يأخذنا الكاتب نبيل الملحم في الفصل الأول من روايته “خمارة جبرا” للتعرف على شخصية “جاد الحق جاد الله” الذي ولد في قرية “دير الغزال” عام 1940، كما ثُبّتَ على لوحة سريره في مشفى المجتهد بدمشق، مع إضافة اسم الأب مصطفى، الأم فاطمة، وقد أضاف الراوي، أن هذه الأم التي لم تكمل بعد عامها الخامس عشر، قد حملت به سفاحا من علاقة غير شرعية مع رجل دين تدعوه مولانا الكهل أبو عمار وسيط الله في “دير الغزال”، وتوفيت أثناء ولادته في لحظة اكتمال القمر بدرا في كبد السماء.
لنلاحظ انتقال الكاتب من مفردات تنتمي إلى الواقع بعناصره التوثيقية بدءاً من مشفى المجتهد كمكان واستمرارا بالبطاقة التعريفية للمريض، ليأخذنا بعيدا في عوالم الواقعية السحرية التي تعجن لغتها وشخوصها وأحداثها من صلصال الخيال والفانتازيا، في لحظة ولادة هذا الطفل، ولعنة والدته فاطمة التي اجتاحت نساء ورجال القرية، ويقينهم أنها خطفت روح زوجها مصطفى، على تعدد الروايات الشيطانية لموته بعدما تمرغ باكيا على قبرها، حيث دفن لاحقا بجانبها في منطقة وعرة ومنسية، لم يعد أحدٌ من سكان البلدة يتذكرها، فيما كانت زمردة منشغلة بعذابات مصطفى وميتته المشبوهة، إضافة لاحتضانها الطفل الوليد كأم بديلة، حيث أرضعته وهي ثيب لم تتزوج ولم تنجب بعد.
دون أن ينسى الكاتب استعادتنا كقراء إلى الواقع عبر تطريز لغته بحرفية مصور فوتوغرافي، وهو يسحبنا بسلاسة ويسر مع زمردة حين هاجرت بهذا الطفل إلى إحدى عشوائيات مدينة دمشق، هربا من مجاعة اجتاحت “دير الغزال”، حيث استقرت في “حي الصبارة” الذي استعار كل المواد الأولية لبناء هيكليته المتنافرة من مخلفات المدينة أولاً، دون أن تعيق إمكانية التواصل البصري بين ما هو داخل في بيوت الصفيح والستائر الرثة، وبين ما هو خارج بالمعنى النسبي لأزقة وحارات، تشكل معالم أو تضاريس هذا الحي، الذي لا يتميز عن أي عشوائية أخرى إلا بوجود خمارة جبرا فيه، والتي تنصهر في داخلها بنية ديمغرافية مختلطة ككل العشوائيات، بنية تنفتح في الرواية على الخارج بكل تلاوين الأشخاص والأخبار والأحداث ضمن مساحة تُدعى سوريا.
تبدأ شخصية جاد الحق جاد الله سرد حكايتها من لحظة النهاية الفيزيولوجية لهذا الرجل، وهو يجلس على كرسيه المدولب بعد أن تمّ تجبير عظامه المهشمة، وبجانبه تقف زوجته ياسمينة في المدخل الخلفي لمشفى المجتهد بدمشق، وكلاهما يجتر ذكرياته في مونولوجات متقطعة بانتظار سيارة تقلهما إلى المنزل دون جدوى، حتى يبدو هذا الانتظار بلا نهاية، أو أنها النهاية الحقيقية لسلالة تنقرض، وفق تعبير جاد الله نفسه.
في لحظة الانتظار المستحيلة تلك، أحسّ جاد الحق جاد الله بنهايته، حيث توقف الزمن الحقيقي المديد الذي عاشه، ليبدأ زمن القص أو السرد، فهو: “لم يكن يخال أنه سيعود إلى جلباب صمته الذي تدثّر به طيلة حياته الماضية، وما عليه فعله اللحظة، هو ان يجهّز نفسه لموت آخر، بعد أن بات فاقد الحيلة على تجهيز نفسه لحياة أخرى، وفي موته الجديد، كان جاد الحق جاد الله عازماً أن يحكي ويحكي، دون أن يصمت، ولو للحظة واحدة، كما كان عازماً أن لا يكون ميتا بحدبة، كما حاله حيّاً بحدبة”.
وفي قرار جاد الحق جاد الله أن يحكي ويحكي، يكون قد حدد شكل الرواية عبر أسلوب السرد المرسل بتدفق يماهي مابين الكاتب وبين تلك الشخصية التي تقمصت دور الراوي أو الشاهد، لتقص علينا ما يشبه سيرة ذاتية، خاصة وأن الكاتب حاول تفسير ذلك الالتباس بين الكاتب والراوي وجاد الله في عبارة صغيرة وضعها على صفحة مستقلة في بداية الرواية كمقدمة، يقول فيها “إن ما ستقرؤه تسجيل غير أمين، لحياة رجل، يبدو أنه ما يزال حيّاً”، وهي عبارة تنتمي إلى عتبات النص، كي تساعد في القراءة وفهم شخصية الراوي واشكالية الذاكرة العشوائية لسرد متقطع ومتداخل، كما تساعدنا في فهم الالتباس الحاصل بين لغة الشخصيات الهامشية جدا ولغة الراوي الذي يتماهى في إهاب الكاتب وأفكاره.
فعندما يبدأ الراوي أو الكاتب قص حكايته، نكتشف أن كل ما يجري عبر 319 صفحة من القطع المتوسط للرواية، لا يعدو كونه استعادة هذه الشخصية والشخصيات التي كانت في محيطه لذكريات تنهمر بكثافة كخيوط المطر حين تتلاعب بها عاصفة هوجاء لتتداخل ببعضها دون اتساق، فتتشظّى الشخصيات والأحداث والزمن أو التاريخ، لا شيء يسير بخط مستقيم، وعلى القارئ أن يعيد تفكيك وتركيب مجازات السرد ودلالاته التي تحيلنا إلى سياقات واقع أكثر هشاشةً وتفككاً من ذاكرة الراوي.
المفارقة أن الحدث الوحيد الذي كسر بنية تلك الشخصية ودفعها للخروج من سلبيتها المزمنة، جاء من رؤية جاد الحق جاد الله للمتظاهرين عبر شاشة التلفزيون وقد خرجوا يهتفون بإسقاط النظام، هو الذي كتب افتتاحيات نعيم الواوي رئيس التحرير في صحيفة “الحرس القومي”، كما كتب الخطب العصماء لرئيس اتحاد العمال عز الدين الحكيم، وصنع أسوأ شعارات المرحلة من “إلى الأبد” وحتى “الزعيم الخالد”، والتي باتت يافطات تنتشر في طول البلاد وعرضها، وحتى في بيوت المسؤولين وبيوت من يخافون المسؤولين، أو في “غرف نومهم” على حد تعبير الكاتب، هذا الشخص الذي عاش طيلة حياته داخل حدبتهِ التي نمت كقوقعة تحميه أو هو يختبئ بداخلها، دون أن يتخذ قرارا واحدا متصلا بحياته، قرر فجأة أن يغادر صمته وقوقعته وعجزه المزمن، وربما بدون إرادته أو بدون أن يقرر، وقف هاتفا مع الجماهير أمام شاشة التلفاز “الشعب يريد إسقاط النظام”، لكنه في هذه اللحظة المفصلية في سياق حياته وسياق الحدث، لم تسعفه عظامه الهشة على الوقوف، فسقط أرضا وأصيب بكسر متصالب، لا أمل بترميمه كما يقول أحد الأطباء، مما دفعه لاكتشاف أو طلب النهاية، قائلاً “عندما تكون الذاكرة هي العدو، سيكون على جاد الحق جاد الله أن يحث عظامه على التفتت”.
لكنه الآن وقد غدا أسير هذه الذاكرة، اكتشف حاجته إليها: “هي الذاكرة، إذن؟ منطاد كبير يرفعك بهدوء وبطء، لتتجول مطلا ً على ساحات عمرك”، وفي هذه الساحات تتقمص الذاكرة شخصية الراوي أو الكاتب الذي يسعى للملمة خيوط الحياة لتلك الشخصية المعطوبة بالحمى وشيء من الهوس الموشى باليأس، والتي يفترض أنها مُنحتْ دور البطولة في هذه الرواية التي تتقاطع عندها الأحداث ومجموعة الشخصيات، مع أنها شخصية ولدت وعاشت حيواتها في الظل، رجل عاش مونولوجاته الداخلية دون أن يتقن الحوار أو الديالوغ، وها هي زوجته ياسمينة تقول له “احكي، احكي يا رجل، قل شيئا”، لدرجة انها أعطت قطعة مصاغ ثمينة للممرضة كي تترجم لها عبارة نطقها بالإنكليزية وهو مستلق على سرير المشفى، وحين ألحت عليه: ما الذي حدا بك لتفعل ذلك؟ أجابها بحنق: “من حقي أن أكسّر عظامي كما أشاء، لقد نبتت بإرادته، وسأكسرها بإرادتي”.
فيما كان هو يذهب بعيدا في صمته وذاكرته عبر صور وذكريات وإشارات متقطعة تنقلنا بين الراهن والماضي، وبين ما يعيشه وما يهجس به الآن، وهو يتلفت إلى “الساحة الممتلئة بالمصابين والمواطنين المنتظرين سحب موتاهم من علب المشفى”، يهجس بمحطات تتداعى عبر مسيرة حياته دون أن يتقيد بمنحى الزمن الصاعد أو الكرونولوجي، فالزمن ليس أكثر من مجموعة محطات، يمكن للمرء أن يمر بها بشكل عشوائي، وفق منحى متكسر ومتقطع ومتداخل في كثير من الأحيان، وفق منحى تصنعه الصدفة أو الذاكرة لا فرق، سرد متقطع يهشّم وحدات الزمن وسياق السرد وموضوعاته، ضمن تتالي مجموعة مصادفات، تأخذنا في كثير من التفاصيل والحكايات لمجموعة كبيرة من الشخصيات المتباينة جدا.
مجرد صدفة ما، تلك التي وضعت زمردة وجاد الحق جاد الله في مخزن عزرا يوسف تاجر المخطوطات والكتب المستعملة بحي الأمين، حين خاطبته زمردة: معلم عزرا، كل ما أريده أن أرعى هذا الطفل اليتيم.
صدفة كان لها أن تعيد تشكيل كل شخصية الطفل جاد الحق جاد الله، وتصنع بالمقابل تيمة فرعية في نص الرواية، تيمة تطورت باتجاهين، الأول منهما يتعلق بآنا ابنة عزرا التي حاولت أن تعلمه القراءة ولفظ الأعداد والأحرف، لكنها أخذته أيضا لاكتشاف الحواس ومشاعر القبلة الأولى، لتبقى حتى بعد هجرتها مع والدها إلى أرض الميعاد في فلسطين، هي الحب الوحيد في وجدان هذا الطفل الذي تزوج وعاشر وكان آلة شبق، لكنها الحب أو الذكرى الوحيدة التي تحضر في لاوعيه المتنامي على حساب حاضر يتلاشى باستمرار، حب مغلف بالكثير من النوستالجيا التي تكمن خلف زياراته المتكررة إلى حي الأمين والنظر إلى نافذتها المغلقة، وهو الدافع ذاته لاستعادتها كذاكرة الآن وهو في الساحة الخلفية لمشفى المجتهد، يجلس على كرسيّه المدولب عاجزاً عن الحركة، وعاجزً عن تأمين سيارة تعيده إلى البيت.
فيما الشق الثاني لهذه التيمة الفرعية تمثلت باستعادة الشخصية اليهودية المغيّبة في مجتمعنا السوري لعقود من الزمن، دون أن يسعى الراوي لاستعادتها في إطار سياسي، أو لاستثمارها أيديولوجيا، إنما استعادها من خلال ذلك البعد الإنساني في علاقة جاد الله مع آنا، وفي علاقته مع عزرا أيضاً، والذي جاءت شخصيته منافية للصورة النمطية عن “شايلوك” شكسبير، التاجر اليهودي البخيل وكاره الآخرين، حيث منح عزرا، ودون أي قصدية خارج مشاعرة الإنسانية، نقودا لزمردة طالبا منها أن تشتري حذاءً لهذا الطفل الحافي، واشتري له “بنطالاً بدل هذه الدشداشة الفضفاضة التي يرتديها”.
فالراوي المتماهي بشخصية جاد الله الذي أصبح جزءا من مخزن عزرا يوسف “المليء بالكتب والمخطوطات التي تفوح منها نكهة الرصاص المحملة في حبر المطابع”، كان وفيا لنبل هذه الشخصية التي لقنته المعرفة الأولى ونبضات الروح الإنسانية في أدب تولستوي، والحكمة في مزامير العهد القديم، لذلك يؤكد الراوي ان عزرا لم يهاجر إلى إسرائيل طمعا بأرض الميعاد، التي يشكك بكل روايتها الأسطورية، فالوطن الجديد “لا يتعدى كونه وطنا مبنيا بقوة الهاجاناه والسلاح”، لكنه يرجح “ان هجرته كانت بدافع الاطمئنان على ابنته آنا، وتزويجها من شاب يهودي”، بعد أن هاجر أغلب يهود سوريا والعراق.
أيضا هي الصدفة التي وضعت جاد الحق جاد الله في بوفيه صحيفة “الحرس القومي”، ليصنع ويقدم الشاي والقهوة لرئيس التحرير وضيوفه، وهي الصدفة التي قادت رئيس التحرير نعيم الواوي لاكتشاف مواهب هذا الغلام وقدرته على الحفظ واستعادة نص كامل، ليمضي فيما بعد أربعون عاما من عمره يكتب له الافتتاحيات الثورية، كما يكتب الخطب العصماء لرئيس اتحاد العمال في المناسبات الوطنية، دون أن يؤمن يشئ مما يكتبه، كذلك كتب قصائد غزل باسم الشاعرة الارستقراطية جورجيت، والتي تورط لاحقا بقتلها وقطع إبهامها بشكل سادي، ليتمكن رئيس المنظمة العمالية عز الدين الحكيم من الاستيلاء على عقارات مهمة آلت إليها بالوراثة.
لم يتوقف فساد رئيس اتحاد العمال بسرقة جهد جاد الله في الكتابة، ولا بقتل جورجيت وتزوير وثائق للاستيلاء على عقاراتها، بل كان جسرا لفساد وجريمة أكبر عندما نقل له جاد الله في لحظة ضعف، كنز المخطوطات القديمة التي أودعها عزار يوسف لديه قبل رحيله إلى إسرائيل، لتصل هذه المخطوطات في النهاية ليدي شقيق الرئيس، “ولم يكن على العقيد، الشخص الثاني في إدارة البلاد، بعد أخيه الرئيس، سوى الحفر في جدران سوريا، ومغاورها، ومدافنها، ومع كلّ حفرة كانت معاول مُنقبّي الآثار، تُفتت رؤوس سادة حكموا روما، وبيزنطا، ووصلوا إلى سوريا ليحطوا فيها ذواكرهم في جماجم بمحاذاة جرار الذهب”، وهي سرديات معروفة لدى أغلب السوريين عن دور رفعت الأسد في تهريب الآثار.
كان يعرف جاد الحق جاد الله “أن البشر فاسدون” بطبيعتهم، حتى أنه كراوي بسط أمامنا كل ملفات الفساد والجرائم التي عرفها أو حتى شارك بها شخصيا، لينفي البراءة عن ذاته أولاً، مع أن الرواية حافظت على حياد نسبي للقارئ تجاه هذه الشخصية، إذ لم تتقصد أن تضعه في بؤرة الإدانة، أو تصنع منه قطب الشر والفساد، وهو حقا لم يكن كذلك، ففي داخل كل منا توجد ظلال لهذه الشخصية بجبروتها وانسحاقها، بقدراتها الخارقة ووضاعتها، غير أننا جميعاً “نحن وهو” لم نكن إلا أدوات صغيرة في آلة وبنية الدولة التي كانت تنتج الفساد وترعاه وتحميه خلال عقود من الزمن، حتى أصبح جاد الحق جاد الله يظهر في مرآة كل مواطن سوري يسعى للعيش في هذا المجتمع، ومن يرفض أو يقاوم التورط في هذا الفساد سيكون مصيره كالشابين فاتح وشهاب اليساريين الذين حضرا عرضا في سياق النص، لنكتشف لاحقا أنهما أمضيا أجمل سنوات عمرهما في السجن.
ورغم أن الرواية تقوم على سرد أقرب للسيرة الذاتية لشخصية جاد الحق جاد الله، إلا ان هذه الشخصية لم يكن بمقدورها قول نصها بدون الشخصيات الأخرى، لذلك نجد هذه السيرة الذاتية تنفتح على الكثير من سير الشخصيات التي عبر بها أو هي عبرت به، حتى أن القارئ سيفاجئ بكثافة وعدد الشخصيات في هذا النص، وتنوعها أيضا، من تنوع اثني مقصود بين مكونات سوريا العرب والكرد والأرمن والشركس، إلى تنوع ديني أو طوائفي أيضا مقصود، إضافة لتنوع اجتماعي من قادة ومسؤولين في الحزب والدولة إلى مثقفين ويساريين ومعارضة من خريجي السجون والمعتقلات، ومن برجوازية تافهة ومتسلقين إلى لصوص وقوادين ومومسات، بعضها يمرّ عرضا وبعضها يستعيده الكاتب ثانية كاليساري فاتح، بعد خروجه من السجن ليتابع مع جبرا وزمردة علاقتهما، بشكل منفصل حتى عن ذاكرة جاد الحق جاد الله، وهذا يؤكد التباس العلاقة الذي أشرنا إليه سابقا بين جاد الله والراوي والكاتب، حيث يستطيع هذا الأخير أن يخبرنا كيف كانت آنا تعيش مع والدها في احدى المستوطنات الاسرائيلية، وأنها رفضت الزواج وباتت وحيدة الآن بعد موت والدها، بعدما أخبرنا بدايةً كيف تساءل جاد الحق جاد الله في لحظة ولادته كجميع الحمقى: لماذا لا تسقط النجوم من السماء؟
تتوزع أغلب شخصيات الرواية بين عالم السلطة والفئات المتحكمة وبين عالم الهامش أو قاع المدينة إن صح التعبير، عالمين بدا أنهما مسكونين بالعهر، عهر السلطة وفسادها السياسي والاجتماعي الذي دمر البلد، وعهر الهامش الذي يبحث عن فرص للعيش والحياة، لا يهم إن احترف العهر الجسدي في كرخانات دمشق، أو عبر توظيف بعضهم كأدوات للسلطة الفاسدة، وعلينا الاعتراف أن شخصيات الهامش كانت أغنى وأصدق حتى في عهرها.
فشخصية هامشية كجبرا صاحب الخمارة، مرّتْ به أغلب نساء حي الصبارة، لكنه أحب زمردة بحق ولم يستطع الحصول عليها، حيث أخذتها فرنسا إلى كرخانة الروبير، لكنها فرت مع أول زبون دخل عليها “قتيبة الشهاب”، سليل برجوازية فقدت مستقبلها، لكنه مازال يمتلك عقارات وأموال تمكنه من العيش بترف، ويستطيع السياحة برفقة زمردة في كل العالم، بعدما اكتشف عذريتها واكتشفت عجزه، وارتضيا هذه الشراكة.
لكنها مجرد صدفة أيضاً، تقود جبرا بعد أن أزالت الجرافات “حي الصبارة” وخمارته أيضا، ليسمع اسمها ثانية في مطعم “الريس”، من خلال ثرثرة مثقفين عن خلاف بعد وفاة قتيبة بين عائلة الأولى وأرملته الراهنة زمردة على الإرث، ليستحصل عنوانها على بعد 800 متر من المطعم، حيث سارع بالذهاب إليها ليبدأ خط درامي جديد، يقودنا إلى محطات جديدة في تاريخ سوريا.
بينما جاد الحق جاد الله حين وصل إلى خمارة جبرا الجديدة في أحد تفرعات باب توما، بعدما أزيل “حي الصبارة” بالجرافات، كان عاجزا عن الوصول إلى جبرا الذي يبحث عنه، كما هو عاجز عن التعرف على صورة زمردة التي تقف خلف قتيبة الشهاب، وتسند يدها إلى كتفه، ضمن إطار لوحة توحي بالترف في هذه الخمارة الجديدة.
وقد نجح الكاتب في توظيف أغلب الشخصيات التي عَبَرَت في روايته، بل منحها رغم هامشيتها دورا فيه من البطولة أو القدرة على صنع مصائرها أكثر من شخصية جاد الحق جاد الله، كما رأينا في المقارنة السابقة مع شخصية جبرا مثلاً، أو كشخص آخر بدا مُغرقا في التفاهة والهامشية، حتى أن لقبه “وارث أسنان أمه” هو المستخدم في النص دون أي اسم آخر، هذا الشخص الذي كان يبيع أوراق اليانصيب المنتهية الصلاحية، عَبَرَ تطورات كثيرة ما بين سبعينيات القرن الماضي ونهايات العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، ليصبح مالك مزارع أبقار ولاحقا مالك فندق، لكنه عمله الرئيسي الذي غير من حياته ووضعه المعيشي، جاء من خلال تقديم وإدارة خدمات الدعارة والجنس لأهم فنادق العاصمة وكبار المسؤولين في البلد.
إلا أن نساء نبيل الملحم تميزن في هذه الرواية بكثافة الحضور وحتى الفاعلية، وبغض النظر عن “آنا” التي مررنا بها بداية، تميزت “زمردة” التي خرجت مع طفل بالتبني مهاجرة من دير الغزال باتجاه العاصمة، ورغم دخولها كرخانة الروبير إلا أنها قررت مغادرتها للزواج من قتيبة، ولاحقا بعد وفاته خرجت من كل إرث قتيبة الذي طالبت به عائلته الأولى، لتعيد بناء حياتها الجديدة مع جبرا دون أن تتخلى عن وفائها لذكرى قتيبة الذي انتشلها من حضيض الروبير، كذلك “ياسمينة” فرغم أن زوجها جاد الله يشك بنسب ولديه، ومع أنها عاشت حياتها كظل لزوجها، الذي “اختبرت عواطفه منذ كانت في الثالثة عشر من عمرها”، إلا أنها كرهت صمته الأبدي حتى وهما بالانتظار المستحيل لسيارة أجرة قائلة: أسوأ ما في عمري أنني كنت زوجتك.
حتى الشاعرة الارستقراطية جورجيت التي فتنت الوسط الثقافي الدمشقي بلكنتها الفرنسية، وأناقتها الباريسية وجموح شهواتها الجنسية، ورغم مقتلها بطريقة وحشية وسادية، إلا أنها حظيت بتأبين ونعوه تليق بالعظماء.
لكن الأمّيز بين هذه الشخصيات عموما كن ّ العاهرات، واللواتي قلما توفرت عليهنّ رواية عربية إلى هذا الحد، مع أن كثيرا من الروائيين العرب حاولوا الاشتغال على ما أسماه الروائي والناقد الراحل غالب هلسا في كتابة المهم “المومس الفاضلة ومشكلة حرية المرأة” الصادر عام 1980، حيث درس هذا المفهوم في أعمال يوسف الصايغ، يوسف إدريس، جبرا إبراهيم جبرا، حنا مينة، غير أن نبيل الملحم في خمارة جبرا ذهب بنا أبعد من تلك الشخصية النسائية التي تضطرها ظروف الحياة لامتهان الدعارة، حيث دخل بنا إلى حيواتهم الداخلية في بيئة عملهنّ، منتقلا بنا من كرخانة باب الجابية الى النسخة الأحدث منها زمن الوحدة المصرية السورية، في كرخانة الروبير، تنوع هذه الشريحة الاجتماعية واختلاف مساراتها بل وتناقضاتها أيضا، منحت الرواية غنى وشمولا لم تعهده الرواية العربية من قبل.
فشخصية “فرنسا” التي شهدت ذروتها في كرخانة باب الجابية، كانت خياراتها واضحة في الحياة وفي رؤيتها لذاتها ولممارسة البغاء، وإن جاء اسمها الشائع “فرنسا” الذي تعتز به من خلال علاقتها بأحد زبائنها في الكرخانة، وهو من الجيش الفرنسي ما جعلها تتوق باستمرار لعودة الاحتلال الفرنسي إلى سوريا، مقابل زوجها الذي يردد نشيد “حماة الديار”، لكن الأهم في شخصيتها أنها لم تنظر قط بدونية إلى نفسها أو إلى عملها، حتى أنها لم تتردد عن معاقبة الضابط البعثي السابق ورئيس تحرير صحيفة الحرس القومي نعيم الواوي حين القت ثيابه من نافذة غرفتها في كرخانة باب الجابية، وهي تسأله: هل تبيع الوطن بكلسون ياسيادة العقيد؟
لتجعله يرتدي ثياب امرأة وغطاء رأس حتى يعود إلى بيته ذليلا متصاغرا، حين يكذب على زوجته بان المهمة الأمنية كانت تتطلب منه ذلك!
هذا الشخص الصغير وفق تعبير “ولهلم رايش” عندما علم بالمصادفة من جاد الله أن تلك الكرخانة في باب الجابية أُغلقت، والكرخانة الجديدة أصبحت في الروبير، قرر الانتقام من فرنسا بشن حملة لإغلاق أماكن الدعارة، ونجح في ذلك، لكن فرنسا كانت قد انتحرت بشجاعة لا يمتلكها الواوي وأمثاله، حتى أنها بعد موتها مُنحتْ بعضاً من ظلال خيالية ومبالغة، تلك التي كانت تعتبر نفسها أشرف وأصدق من رجال الدين أو السياسة الذين يقصدونها إلى الكرخانة ليبيعوا شرفهم.
بعيدا عن ذلك، يمكننا أن نلاحظ في هذه الرواية احتفاء نبيل الملحم بالمكان، وتحديدا مع هجرة الطفل جاد الحق جاد الله وأمه بالتبني زمردة إلى حي الصبارة في أطراف العاصمة دمشق، حيث اكتشفنا معه بنية هذا الحي العشوائي، بارتباطه مع البنية الديموغرافية لبشر أصبحوا أبطال الرواية رغم هامشيتهم، قبل أن ننتقل معهم من خلال انفتاح تلك البنية على جغرافية وخصوصية مدينة دمشق، بدءا من حي الأمين الذي يتمتع بخصوصية معمارية وديمغرافية خاصة، إلى الخمارات والكرخانات التي كانت من معالم تلك المرحلة، ومن مشفى المجتهد حيث يرقد جاد الحق جاد الله بعد أن أصيب بكسر في عظامه، إلى مقبرة شرق باب توما حيث يبغي الوصول، ومن مطعم الريس القريب من بوابة الصالحية إلى مشفى الطلياني، ومن منطقة كفر سوسة حيث نسمع أزيز الرصاص، إلى أحياء دمشق الراقية حيث تسكن جورجيت أو منزل قتيبة، غير أن الكاتب وهو يستعيد تلك الأماكن والحارات بكل تفاصيلها، لم يكن معنيا بها كمجرد إطار مجازي للحكاية، أو مستوعب نظري تجري فيه الأحداث، بقدر ما كان يبني معمار المكان ويوزع السينوغرافيا في أرجائه كمسرح لظهور الشخصيات وتطورها بدءا من لحظة ولوج الراوي “حي الصبارة” وحتى لحظة نهايته في المخرج الخلفي لمشفى المجتهد، وما بينهما من فضاءات جاءت بوصفها مكان مُؤثر في صنع التجربة وفي تطور الشخصيات ومسارات الحدث بشكل عام، وأنتجت علاقة تفاعلية شكلت حاملاً لمعاناة الشخصيات وأفكارها، وعنصر إثارة لخيال القارئ في استحضار تلك الأمكنة في سياق القراءة، كما عبّرَ غاستون باشلار في كتابه الشيق “شعرية المكان”، والذي ترجمه إلى العربية الراحل غالب هلسا تحت عنوان “جماليات المكان”.
كما يمتلك المكان في هذا النص أهمية في علاقته بزمن القص إن صح التعبير، وهو زمن الحرب التي بدأت تدمّر هذا المكان، فالحرب دمّرت كل شيء جميل في حياتنا وفي ذاكرتنا عن وطن وبلد عشنا به وكبرنا في فضاءاته، لنشهد مؤخرا دماره بالمعنى العمراني وبالمعنى الاجتماعي، حيث أخذنا النظام إلى حالة أصبحت معاقة وغير قابلة للتطور، فلا شيء يمكن أن يتقدم، حين يتوقف الزمن، لذلك لا يمكن لعظام جاد الحق جاد الله أن تُجبرْ، ولا يمكن له أن يجد سيارة أجرة تُعيده وزوجته إلى المنزل، فالحياة أصبحت مستحيلة في بلد يحكمه العسكر والقوادون، مع أن النص الروائي يشي بالكثير من ذلك دون أن يقوله.
إذ ليس من مهمة الروائي أن يكتب التاريخ، أو أن يقدم تحليلا سياسيا، لكنه لن يستطيع أن يكتب في فراغ، خاصة وأن الرواية اعتمدت أسلوب أقرب للسيرة الذاتية، لشخصية أو شخصيات عاشت في واقع معين وفي زمن محدد، فكانت فاعلة في واقعها أو جاءت محصلة لهذا الواقع وتطوراته، منذ استقلال سوريا إلى لحظة الثورة أو الانتفاضة ضد النظام، مهما اختلفت المسميات، ومهما اختلفت النتائج أيضا، وهي اللحظة التي خرج فيها السوريون من قوقعتهم وقالوا “لا” في وجه أعتى نظام استبدادي عرفته سوريا، نظام ظلّ لخمسة عقود يمتص دم السوريين وخيرات سوريا كالطفيليات، وهو ما علق به جبرا على وصول البعثيين إلى السلطة بأن “هؤلاء القادمون إلى حكم البلاد سيحيلونها إلى مقبرة”، وبالتالي مهما كانت نتائج ثورة قاطني هذه المقبرة راهنا، إلا أن التاريخ لن يعود إلى الوراء، وسوريا لن تكون مزرعة لآل الأسد ثانية، وفي ذلك انتصار الهامش على المركز أو السلطة.
في سيرة جاد الحق جاد الله قرأنا تاريخ سوريا وتاريخ ديكتاتورية وفساد السلطة، من منظور الهامش الذي أزعن لقيادها طويلا، لكنه لم يتمكن إلا أن يهتف مع المتظاهرين “الشعب يريد اسقاط النظام”، حتى لو أدى ذلك لسقوطه وتفتت عظامه الهشة، فهو لم يكن بطلاً في يوم ما، إذ لم تقدم هذه الرواية أية أبطال، بل اكتفت برفع مرآة أمام أعيننا، مرآة لرؤية ما جرى ويجري في الواقع، ورؤية أنفسنا في كل ذلك.
- نبيل الملحم:
نبيل الملحم كاتب وإعلامي سوري من مواليد 1953، كتب في العديد من الصحف والمجلات العربية، كما أعد وقدّم بعض البرامج التلفزيونية منها: “ظلال شخصية” عام 1996، “الملف” عام 1999-2000.
له مجموعة من الكتب المطبوعة منها: “بوليساريو – الطريق إلى المغرب العربي، كتاب سبعة أيام مع آبو”، إضافة لمسلسلين تلفزيونيين “ليل السرار” عام 2003، “أرواح منسية” عام 2012″، كما نشر مسرحية “أنا وهو والكلب”.
نشر الملحم أولى رواياته عام 2011، وطبع له حتى الآن سبع روايات هي على التتالي: آخر أيام الرقص، سرير بقلاوة، بانسيون مريم، حانوت قمر، موت رحيم، خمّارة جبرا، انجيل زهرة.
بالطبع، لم يُتَحْ لي ولكثيرين غيري في واقع التغريبة السورية التي نعيشها، أن أطلع عليها أو أقرأها كلها، لكن ما قرأته حتى الآن كافٍ باعتقادي ليضع هذه التجربة في طليعة التجارب الروائية المعاصرة سوريا وعربيا، بعيدا عن همروجة الجوائز التي تنثر هنا أو هناك.
ملاحظة: كتبت هذه المادة خصيصا لموقع رابطة الكتاب السوريين.