*حنا أبو حنا
كنتُ أتمنى أن أجلس بين يدي الكبير حنا أبو حنا طالبًا، وأنا في السادسة من عمري، أو في بدايات كتابتي لقصائدي الأولى ورواياتي الأولى في نهايات المرحلة الإعدادية، ومطلع المرحلة الثانوية، لكنني حُرمت من هذا، وكم من أشياءَ حُرمْنا منها منذ عام نكبتنا.
كنت أتمنى هذا، وأقول لنفسي ربما كان يمكن أن أكون كاتبًا أفضل لو حدث هذا، فلطالما عانيتُ من المعلمين الذين عاصرتهم، وتفنّنوا في عصْر روحي، حينما لم يصدِّقوا أنني كاتب تلك القصائد التي كنتُ أحملها إليهم فرِحًا وأعود حزينًا في كلّ مرّة.
لا أتذكَّر معلمًا واحدًا وقف إلى جانب مواهبنا المحاصرة بالفقر وعذاب المخيم ويُتْمِنا في شتاتنا، وقد كتبتُ عن هذا في روايتي «طيور الحذر»، وروايتي الأخيرة «طفولتي حتى الآن».
كنت أقرأ في البداية عن علاقة حنا أبو حنا بشباب شعر المقاومة، ثم سمعتُ في ما بعد، منهم، عن تلك المكانة العالية التي كان يحتلها في نفوسهم، وكنت أغبطهم على محبته لهم، ورعايته، وما يكتبه عنهم بمحبة الوطن وكرم الغيمة وظلها ومطرها أيضًا.
كنت أتمنى أن أجلس بين يديه طفلًا، ولم يتسنّ لي ذلك إلّا بعد أن بلغت الثانية والخمسين، في ذلك اليوم الذي أقامت فيه مكتبة «كل شيء» حفل إطلاق «زمن الخيول البيضاء» في فلسطيننا. ولكم خِفْتُ يومها، حين رأيت اسم الكبير حنا أبو حنا بين الأسماء العزيزة التي ستناقش الرواية.
فأن يقرأ أبو حنا هذه الرواية، فإنها وصاحبَها قد بدآ علاقتهما به في قاعة امتحان. خِفْتُ من قراءته كما لم أخف من أي قراءة في يوم من الأيام، وقلت: هل كان عليك يا إبراهيم أن تكتب عن حيفا في هذه الرواية؟ صلِّ من أجل ألّا يكون هناك خطأ فيها متعلق بحيفا، فها هي بين يدي قديسِ حيفا وعاشِقِها الأكبر الذي عاشها موجة موجة وشارعًا شارعًا وبيتًا بيتًا وقصيدةً قصيدة.
وبقيت خائفًا إلى أن وصلني تسجيل تلك الأمسية، وعندها أدركت أن «زمن الخيول البيضاء» قد ولِدت.
لم يكن حنا أبو حنا الغيمة التي حمتْ أرواحنا بظلها في لهيب غربتنا، بل كان أمطارها التي ارتوت بها أرواحنا. هذا الأنيس كبحر حيفا، والعالي مثل كرملها.
لم يُتح لي أن أجلس بين يديه تلميذًا في السادسة من عمري، لكنني فخور بأن أجلس بين يديه الآن ودائمًا؛ تلميذًا مجللًا بالشّيب…
(قدِّمت هذه الكلمة في حفل تكريم حنا أبو حنا، الذي أقيم في حيفا مؤخرًا)
*إحسان عبّاس
كأنّ الدنيا التي تأخذ هنا، تُعطي هناك، (في أحيان كثيرة!)، هكذا يمكنني القول إن لقائي بالدكتور إحسان عباس كان واحدًا من أجمل الأمور التي حظيتُ بها في حياتي الأدبيّة. لحسن الحظّ، كان اللقاء مبكرًا ومتزامنًا مع قرب موعد صدور ديواني الأول، حيث كان الدكتور إحسان مستشارًا للمؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، التي صدر الديوان بالتعاون معها ومع دار الشروق، عمّان. ولعل أجمل ما حدث هو تلك الرسالة التي أرسلها إليّ يومها بمجرد أن قرأ الديوان. تلك رسالة لا مثيل لها، رغم كلماتها القليلة، لأنها منحت صاحب ذلك الديوان، في مطلع مسيرته، طاقة استثنائية. وقد تعززّت تلك الرسالة برسالة أخرى حملها ذات يوم صديقي الصحافي رشيد حسن الذي كان يغطي أخبار مؤتمر عن تاريخ بلاد الشام يشارك فيه الأستاذ.
لم نكن قد التقينا حتى تلك اللحظة، إلّا أنني يمكن أن أتحدّث طويلًا جدًا عن أثر تلك الرسالة أيضًا، لا لأنها منحتني طاقة مضاعفة وحسب، بل لأنها علّمتني منذ ذلك اليوم المعنى العميق لعظمة تواضع الكبار.
كان إحسان عباس ذلك الكبير الذي ستربطني به صلة ستتطور فيما بعد، حين سيقيم في عمّان، وأعيش تجربة صداقة ستنمو وتمتدّ وتتعمّق، بشكل شخصي، تدفعه ذات يوم للطلب منّي قراءة مخطوط سيرته الذي لم يكن قد وضَع لها عنوانًا، طالبًا مني اقتراح عنوان، فكان «غربة الرّاعي».
وعندما سألني لماذا هذا العنوان؟: أجبتُ: لأسباب أربعة.
الأول، أنكَ بدأتَ حياتك راعيًا للأغنام، قبل النكبة.
والثاني، أنك كنتَ الرّاعي الأول لحركة الشعر العربي الحديث؛ بعد غربتك عن وطنك.
والثالث، أنك لم تتوقّف عن رعايتها، ورعايتنا حتى الآن.
والرابع، أن الذي حقّق كل هذا تفيض سيرته بحس عميق بالغربة، رغم كل ما أنجزه!
… قابلتُ كثيرًا من الكتاب بعد ذلك، وتوطّدت العلاقة معهم، وظلّت تفتنني -في بعضهم- تلك المحبة الصافية التي يغدقونها على من حولهم، كان جبرا إبراهيم جبرا واحدًا منهم، وفدوى طوقان، وعبد الرحمن منيف الذي فاجأني ذات ليلة في عشاء صغير أقامته مؤسسة عبد الحميد شومان على شرفه، بعد محاضرة عن تجربته في ذلك اليوم، حين همس لي: لماذا لا نكتب رواية مشتركة؟! وكنت أصدرتُ حتى ذلك الحين خمس روايات، الأولى دارت أحداثها حيث دارت أحداث ملحمته الكبرى «مدن الملح». كان العرض مفاجئًا وكريمًا حقًا، لكننا، وربما، لصعوبة ظروف اللقاء وصعوبة سبل التّواصل في ذلك الحين، لم يتحقّق ذلك المشروع.
يمكن أن أتحدّث طويل عن جماليات المحبة والتواضع التي عشتها في شخصيات أخرى، عربية وأجنبية، لكنْ ظلَّ للعلاقة مع إحسان عباس طعم آخر، وسأظلّ دائمًا سعيدًا وفخورًا بمحبته وصداقته. ولعل من الأمور التي أفرحتني دائمًا، أنني عندما أهديت له قصيدتي «القدّيس» التي تستلهم تجربته؛ ثقافةً وحياةً، كتبتها في حياته، وقرأتها بحضوره في ذلك اللقاء العلمي الذي نظمته مؤسسة شومان، وأن القصيدة كانت قصيدة تحية غير مؤجلة، لا قصيدة رثاء.
وبعـــد:
تتواضع الوردة فتصبح وردةً أكثر.
كم حاولتَ ألّا تكبـرَ كي لا تخدشَ الماءَ أو الغصون
فلم تكْبرْ سوى في المرآة
من أين لكَ كلُّ هذا الظِّل أيّها الشفاف؟
من أين لك كلُّ هذا الضّوء أيها العابرُ العتمةَ كمطرٍ أو قدِّيس؟
كان لا بدَّ من أن تَعبُرَ لنتعلَّمَ الطريق
كان لا بدَّ من أن تُضيءَ لنتعلَّمَ الجهات..
خصلاتُ الشَّعرِ الأبيضِ وهذا الجبين
وكلُّ تلكَ الحنطةِ في اليدين: أسماءٌ للشمسِ في هذا الليل.
فتواضع كما شئتَ حين تُشيْر إلى عصاكَ
وأنتَ تقول:
ها أنا أتكئُ عليها -آخرَ الأمر- مثلَ سواي
ولكن تذكَّرْ
كم كانَ يمكنُ أن تكون قاماتُنا محنيَّةً
لو لم نتكئْ عَليك!
*القدس العربي