د. رياض نعسان آغا، كاتب ومسرحي وإعلامي ووزير ثقافة سابق.
مجلة أوراق- العدد15
أوراق الملف
أسعدني أن تخصص مجلة أوراق عدداً خاصاً عن إدلب، وأن تقفز هذه المدينة الصغيرة الوديعة التي كانت منسية قروناً إلى اهتمام إعلامي دولي، وقد تذكرت حادثة طريفة من أوائل خمسينيات القرن الماضي، حين خرج ثلة من أولاد حارتنا إلى الشارع يهللون ويغنون فرحاً فهرعت إليهم أسألهم عن المناسبة، فقالوا “طلع اسم إدلب في الراديو”، وكانت تلك البهجة الطفولية تعبيراً عن إحساس شعبي بقسوة الإهمال الذي عانى منه أهل إدلب ولاسيما حين خاب رجاؤهم بمرور القطار من بلدهم، فضلاً عن انزياح الأوتستراد الواصل بين اللاذقية وحلب وتحوله من أريحا إلى سراقب دون المرور بإدلب، وكان مروره يجعل إدلب واسطة العقد بين محافظتين كبيرتين، وكان المسافرون يجدون في استراحة إدلب فرصة طيبة لتذوق أشهر حلويات إدلب التي تسمى “شعبيات”، وقد زاد خروج الأوتستراد بعيداً عن مدينة إدلب من عزلتها، ولم يكفّ أهل إدلب عن المطالبة بوصلها بشبكة المواصلات الرئيسة، وأذكر أن وفداً شعبياً من وجهاء إدلب سافر في أواخر الخمسينيات إلى العاصمة للقاء المشير عبد الحكيم عامر يطالب بمرور السكة الحديدية في المدينة حتى لو طال الطريق قليلاً بين حلب واللاذقية أو ازدادت كلفته، فارتباط المدنية بشبكة المواصلات يفك العزلة وييسر لعشرت الآلاف من سكانها تواصلاً أكثر حيوية وأقل عناء مع باقي المحافظات، لكن المشير رفض ذلك، كما أذكر أن نخبة من وجهاء إدلب مضوا لاستقبال الرئيس ناظم القدسي حين زار إدلب، وألقى خطاباً من شرفة السرايا القديمة، في شارع ضيق لحرص أمني وقلق من مواجهة الناصريين والجماهير التي ترفض الانفصال، وكنت قد تسللت بين الناس إلى مقربة من الرئيس، فلما بدأ خطابه فاجأه الناس بالحجارة وبالشتائم وبالهتافات المضادة، وقد تابع الرئيس خطابه لكن الشرطة لاحقت الشباب الثائرين، وقبضت على العديد منهم، وحدثت الفوضى واتسع الشغب، واختصر الرئيس خطابه، وصعد إلى قاعة الاستقبال حيث وجهاء إدلب يتفاءلون بفرصة تقديم مطالبهم، وقد روى لي والدي رحمه الله، وكان أحد أعضاء الوفد أنهم اختصروا مطالبهم إلى رجاء الرئيس أن يأمر بالإفراج عمن قبضت عليهم الشرطة ورجال الأمن، فاستجاب وأمر بألا يكون هناك معتقل واحد ممن اعتدوا عليه.
وقد تكرر المشهد في الزيارة الوحيدة التي قام بها حافظ الأسد لإدلب، وكنت أقف بعيداً عن الحشود الرافضة، وأرى سحابة من الأحذية تملأ الفضاء تعبيراً عن الرفض، وأحسب أن هذه الحادثة تركت لدى النظام نفوراً كبيراً من إدلب وأريافها، فازداد إهمال الحكومات المتتالية لإدلب، ثم جاءت أحداث الثمانينيات وتعرضت المحافظة كلها وبخاصة جسر الشغور لعنف ترك آثاره الدامية في قلوب الناس، واعتقل مئات الشباب، وقتل المئات، واتسع الشرخ بين إدلب والنظام.
ذات يوم سألني أحد كبار المسؤولين “لماذا يكرهنا أهل إدلب؟” وجاء جوابي دبلوماسياً “الطريف أن أهل إدلب يسألونني لماذا يكرهنا النظام؟” وذكرت له أن إدلب تشعر بإهمال حكومي مديد ومتراكم، فلا توجد مشاريع تنموية ولا يوجد اهتمام بتطوير المحافظة والإفادة من ثرواتها، وحين حملت حقيبة وزارة الثقافة “2006- 2010” أطلقت تسمية “المدن الحاضرة في الذاكرة” بدلاً من “المدن المنسية”.
ويعرف الآثاريون أهمية محافظة إدلب بكونها معبر سوريا البري الأشهر نحو أوربا، وهي على مدى التاريخ من أهم الثغور التي دارت فيها الصراعات العسكرية منذ أن بدأ تحرير بلاد الشام من الاحتلال البيزنطي الرومي، وما تزال بعض الطرق الرومانية المعبدة حية في أرجاء المحافظة، ولن أتحدث عن آثار إدلب رغم اهتمامي الثقافي والحكومي بها، فقد كفانا الحديث عنها سيل من الدراسات والأبحاث الأثرية المتخصصة من كبار علماء الآثار السوريين والمستشرقين، وهذه مناسبة أوجه فيها التحية لصديقي الباحث فايز قوصرة الذي أثرى بدراساته وأبحاثه المتخصصة بتاريخ إدلب مكتبتنا الأثرية.
ولقد تحدثت في كتبي “سارح في الزمان، وسارح في المكان، ومن أريج الشام” عن كنز إدلب الحضاري، وهو من أهم كنوز سوريا، ويضم أكثر من خمسمائة موقع شهير، وتحدثت عن لقائي الأول بالبرفسور باولو ماتتيه، عام 1975، وهو في طريقه إلى مكتب محافظ إدلب ليعلن كما أعلن أرخميدس “وجدتها”، يقصد “إيبلا”، فقد وجدت بعثته الإيطالية جذع تمثال من البازلت كشف الباحثون أنه لملك يدعى “ليم إيبت” وفيه كتابة مسمارية باللغة الأكادية، بينت أن اسم الموقع هو “إيبلا” وقد كشفت الأبحاث الأولى عن سويات من العصر الحجري النحاسي في بدايات الألف الرابع قبل الميلاد، وسويات من البرونز القديم والوسيط والحديث ومن عصري الحديد الأول والثاني، وأكدت هذه الاكتشافات أن إيبلا شهدت ازدهارها في الألف الثالث قبل الميلاد.
كان اكتشاف إيبلا بما حظي به من تغطية إعلامية دولية قد أثار اهتماماً دولياً بآثار إدلب، فتدفقت البعثات الآثارية لتكشف المزيد من خفايا الكنز الضخم الذي يتجاوز ثلث ثروة سوريا من الكنوز الحضارية، والمفجع أن هذه الكنوز تعرضت للقصف والتدمير، وللسرقة والتهريب، وبخاصة آثار إدلب التي عبث بها العابثون والمجرمون.
فأما الثروة الإنسانية البشرية الهامة في إدلب، فقد بلغت ذروتها الناهضة مطلع القرن العشرين، حين أطلق على إدلب لقب “الأزهر الصغير” لكثرة ما كان من أبنائها من العلماء، وكان أشهرهم الشيخ محمد طاهر ملا الكيالي الذي كان يحاضر في الأزهر الشريف في مصر، وهو أستاذ أجيال من نخب علماء إدلب.
وكان من أشهر علماء إدلب وشيوخها أستاذنا الجليل الشيخ نافع شامية، وكان من اللامعين الكبار أستاذتنا أحمد قطيع وحكمت المعلم وسليم الخطيب وآخرون يصعب حصر أسمائهم.
والمفارقة أن الجامع الحمصي الشهير في إدلب كان يبعد بضع خطوات من دار السينما، وفوقها بيتنا القديم، وقد نشأتُ بينهما، فأحببت الإسلام وأحببت السينما، ولعي بتّ وسطياً أتفهم أهمية تراثنا وحضارتنا العربية الإسلامية، وأهمية التواصل مع العصر وإنجازاته العلمية والتقنية والفنية.
كان صديقي الفنان مروان فنري عاشقاً للمسرح، وهو الذي دفعني لخوض غمار هذا الفن، وقد أقنعني بأن ألعب دوراً في مسرحية من إخراجه، كتبها صديقنا عبد الفتاح قلعجي وعنوانها “الفصل الثالث” وهكذا دخلت عالم المسرح، لكني بدأت تجربتي الأهم في الكتابة للمسرح، وقد كتبت مسرحية شعرية أخرجها مروان فنري بعنوان “تراجيديا أوليس”، وبها دخلت عالم الثقافة والفن هاوياً في دمشق.
كان نخبة أصدقائي من جيلي ومن الجيل التالي شباناً موهوبين، وقد برز كثير منهم في الساحة الثقافية الإبداعية السورية والعربية، وأول صديق لي كان عبد الله سمسوم، وقد أجلسنا الشيخ نافع في الصف الأول الابتدائي في مقعد الدرس متجاورين، وامتدت صداقتنا حتى وفاة عبد الله رحمه الله، وقد غادر إدلب إلى موسكو ودرس النقد وعمل في الصحافة والإعلام فيها، وكنا عبد الله وأنا أصدرنا مجلة مدرسية في مدرسة المتنبي بعنوان “براعم تتفتح” وقد استقلّيت بها وأصدر عبد الله مجلة بعنوان “نور على يقين” قبل أن يتحول إلى الفكر الماركسي.
وقد خطفني فن الدراما التلفزيونية مطلع السبعينيات، وواكب اهتمامي بها شغف صديقي رياض سفلو رحمه الله بفن المسرح ودراما التلفزيون، وحين انتقلت للعمل في التلفزيون أقنعت رياض سفلو بأن يغادر إدلب وأن ينتقل للعمل في التلفزيون، وقد مضينا معاً في مسيرة فنون الدراما والتلفزيون سنوات طويلة وكان رياض موهوباً ومهنياً بارعاً، فضلاً عن كونه رجل قيم سامية.
وسرعان ما برز في إدلب شباب مبدعون، تألقوا في الكتابة المسرحية والتلفزيونية والصحافة النقدية، كان من أبرزهم نجم الدين السمان وخطيب بدلة، وهما الأكثر تأثراً بأديب ضخم خرج من إدلب إلى فضاء الأدب العربي، وهو حسيب كيالي، وقد أبدع خطيب بدلة ونجم الدين السمان في فنون القص الساخر، وكانت حلبات الشعر ملآى بمبدعين موهوبين كان أهمهم عندي محمد الشيخ علي رحمه الله، ولا يتسع المجال لذكر شعراء إدلب الذين ورثوا المكانة عن شاعر أستاذ هو بديع المعلم رحمه الله ، كما ورثوا الطرف من حسيب كيالي، ومن أبرزهم أنس دغيم ونجيب كيالي وبراء الشامي وجهاد نعسان آغا وعبد الرزاق كنجو فضلاً عن كونه فناناً تشكيلياً، فأما الشاعرات فحسب إدلب وريفها ما أبدعته سيدة الشعر العربي المعاصر صفية الدغيم. ولسوء الحظ انقطعتُ عن مواكبة الأجيال الشابة في إدلب بسبب فاجعة التغريبة السورية، التي مزقت الأسر، وشردت الشباب، واحترقت في أتونها إدلب كما احترقت باقي المحافظات، وقد كبرت الفواجع في إدلب التي كانت وقود الثورة السورية، متفوقة على أجيال الآباء الذين أطلقوا الثورة السورية الكبرى ضد الاحتلال الفرنسي، وكان قائد ثورتهم البطل الرمز إبراهيم هنانو ونخبة من رجال المحافظة، وقد بات جبل الزاوية ميدان البطولات التي اتسع نطاقها وكبرت تضحياتها في ثورة الكرامة والحرية، وقد زاد الفجيعة انهيار الجيش الحر الذي هزم داعش وقدم بطولات أسطورية، لكن ضياع بوصلة الثورة وتعدد الجبهات فيها جعلها في مهب رياح الصراعات الدولية. وما نزال نترقب خلاصاً وتحقيقاً لأمل شعبنا كله في نيل الكرامة والحرية، وعودة الحياة الكريمة لسوريا وشعبها العظيم.