- بنجامين بارث: “أعظم قصة رعب إنسانية في القرن الحادي والعشرين” حالياً في إدلب بسوريا.
Benjamin Barthe :« La plus grande histoire d’horreur humanitaire du XXIe siècle » a actuellement lieu à Idlib, en Syrie
4- اميل بوفييه: أكبر كارثة إنسانية في القرن، 9-8/ 2019
Emile Bouvier: “plus grand désastre humanitaire du siècle” 29-8- 2019.
5- نيكولاس تنزر: في سوريا يجب ألا يغطي الصمت الجرائم المرتكبة في إدلب، 18-3-2019.
Nicolas Tenzer: En Syrie, le silence ne doit pas recouvrir les crimes commis à Idlib,18-3-2019, theconversation.com
6- شارلوت لوريس روديونوف: المقاومة النسائية في إدلب: خط سير إحدى الناشطات (مجلة الجلبة، العدد 83، 2018/ 2)
Charlotte Loris-Rodionoff: Résistance féminine à Idleb itinéraire: d’une activiste,Dans Vacarme 2018/2 (N° 83)
ملاحظة: أشيرَ في نص إيرولدي إلى ماري سورات، وأراها جديرة بالتنويه هنا، لأهمية الاسم ومأساة الاسم وتاريخه بالمقابل. ومن خلال متابعة انترنتية قليلاً. إن لها أكثر من موقع إعراب في هذا المقال المركَّب:
ولدت ماري معمر في26 كانون الثاني 1949 في حلب، كان والدها مزارعاً، حيث درست الفنون التصويرية في أكسفورد، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة، وفي عام 1973 التقت ميشيل سورا في بيروت، حيث تزوجت من عالم الاجتماع والباحث في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي الذي اختطف في 22 أيار1985 في بيروت
من قبل منظمة الجهاد الإسلامي. تم إعلان وفاة زوجها في 5 آذار 1986، بعد هذه الأحداث كتبت كتاب “الغربان من حلبCorbeaux D Alep”، حيث أدانت نفاق السياسة. “عن ويكيبيديا”
ولها أكثر من كتاب، وهناك ما كتب عنها، وعن استماتها في الدفاع عن حياة زوجها، باعتبارها قضية إنسانية. وقد تمكنت من معرفة حقائق كثيرة جرّاء روحها المقاومة.
أي اكتشفت بالمصادفة DÉCOUVERT PAR HASARD… ، كما سنرى.
أخيراً، ستكون ماري سورات قادرة على الحداد عشرين عاماً لاستعادة الجسد من زوجها، الباحث مايكل سيورات، ولسنوات عديدة، بينما بدت ماري سورات تبكي في الصحراء، وراء الألم والدموع، قادت ماري سورات معركة طويلة وشاقة للعثور على جثة زوجها، الباحث الفرنسي ميشيل سورات، للتعرف عليها. وأخيراً تمكنت من التعرف عليها. لتحزن مع ابنتيه. سمعت بعد عشرين عاما. نجح المختبر المركزي للشرطة القضائية في باريس في التعرف عليه بمقارنة الحمض النووي الخاص به مع أحد أبنائه.
خطوات كثيرة، أسئلة كثيرة ونفس صرخة التمرد نفسها: “اعثر على زوجي وأعدْه إلي”، ظلت ماري سورات تسأل. من كان يظن أنه سيتم سماعها أخيراً وأنه سيتم العثور على جثة، حتى عظام ميشيل سورات، ضحية الحرب في لبنان، وتحديد هويتها وإعادتها إلى الوطن!
ستكون محنة زوجته الطويلة مصحوبة به لفترة طويلة، إلى ما بعد وفاتها!
في 22 أيار 1985، في خضم الحرب، تمّ إبعاد عالم الاجتماع والباحث في المركز الوطني للبحث العلمي، ميشيل سورات (المعروف على وجه الخصوص بعمله في الحركات الإسلامية) الذي يعيش في بيروت مع زوجته، وكانا بالكاد ينزلان في مطار بيروت. حين أعلنت جماعة “الجهاد الإسلامي” السرية الموالية لإيران مسؤوليتها عن اعتقاله. لم يتم إعدامه في مارس 1986، كما أعلن سجانيه، لكنه توفي عن عمر يناهز 37 عاماً بسبب السرطان، وفقاً لشهادة زميله في الزنزانة، جان بول كوفمان. الذي تم إطلاق سراحه في 4 أيار 1988، مع اثنين آخرين هما الرهينتين الفرنسيين الدبلوماسيين مارسيل كارتون ومارسيل فونتين. في وقت مبكر من عام 1986، طالبت ماري سورات بإعادة جسد زوجها الذي لا يمكن تعقبه، وفي 25 تشرين الأول 2005، أبلغتها وزارة الخارجية الفرنسية بأنه “عُثر عليه”.
اكتشفت بالمصادفة … DÉCOUVERT PAR HASARD
بالمصادفة، في الخريف الماضي، كشف العمل في أحد مواقع البناء عن بعض العظام التي يمكن أن تخصه والتي أحالت السلطات اللبنانية عينات منها إلى قاضي مكافحة الإرهاب، جان لوي بروغيير، الذي كان يقود التحقيق في اختفائه في فرنسا. وكانت مديرية المراقبة الإقليمية التي تلقتهم، عهدت بهم إلى المختبر المركزي للشرطة القضائية، الذي نجح في استخراج آثار الحمض النووي القابل للاستخدام. إنها، أخيراً، خاتمة محنة طويلة لعائلة سورات. سيدفن ميشال سورات في منزله على التراب الفرنسي.
في 22 أيار 2002، عندما أصبح “حزب الله” الشيعي، الذي يعتبره الرهائن الراعي الرئيسي لعمليات الخطف، قوة مهمة على الساحة السياسية اللبنانية، ماري سورات وابنتيها وخمسة رهائن فرنسيين اختطفوا في لبنان في ثمانينيات القرن الماضي (روجر أوكي، وجان بول كوفمان، ومارسيل كارتون، وجورج هانسن، وجان لويس نورماندين) قدموا شكوى ضد إكس أمام المحاكم الفرنسية بتهمة “الاختطاف المشدد والحبس القسري فيما يتعلق بمشروع إرهابي”. فتح تحقيق قضائي. ماري سورات لا تتوقف عند هذا الحد. تستنكر تباطؤ العدالة الفرنسية. “كيف لا نتفاجأ”، كتبت في رسالة وجهتها إلى وزير العدل ونشرت في الصحافة الفرنسية، أن فرنسا، التي كانت المحرض على لجنة ميليس في لبنان وتبذل طاقة هائلة لتحديد (…)المذنب بارتكاب أعمال إرهابية، ويمكن أن تتصرف تجاهي بشكل عرضي”؟
بناءً على شهادة الرهينتين الفرنسيتين السابقتين، كوفمان وكارتون، والتي تفيد بأن زوجها كان محتجزاً مع رهائن أمريكيين، تستنتج أن رعاة عمليات الاختطاف قد تم تحديدهم وإدانتهم. “وهو ما يرقى إلى القول إن قتلة زوجي قد تم تحديدهم بالفعل من قبل العدالة الأمريكية”.
Article paru dans “La Revue du Liban” N° 4039 Du 4 Au 11 Février 2006,www.rdl.com.lb
=========