إبراهيم الزيدي: سيسيولوجيا الهامش.. الكتابة على الجدران أنموذجاً

0

بداية تجدر الإشارة إلى الفروق القائمة بين مفهومي (الهامش) و(المهمّش) رغم ما بينهما من قواسم مشتركة. إذ أن الهامش يقع في منطقة ما بعد المتن؛ سواء كان متن الكتاب أو الخطاب أو الطريق أو المدينة والمجتمع… إلخ. أمّا المهمّش فهو الكائن الإنساني حين يتعرض لفعل الإقصاء عن سابق دراية وقصد.

ولذلك كان الفيلسوف الألماني جورج سيمل (1858-1918) يبحث في الأشكال الأولية للتفاعلات الاجتماعية من خلال ظواهر مصغّرة، أي أنه يأخذ بعين الاعتبار تلك المناطق البعيدة عن الضوء السيسيولوجي. إذ أن في تلك المناطق يمكن مراقبة “حراك المفاهيم” والتنبؤ السابق لأوانه باعتبار الحياة اليومية العامة عالقة في القوالب الاجتماعية والأخلاقية. فهناك مفاهيم تبقى راكدة في ميدان المعرفة إلى أن يأتي حدث جلل، من قبيل الهزات والتحولات والتغيرات، فتطفو على السطح ويعاد بناؤها وتوظيفها وقبل ذلك قد يعاد النظر في حمولتها، بحسب رأي عالم الاجتماع المغربي أحمد شراك.

وبناء على ذلك، لم تأخذ الكتابة على الجدران (الغرافيتي) حصتها من الدراسة السيسيولوجية قبل الربيع العربي. ربما لأنها من الظواهر الحديثة في المجتمعات العربية، وربما بسبب غلبة كتابات المراهقين والتعابير غير اللائقة التي اتسمت بها. إلا أن ذلك لا يبرر عدم دراستها، فهي -أيّا كانت حمولتها- تمثل لسان حال فئة ما في منطقة ما، وتكتب لسبب ما.

اللافت للنظر أنه بنفس الفترة وبذات الأمكنة، كانت شعارات الأنظمة الشمولية هي الوحيدة التي تزاحم كتابات المراهقين، وتسابقها إلى احتلال الجدران في الشوارع العامة. وكلما عدت عليها العوامل الطبيعية وتهتكت كلماتها وبهتت ألوانها، تطالعنا المناسبات الوطنية المتلاحقة بطبعة جديدة من تلك الشعارات؛ طبعة مزيدة ومنقحة وملونة أيضا!

فما هي الأبعاد الرمزية لتلك الظاهرة؟ وما هي القواسم المشتركة بين رغبات المراهقين المكبوتة ودوافع السلطات في تلك الأنظمة؟ وما الذي يدفعها للكتابة على الجدران وهي التي تمتلك كل وسائل الإعلام؟

ثمة نوعان من الخوف؛ خوف يقع في مجال الإدراك، وهو خوف شخصيّ قد يتحول إلى ثقافة عامة حين يطال غالبية أفراد المجتمع، وهذا هو خوف الهامشيين والمهمشين على اختلاف أسبابه ودوافع الخروج منه أو عليه. وخوف آخر يقع في مجال اللاشعور ويمكن تسميته بالخوف البنيوي، وهذا النوع من الخوف هو الذي ينتاب السلطات غير الشرعية، لذلك تراها تستهدف كل أماكن التجمعات وتستغل كل الوسائل الإعلامية والإعلانية لتأكيد وجودها وتبريره، وليس لشرعنته. فهي بذلك تسعى إلى إقامة نوع من (التضامن الآلي)، بحسب رأي إميل دوركهايم.

فالمخيلة الاجتماعية غالباً ما تتيح لنا أن ندرك أن بعض الأحداث تبدو محدودة التأثير، لكنها في الحقيقة تعكس قضايا أهم وأوسع، أو تؤدي إليها. فأولئك المراهقون الذين كانوا يلجؤون إلى كتابة رسائلهم العاطفية المشفرة على الجدران في المجتمعات المحافظة لهم أسبابهم الواضحة ومقاصدهم البيّنة. وهم أنفسهم الذين فتحوا باب التعبير بهذه الطريقة ومن ثم تبعهم كل من يخشى أن يقول رأيه علناً.

وكلما كان الرأي الذي تحمله الرسالة خطيراً، كانت العبارات أكثر اختصاراً، وكان انتقاء الجدار الذي سيحمل تلك الرسالة يتم بدقة أكثر، لدرجة أن بعض الرسائل وخاصة الرسائل ذات المحتوى السياسي والتي تمس أعمدة السلطة، لم تكن تُكتب على جدران الشوارع العامة بل نجدها في الشوارع الفرعية، وأحياناً داخل (مراحيض) المرافق العامة. ويلاحَظ عليها سوء الخط نتيجة ارتجاف اليد أثناء الكتابة ما يدل على الخوف والسرعة، أو التشويه المقصود للخط خشية أن يُستدل على الكاتب من خلاله. فالمخاوف “تدفعنا إلى القيام بفعل دفاعي، وعند القيام به فإنه يحول الخوف إلى وجود مباشر وملموس، فاستجاباتنا هي التي تعيد صياغة الهواجس المخيفة باعتبارها واقعاً يومياً يجسد كلمة الخوف المجرد”* بدون أن ندرك ذلك بالضرورة فقراراتنا الشخصية تنمّ عن موقعنا في المجتمع.

هذا ما كان يحدث في الوقت الضائع ولذلك كان يحدث خفية وعلى عجل، ويحاول المرسل أن لا يترك في الرسالة ما يدل عليه. إلا أن (البراديغم) الجديد والانفتاح على العالم من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، قدم للمراهقين بدائل موضوعية فانصرف أغلبهم عن كتابة رسائلهم العاطفية على الجدران وتركوا الجدران لفئة أخرى من الكتّاب ونوع آخر من الكتابات، أهمها وأشهرها تلك الكتابات التي ملأت الشوارع إبان الربيع العربي.

إن نظرة عامة لتلك الموجة الجديدة من الكتابات، تجعلنا نلاحظ ما يلي:

  • أولا: بدأت الكتابات في الأزقة والشوارع الفرعية ثم انتقلت إلى الشوارع الرئيسية المطلة على الساحات العامة.
  • ثانيا: تطور أسلوب الكتابة من الطريقة التي تعتمد على (البخ) إلى التخطيط وتصميم الجرافيك.
  • ثالثا: تحولت من عمل فردي إلى عمل جماعي، بحسب عائدية الاختصاص.

هذه الملاحظات المبدئية أحدثت نقلة نوعية في تاريخ الكتابة الجدارية، إذ تحولت من طور الرسائل العاطفية والسباب والشتائم وإثارة الفضائح، إلى شكل من أشكال البيانات السياسية العلنية. وكأن كتّابها يريدون القول للأنظمة التي تحكمهم إن الشارع لنا، أو نحن الشارع.

هذان الشكلان من الكتابة الجدارية (وإن كان الأول هو من أسس للثاني والمشتركات بينهما كثيرة) إلا أن بعدهما في ضمير المجتمع مختلف جداً. ويمكن النظر إلى الفروق بينهما بطريقة إرفنغ غوفمان (1922-1982)، فغوفمان ينظر إلى سلوك الفرد باعتباره انعكاساً لعملية التفاعل الاجتماعي المستمرة في المجتمع. وهذا ما لم تدركه تلك الأنظمة، وبقيت تتعامل مع تلك الأحداث بمنطق التعالي المتعالم. ولم تفهم الفرق بين حركة الهامشيين وتحرك المهمشين. ولا عجب في ذلك، لأن الأنظمة من الشرق الأوسط إلى شمال أفريقيا هي وريثة المرحلة الكولونيالية، فالمنطقة قد انتقلت -برعاية تلك المرحلة- من الأنظمة غير المركزية إلى شكل من أشكال الدولة الحديثة، شكل يتناسب مع استراتيجيات المستعمر وهو يغادر البلاد.

إذن، تلك الدول وضعت أسس قيامها المرحلة الكولونيالية ولم تستطع تجاوز ذلك الإرث حتى الآن. لذلك لم تستطع هذه الدول قراءة المعطيات الاجتماعية وتحليلها، ولذلك لم تستطع إيقاف تناسل الاحتجاجات.

ونستحضر هنا قول غوته “في البدء كان الفعل”، فتلك الكتابات الجدارية هي أفعال ليس المقصود كتابتها بل تأثيرها. فالسلوك الإنساني يصدر عن جملة الدوافع والحاجات الداخلية؛ فالحاجة تخلق نوعاً من التوتر لا يزول إلا بالإشباع. وما الأفكار إلا وسيلة لتحقيق التلاؤم بين الإنسان والوجود، وكل وسيلة هي علة فاعلة وكل غاية هي نتيجة. لذلك يقال في الفلسفة: إن تعيين الغاية يتم بالإرادة وتعيين الوسيلة يتم بالعقل. والثورة كما يقول بديع الكسم: “لا تحقق معناها إلا إذا انطلقت من شعور بالفارق الذي يفصل الواقع عن نموذجه في العقل”.


* السوسيولوجي البولندي زيجمونت باومان (1925-2017).

*تلفزيون سوريا