أنور محمد: “كيف تُطعم الديكتاتور”…طبخ صدام وبقرة كاسترو وأفاعي بول بوت

0

للشاعر الأميركي من أصل صربي، تشارلز سيميك (1938 – 2023) قصيدة، يُلِّخص فيها الكثير من الدراسات والتحليلات الغذائية والنفسية بخصوص الأطعمة وتأثيراتها، والتي كانَ وما زالُ الطُغاة يتناولونها قَبْلَ وبَعْدَ تنفيذ جرائمهم في قتل مُعارضيهم، وذبحهم وسحلهم في أوطانهم، إذ يقول: “الطّغاة هم الطّباخون: الفلاسفةُ يكتبون لوائح الطعام، والقسَاوِسةُ هم النُّدلاء، والعسكرُ هم المتبجِّحون، والغِنَاء الذي تسمعه هو للشُعراء وهم يغسلون الأطباق في المطبخ”.


لعلَّ كتاب “كيف تُطعم الديكتاتور” للكاتب البولندي ويتولد زابلوفسكي(*)، الذي يقدم فيه بحثاً استقصائيا من 23 فصلاً؛ مع خمسة من طبَّاخي رؤساء وحكَّام: العراقي صدام حسين، والكوبي فيديل كاسترو، والأوغندي عيدي أمين دادا، والكمبودي بول بوت، والألباني أنور خوجة، هو ما دعانا لاستذكار رأي تشارلز سيميك. لأنَّنا لو اعتبرنا أنَّ ما كتبه زابلوفسكي تحقيقاً؛ فإنَّه يضعُ بين أيدينا خمسةَ شخصياتٍ ليست نادرة في الحياة. بل ما زالت الأرحام تفرِّخ مثيلاتها كلَّ لحظة، شخصيات استثنائية، لكنَّها من مسرحيةٍ فصولُها ومَشاهِدُها مشغولةٌ بأساليب ملحمية، إنما من دون مشاركة الجمهور، والشخصيات الغرائبية، من أشباح وسحَرة.

كتابٌ استغرق العمل فيه سنواتٍ من البحث والتقصِّي، ذلك بعدما لمعت فكرته عند زابلوفسكي، نتيجة أسئلة خطرت في باله، مثل: ماذا كان يأكل بول بوت بينما كان مليونا كمبودي يموتون جوعاً؟ هل أكل عيدي أمين حقاً لحم الإنسان؟ ولماذا كان كاسترو مهووساً بإحدى البقرات؟


(شبح صدام حسين)

تجري مَشاهد الكتابُ المسرحيةُ (كيف تُطعم الديكتاتور) في مطبخٍ فاخر في قصرٍ جمهوري، أو ما بينَ بينْ. في حوار زابلوفسكي، مع أبي علي، طبَّاخ صدام حسين، يقول: طُلِبتُ للخدمة العسكرية في كردستان شمالي البلاد، لاحتواء ثورة شعبية كردية مناهضة للسلطة، كان المللا مصطفى أحد قادتها البارزين؛ دارت المعارك في الجبال، أُرسلتُ إلى هناك مع بندقية، لم أكن سعيداً بذلك، إذ كنتُ في السادسة والعشرين من عمري، ولم أكن ضد الأكراد، بالتالي لا أريد أن أُقتلَ في معركة معهم. فأخبر أبو علي الضابط المشرف عليه بأنَّه يتقن الطبخَ، لا القتال، لذا يمكنه أن يطبخ للجنود، لا سيما أنَّهم بالآلاف ولا طبَّاخ ماهراً بينهم، وحين انتهت المعارك، أشار عليه أحد الضباط بالتوجُّه للحصول على تدريب الطبخ في “قصر السلام” التابع لوزارة السياحة، حيث يتمُّ تخريج أفواج من الطباخين نحو الفنادق التابعة للحكومة. وهناك، وبين مجموعة طباخين هم الأفضل في البلاد، عمل أبو علي سنواتٍ، وتذوَّق طعامه قادة وعسكريون ورؤساء دول وملوك.

يروي أبوعلي للمؤلِّف بأنَّه تعرَّف على صدام في وزارة السياحة، حين طَهى له قطعةَ لحم، فدعاه لينضمَّ إلى مجموعة طبَّاخيه في القصر. وبعد دخوله المطبخ الرئاسي، وصَف ذوق صدام في الطعام بأنَّه صعب، فكان ينتقد الطبَّاخ حين لا يعجبه الأكل، ويكافئه عندما يطهو ما يعجبه. ولم يكن العمل هيِّناً في البداية للطبَّاخ، إذ كان معروفاً عن صدام أنَّه يُحبُّ أكله مطبوخاً بطرقٍ معيَّنة. أما عن الأكلات التي كان يحبّها صدام، فهي في مجملها أكلات عراقية، مثل مَرَقَةِ البامية، وشوربَة العدس، وشوربَة سمك خاصة بالمنطقة التي وُلِدَ ونشأ فيها في تكريت، حيث تَوجَّب على أبي علي تَعلُّم هذه الأكلة التي لم يكن يعرف طبخها، وكان صدام يحب أكلة السمك المشوي على النار المعروفة “بالمسكوف”. غير أنَّ أبا علي درسَ فلسفةَ الطبخ على يد جون البريطاني وصلاح اللبناني، وتفوَّق على منافسيه بأن يكون الطبَّاخ الأوَّل لقصر السلام الرئاسي.

وصدام، كما يروي أبو علي، لم يكن يتذوَّق أي طعام قبل أن يقوم فريقه الأمني بأكله مُسبقاً تحسُّباً من أيِّ محاولةٍ لتسميمه. وممّن كانوا يتذوقون طعامه، كامل حنا الذي قَتَلَهُ نجل صدام “عُدَيّْ” العام 1988 بهراوة حديدية على رأسه، وذلك لاعتقاده أنَّه السبب في زواج أبيه من سميرة الشابندر. ويروي أبو علي أن عمله طباخاً للرئيس تزامن مع بداية الحرب ضد إيران. وذهب صدام في سيارة عسكرية عادية، وأقام في خيمة بالمعسكر، مثله مثل باقي الجنود، ولم يكن هناك من معالم رفاهية تحيط به. “كان يذهب لزيارة الجنود، بينما أَعُدُّ الطعامَ مثل التكَّة والكباب”. وقال أنَّ صدام كان يطبخ بنفسه للجنود، كأنْ يعدَّ الأرز، لكن بسبب انشغاله مع ضباط آخرين في دردشات جانبية أو التقاط الصور- كان يحب أخذ الصور كثيراً- يحترق الأرز، أو يضع كيلو من الملح في القِدْر، وكان الجنود يتناولون الأرز المُحترق أو المالح زيادة، من دون اعتراض، فهذا الطعام أعدَّه الرئيس.

أمَّا عن الوجبة الأخيرة، فيقول أبو علي: إنَّها كانت “البسطرما” التي حضَّرها للرئيس قبل الغزو، وهي نفسها التي شُوهدت معلَّقةً فوق الحفرة التي كان اختبأ فيها الرئيس صدام عند العثور عليه، وفق صور نشرتها القوات الأميركية.


(عيدي أمين آكل لحوم البشر)  

أما الرئيس الأوغندي، عيدي أمين دادا، كما يروي طبَّاخه أوديرا، للمؤلِّف ويتولد زابلوفسكي، فأكلَ في ليلة الانقلاب على رئيسه ميلتون أوبوتي، السمك البلطي والبيلاف بلحم الماعز، كما كان يشربُ من دماء الخصوم والأعداء المُفترضين الذين قَتَلَهم، أو يأَكل قطعة من أكبادهم، وحتى إنَّه قتلَ زوجته كيا، وقام بتقطيعها إلى أشلاء؛ وكانت من بين أكلاته النساء، كان مهووساً بالنساء، وإذا أراد إخضاع امرأة متزوِّجة، قام حُرّاسُهُ بقتل زوجها. وفي فترة حكمه لقي أكثر من نصف مليون شخص حتفهم، جراء المذابح وعمليات القتل التعسفية التي ارتكبها بحقِّهم. 

أنور خوجة
حَكَمَ أنور خوجة ألبانيا أربعين عاماً 1945 – 1985، واستمرَّ يحكمها من قبره حتى العام 1991 حيث كانت ألبانيا آخر دولة يسقط نظامها الشيوعي في أوروبا. ومَّما يرويه المؤرِّخ أروين حاجي للمؤلِّف؛ بأنَّ أنور خوجة كان يقتل كل من يقف في طريقه، فلقد قتل صهره الذي كان يحميه، وقتل الفتيات اللواتي رفضن الزواج به. يقول طبَّاخه السيِّد (ك): عشتُ في خوفٍ دائم، ففي أيِّ لحظة قد يأمر بقتلنا، لقد سبق وانتحر أوَّل طباخ للرئيس، ولاحقاً اختفى أحد الطباخين. وكانت أخته “سانو” عارفة أسرار معدته، إذ كان يحب طعام- طبخات أمه، وأخته كانت تقوم بتحضير هذه الأطعمة لتضمن بقاءها على قيد الحياة، تقول سانو: إذا أصبحتُ بديلاً عن أمِّه فلن يستطيع قتلي. كانت هي الأخرى مرَّشحة للقتل إذا لم يعجبه الطعام.

كاسترو
أما فيديل كاسترو، فله مزاجٌ ثوري في الطعام، حسب رأي طبَّاخَيْه إيراسمو وفلوريس. فهو لم يشغله الطعام بسبب هذا المزاج، فكانت والدته طبَّاخة ممتازة، وكذلك زوجته الثانية، سوى أنَّه كان يفضِّل الجبن واللبن، كونه منشغلًا بالثورة، رغم أن طبَّاخَيْه؛ كانوا يجتهدون في إعداد وجبات الطعام الرئاسية له، غير أنَّه ولشدَّة ثوريته قام بتربية بقرة صيَّرها أعظم بقرة في درِّ الحليب- لديها ضرع كبير يَدِرُّ أكثر من 100 مئة لتر في اليوم، وقد خصَّص لها سرية عسكرية لحراستها، وسرية مطبخية تقوم بتغذيتها بالأعشاب والفواكه والخضر التي يتمُّ اختبارها من قبل حيوانات خشية أن تكون مسمومة، ولمَّا انخفض دَرُّها، أصدر كاسترو العام 1985 قراراً رئاسياً بقتلها، ولكن من دون استعمال السكاكين- فهذه السكاكين فقط لذبح معارضيه؛ فماتت بما يُسمَّى بالموت الرحيم!


(بول بوت وسياسة التجويع)

كان بول بوت يفضِّل تناول حساء الكوبرا، ولحم الغزال، والخنازير والثعابين، والفاكهة الطازجة، ومشروب البراندي، والنبيذ الصيني، بينما يسمح للفلاحين بتناول حساء الأرز فقط. وتروي الطباخة مونغ يون بأّنَّ الشعب الكمبودي كان يأكل الجراد والصراصير والديدان والنمل الأحمر والعناكب المائية، والضفادعَ ملفوفةً بأوراق الموز، كما أكلوا الفيَلَة والسلاحف وثعابين الماء، وصنعوا الحساء من بيض النمل الأبيض، وأكلوا الخفافيش المسلوقة والمخبوزة، وشربوا دماءها. وفوق كل هذا “الترف” الذي نعم به الشعب الكمبودي خلال فترة حكم بول بوت، قام الأخير بإعدام ما يقرب من مليونين ونصف المليون ممن عارضوا سياساته… مطبخٌ فاخر!

رؤساءُ لم يَكُنْ أيُّ منهم مثل “هاملت” شكسبير، صاحبُ أسئلةٍ مصيرية بعدما عَلِمَ بمقتل والده على يد عمِّه الذي يتزوَّج أمَّه. فهؤلاء قتلوا شعوبهم ليتزوَّجوا السلطة، ولم يفارقوها إلاَّ بالموت. فيمثلون أدوارهم- وليس شخصيات المسرحية، من دون الحاجة للوهم المسرحي للتفريق بين الشخصية والممثِّل الذي يؤدِّي دورها. نحن هنا في هذا الكتاب “كيف تُطعم الديكتاتور” لويتولد زابلوفسكي، مع فرجة واقعية للميول والأهواء الدموية للطاغية في المطبخ- لكن من دون النُخَب التي عدَّها تشارلز سيميك؛ نحن مع الموت الحقيقي وليس مع تمثيل الموت؛ نحنُ مع أنْ نكون أَوْ لا نكون.

(*) ترجمة عمار كاظم محمد؛ دار سطور- بغداد 2023.

*المدن