ترجمة: محمد محمد الخطابي
منذ زمنٍ بعيد، وفي بلدٍ ناءٍ، كانت تعيش زرافة ذات قامةٍ متوسطة، كانت بالزرافة غفلة، إذ خرجت ذات يومٍ من الغابة وتاهت، فلم تدر أين تسير، ولا أين تتجه، فصارت تمشي على غير هدىً من هنا الى هنالك، حاولت البحث عن طريق العودة فلم تهتد إليه، وهكذا، ظلت تجُول في أرض الله الواسعة، حتى وجدت نفسها في فج بين هضبتيْن، حيث كانت تدور رحىَ معركةٍ حاميةِ الوطيس. على الرغم من أن عدد القتلىَ كان مرتفعاً في الطرفيْن، لم يستسلم المتحاربان، ولم يسمحا بالتفريط في سنتيمتر واحد من الأرض التي كانا يذودان عنها. كان الضباط يحثون جيوشهم على الصمود والاستمرار في القتال بضراوة، والسيوف مرفوعة إلى أعلى، في الوقت الذي كان الثلج يكتسب اللون الأرجواني بدم الجرحىَ. وبين تصاعد الدخان، ودوي المدافع وضجيجها كنت ترىَ الموتىَ يتساقطون في صفوف الجيشيْن، وكانوا يسلمون الروح في كل حين.
الأحياء كانوا مستمرين في إطلاق النار بحماسٍ منقطعِ النظير، وهكذا حتى يأتي دورُهم هم الآخرون في السقوط، إلا أنهم كانوا في تلك اللحظات يضعون في حُسبانهم أن التاريخ سوف يذكرهم بفخرالأبطال، لأنهم كانوا يهبون أنفسَهم دفاعاً عن شرف علمهم، أخذ التاريخ بالفعل إقدامهم وشجاعتهم بعين الاعتبار، وكان عادلاً، فقد حكم وقضىَ بالقسطاس لصالح الطرفيْن بأنهم أبطال، إذ كل طرفٍ كان يكتب تاريخَه الخاص، وهكذا أصبح ويلنغتون بطلاً مغواراً بالنسبة للإنكليز، وأصبح نابليون بطلاً مقداماً بالنسبة للفرنسيين. استمرت الزرافة في المشي ، حتى وصلت إلى جانب من الفج، حيث كان هناك مدفع كبير. وفي تلك اللحظة ذاتها انطلقت رصاصة طائشة مرّت بالضبط على بعد عشرين سنتيمتراً من رأسها من الجانب الأعلىَ، وعندما رأت الزرافة الرصاصة تمر بالقرب منها، وبينما كانت تتابع بنظرها طريقها، فكرت وقالت:
الحمد لله الذي لم يخلقني طويلة القامة أكثر مما أنا عليه، إذ لو كان عنقي يزيد ثلاثين سنتيمتراً فلا بد أن الرصاصة كانت قد أصابتني في رأسي. والحمد لله كذلك على أن هذه الجهة من الفج، حيث كان يوجد المدفع، ليست منخفضة أكثر مما هي عليه، إذ لو كان انخفاضها يقل ثلاثين سنتيمتراً لكانت الرصاصة قد أصابت رأسي، ثم أردفت قائلة: الآن فقط فهمت أن كل شيءٍ نسبي.
٭٭٭
ولد مونتيروسُو في 21 ديسمبر/كانون الأول 1921فى تيغوثيغالبا عاصمة الهندوراس من أم هندورية وأب غواتيمالي، قضى طفولته فى غواتيمالا، وفي عام 1944 وصل الى المكسيك لاجئاً سياسياً، حيث اعتنق مهنة الأدب التي ستلازمه طوالَ عمره ، الكاتب المعروف إيتالو كالفينُو الكوبي المولد، والإيطالي الأصل يقول عنه: «تُعتبر القصص التي أبدعها مُونتيروسُو بدون منازع من أجمل القصص في العالم، كان بحق ظاهرة لا تتكرر في عالم الآداب المكتوبة بلغة سيرفانتيس، كان رائداً فى آداب السُخرِية، والتهكم، من أعماله: «الشاة السوداء وحكايات أخرى».
*القدس العربي