ليس سرًّا أن اليسار السوري في أزمة، لكنها بالتأكيد ليست نتيجة عقد الانتفاضة أو ثورات الربيع العربي، بقدر ما هي جزء من إشكالية اليسار العالمي الذي دخل في نفق لم يُعرف له نهاية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وكل المنظومة السياسية والعسكرية/الأمنية التي كانت تدور في فلكه، إذ تلاشى التوازن العالمي ثنائي القطب، وانتهت معه حقبة الحرب الباردة، وبدأت الأحزاب الشيوعية المهيمنة سابقًا، ومعها كل القوى والأنظمة الملحقة بالقطب السوفياتي تحت مسمى الأنظمة التقدمية أو حركات التحرر العالمي، والمجموعات اليسارية في العالم تتداعى وبعضها ينهار تباعًا وكأنها أحجار في لعبة “دومينو”.
بالطبع لن يعني ذلك بأي حال من الأحوال “نهاية التاريخ” كما نظّر فوكوياما للأمر بشيء من العنجهية والتسرّع، إذ لا توجد في المجتمع أو العلوم الإنسانية، وحتى في الفيزياء، نهايات كاملة أو صفرية، لذلك ما زلنا نرى أنظمة يسارية تتبنى السردية الشيوعية مع بعض البهارات المحلية لكل منها، كالصين وكوريا الشمالية وكوبا وفنزويلا، إضافة لبقايا أحزاب شيوعية في مختلف بقاع العالم ومنها أوروبا الرأسمالية، أو بقايا يسار يتكنّى بمسميات شتى وطنية وقومية واجتماعية وثقافية، والمفارقة أن بعض هذه القوى والأحزاب ما زالت ترى في شخصية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي تولّى عمليًّا دفن بقايا النظام الشيوعي السوفياتي السابق، وريثًا شرعيًّا لإرث الشيوعية العالمية وخليفة لينين في قيادة العداء للإمبريالية الأميركية.
كل هؤلاء الناجين، دولًا وأحزابًا ومجموعات ومثقفين، لم يعرفوا إلى الفطام عن ثدي ماضيهم سبيلًاً، ولم يستطيعوا الاعتراف أو تقبل فكرة النهاية ذاتها، فظلّوا عالقين بشبكة نوستالجيا تربطهم إلى صور وذكريات وشعارات ألفوها سابقًا، على طريقة “الشيوعي الأخير” كما أحب الشاعر العراقي سعدي يوسف أن يُلقّب حتى وفاته!
بالتأكيد عَززت هذه المؤشرات الموضوعية أو العامة من أزمة اليسار السوري قبل الربيع العربي ومعه، دون أن تحجب خصوصية هذا اليسار في علاقته بالمجتمع والجغرافيا والسكّان والثقافة، في نشأته وتطوره، خياراته ومساراته السياسية، وصولًا إلى عجزه الراهن بالمعنى التنظيمي والحضور والفعّالية، وأبرز أسباب أزمته يعود إلى انقلاب آذار 1963 العسكري، الذي أوصل حزب البعث إلى السلطة، كونه محسوبًا على اليسار القومي، إذ تبنّى الاشتراكية وطبّق الإصلاح الزراعي وأمّم المصارف والشركات الصناعية والتجارية، لكنه في السياق ذاته أمّم الصحافة وحرية التعبير في سوريا وأمّم كل بُنى ومنظمات المجتمع المدني واحتكر الفضاء العام الثقافي والسياسي، في ظلّ ديكتاتورية عسكرية انتقلت لاحقًا إلى استبداد عائلي فاسد شكل المبرر الأساس لخروج السوريين عام 2011، مطالبين بالحرية والكرامة وإسقاط النظام، وربما أحد أهم أسباب أزمة اليسار السوري تكمن في هذا النموذج المشوه لاستبداد فاسد يدّعي اليسار، وفي استمرار قوى يسارية محلية وعربية وعالمية بدعم هذا النظام من منظور يساريّته المزعومة حتى الآن.
المحطة الثانية التي تستدعي التوقف معها، تمثلت بهزيمة/نكسة حزيران 1967، والتي كشفت عجز وخواء تلك الأنظمة التقدمية التي تدّعي اليسار في كل من سوريا ومصر تحديدًا، مما دفعها للبحث عن مشروعيتها المنتهكة تحت وطأة النكسة، فجاء انقلاب وزير الدفاع حافظ الأسد والذي دعاه “الحركة التصحيحية” عام 1970، بهدف إعادة تشكيل السلطة بما يخدم مشروعه الاستبدادي العائلي، على حساب قيادة حزب البعث التي انتهت في السجون والمعتقلات.
لكنّ تداعيات النكسة انداحت أبعد من حدود الأنظمة، إذ شكلت أحد العوامل الكامنة وراء الخلافات داخل “الحزب الشيوعي السوري” قبل ومع المؤتمر الثالث للحزب عام 1969، والتي بدأ بعدها سلسلة انشقاقات طويلة، وضعته في النهاية ملحقًا بسلطة الاستبداد والفساد ضمن إطار “الجبهة الوطنية التقدمية” عام 1972، هو وبعض انشقاقاته أيضًا، إذ ساهموا مع بعض دكاكين اليسار الناصري أو مخلفات حركة “الاشتراكيين العرب” في كذبة أو ديماغوجيا أن السلطة في سوريا تعيش شكلًا من الديمقراطية التشاركية، فيما كان الأسد يُهمّش حقيقة كل القوى السياسية، بما فيها حزب البعث الحاكم نفسه بعد أن صادر الحقل السياسي لصالح مشروعه العائلي فقط كطغمة فاسدة ومستبدة.
بالمقابل عرفت سوريا والمنطقة تداعيات أخرى مختلفة لنكسة حزيران 1967، تداعيات في مستوى المجتمع ولدى بعض النخب الشبابية، إذ عزّزت مشروعية اليسار الفلسطيني المقاوم بدءًا من الفصائل اليسارية التي خرجت من رحم الجناح الفلسطيني لـ”حركة القوميين العرب”، وصولًا إلى تعزيز شرعية “منظمة التحرير الفلسطينية” كمظلة وطنية للشعب الفلسطيني، رفعت شعار تحرير فلسطين.
أبعد من ذلك، شكّلت هذه النكسة وتأثيرات الثورة الطلابية في فرنسا وألمانيا 1968، مُحرضًا في أوساط الشباب السوري والفلسطيني، وتحديدًا الطلاب، لاكتشاف أشكال من اليسار الجديد، الذي وسمَ سبعينيات القرن الماضي، فظهرت في سوريا تنظيمات وبنى جديدة لليسار الذي سار بعضه بتأثير مشروعية حركات التحرر العالمي والحالة الفلسطينية بشكل خاص باتجاه العنف المسلح، أمثال “المنظمة الشيوعية العربية” التي تمّ تصفيتها إعدامًا وسجنًا عام 1975، ويمكن تصنيف “رابطة الشغيلة” في لبنان ضمن هذا الإطار، مع أن جناحها السوري كان أكثر هشاشة من التفكير بالعمل المسلح، إذ ذهبت المنظمة كلها بعد استشهاد القائد ظافر الخطيب منتصف سبعينيّات القرن الماضي في منحى التحالف مع تيار المقاومة والممانعة بقيادة حزب الله في لبنان وامتدادًا إلى تحالفاته الإقليمية وخصوصًا مع النظام السوري حتى هذه اللحظة.
ربما تكون تجربة “الحلقات الماركسية” أواخر ستينيات القرن الماضي هي الظاهرة الأهم التي استدعت التفكير في العلاقة بين الأيديولوجيا والثقافة وبين حقل السياسة، في محاولة لفهم الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في شرطه العياني قبل الشروع في بناء تنظيم سياسي، وقد ذهبت بعض هذه الحلقات أو تداخلت مع تجارب فلسطينية، فيما تطور بعضها الآخر في منتصف السبعينيات إلى “رابطة العمل الشيوعي”، والتي تابعت نشاطها الدعائي النظري، مع ميول أخذت تنحو تدريجيًّا باتجاه العمل السياسي، وتحديدًا في ظرف المواجهات القمعية الشرسة مع النظام، مما سرع في تحول الرابطة إلى “حزب العمل الشيوعي” في سوريا عام 1981.
وقد حافظ هذا الحزب الوليد على خطه الناقد لتجربة اليسار الماركسي التقليدي في جموده النظري، وفي تبعيته للمركز الأممي في موسكو، وفي غياب الاجتهاد والممارسة الديمقراطية في صفوفه، لذلك سعى حزب العمل إلى شكل من التنظيم المغاير انطلاقًا من رفض فكرة الأمين العام للحزب والتمسك بمبدأ القيادة الجماعية للمكتب السياسي، كما أصرّ على مبدأ الديمقراطية والاعتراف بحق الاختلاف داخل صفوفه، إذ مُنحت الأقلية التروتسكية في الحزب حق الإشراف على مجلة “البروليتاري” الداخلية، وحق ممارسة النقد الفكري والسياسي وحتى التحريض تنظيميًّا ضد خط الحزب، وأعتقد أنها التجربة اليتيمة في كل اليسار السوري ضمن حدود معرفتي.
يُمكننا أن نلاحظ تداخل اليسار السوري بقوة في تلك الفترة مع نظرائه في الساحات اللبنانية والفلسطينية، وفي عموم المنطقة إذا ذهبنا مع تناقضات وصراعات حزب البعث في كل من سوريا والعراق، أو علاقات الفصائل والأحزاب الناصرية المتشظّية في تلك الساحات المتشابكة، مع التنويه بأن سوريا كانت في تلك الحقبة أرضًا موّارة بالمعنى السياسي والفكري، فبعيدًا عن انشقاقات الحزب الشيوعي الرسمي وفصائل اليسار الجديد، وجِدَتْ في ذلك الوقت مجموعات شيوعية كثيرة داخل الترسيمة “السوفيتية/اللينينية”، وخارجها أيضًا، كالتروتسكية والماوية وحتى المجالسية من جماعة العفيف الأخضر، ومجموعات أخرى كثيرة نجد من الصعوبة بمكان اعتبارها أحزابًا سياسية بالمعنى التنظيمي، بقدر ما كانت تجمعات واتجاهات أو حلقات صغيرة، الجامع المشترك بينها جميعا وبين التجارب التي أشرنا لها بتفصيل أكبر يكمن في الهوية الشبابية، إذ انتمى غالبية كوادر وأعضاء هذه الحركات لجيل الشباب والطلاب تحديدًا، هذا الجيل الذي اندفع إلى العمل السياسي، حاملًا راية اليسار في كل تجلياته الثقافية والقومية والاجتماعية والثورية.
مع التأكيد أن هذا اليسار شكّل بكل تنويعاته حاملًا للنشاطات الثقافية والاجتماعية منذ الاستقلال في سوريا، على مستوى الأدب والمسرح والجمعيات الأهلية والمنتديات الثقافية الكثيرة، حتى في لحظات الحذر الديمقراطي لزمن الانقلابات العسكرية، إضافة لامتلاكه منابر إعلامية وثقافية في سوريا والأهم في لبنان، دون أن ننسى الدور الريادي لهذا اليسار بشقيه الماركسي ويسار البعث قبل أن يتردى الأخير في مستنقع الانقلابات العسكرية، إذ ساهما في تأسيس “رابطة الكتاب السوريين” عام 1951، التي استمرت لاحقًا باسم “رابطة الكتاب العرب” إلى زمن الوحدة بين سوريا ومصر حين صدر قرار بحلها عام 1959، في إطار الخلافات بين عبد الناصر والشيوعيين عمومًا.
ارتبط حضور ودينامية اليسار السوري في سبعينيات القرن الماضي بمناخات صعود اليسار الأوربي الجديد وحركات التحرر العالمي، ولاهوت التحرير في أميركا اللاتينية، التي انتظمت كلها في إطار الهوية الشبابية لهذا اليسار، فمن خلال مقاربة حسابية بسيطة نجد أن ظافر الخطيب استشهد على خطوط التماس في الحرب الأهلية اللبنانية قبل أن يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، ولم يكن رفاقه في رابطة الشغيلة بجناحيها اللبناني والسوري، أو باقي الرفاق في المنظمة الشيوعية العربية أو رابطة العمل الشيوعي/الحزب لاحقًا، بعيدين عن هذا المتوسط العمري إن لم يكن الأمر دون ذلك، مما يسمح لنا بمقارنة هذا الجيل ومن بقي منهم على قيد الحياة في بداية انتفاضات الربيع العربي 2011، لنكتشف أنهم وسطيًّا ولجوا إلى منتصف العقد السادس وبدايات العقد السابع من العمر، فيما يساريّو الأحزاب الشيوعية والقومية الرسمية وانشقاقاتهم السابقة قد تجاوز أغلبهم الثمانين من عمره، وقد يكون هذا أحد أسباب عجز تلك القوى اليسارية الكلاسيكية والجديدة عن تجديد بنيتها الفكرية والتنظيمية خلال العقود السابقة، كما عجزت عن تجديد دمائها الشبابية التي جفت حتى بين سلالات هؤلاء اليساريين، وكأنه العقم الأيديولوجي.
رغم العديد من المبادرات السياسية والديمقراطية التي انتشرت في العقد الأول من القرن الجديد، بعد توريث الأسد الابن عام 2000، كانتشار ظاهرة المنتديات الحوارية في دمشق وبعض المدن السورية، والتي وسمت ربيع دمشق القصير، إضافة لبيان الـ99 ثم بيان الألف وصولًا إلى “بيان دمشق/بيروت” عام 2006، وفي السياق ذاته بدأ العمل مع تشكيل “لجان إحياء المجتمع المدني” و”الجمعية السورية لحقوق الإنسان” وصولًا إلى تشكيل “إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي” عام 2005، والذي فشل في مأسسة ذاته كمحصلة، ليس بسبب الاعتقالات المتلاحقة لنشطاء هذه المرحلة فقط، بل وبسبب الخلافات الشخصية والحزبية ومسألة المحاصصة في قوى هرمة لم تفلح بتجديد ذاتها أو تطوير أدواتها، واستمرأت العبث السياسي الذي أضحى سمة لهذه القوى استمرّت في أوساط المعارضة السورية الديمقراطية واليسارية حتى تاريخه.
فاليسار السوري كان لحظة اندلاع انتفاضات الربيع العربي، في حالة عجز أو كهولة فيزيولوجية وأيديولوجية إن صحّ التعبير، أو أنه كان مجرد يافطات لدكاكين أضحت خالية من أي محتوى، دون أن يؤثر في هذه الحقيقة معرفتنا أن أسباب هذا العجز في معظمها تعود إلى عقود من العسف والاضطهاد الذي مارسه نظام الاستبداد البعثي في ظل قانون الطوارئ، حتى استتب له الأمر بوأد تلك الحياة السياسية والفكرية الموّارة في سوريا حتى تصحّرت.
تعطيل ديناميات اليسار السوري تزامن مع سعي نظام الأسد لتحويل الدولة ومؤسساتها، وتحديدًا المؤسستين العسكرية والأمنية، إلى دولة ومؤسسات عقائدية يقوم ولاؤها للأسد بديلًا عن الولاء للوطن. إضافة لتزامنها مع غض الطرف عن نشاطات الإسلام المعتدل والتيارات الصوفية في الجوامع وعبر منابرها المفتوحة، ومن خلال الجمعيات الخيرية والأهلية بحجة مواجهة الإسلام السياسي وتعبيراته الإخوانية، مما ساعد في نموّ وتكريس البنى الاجتماعية ما قبل الدولة المدنية، وهذا شجّع الانقسامات العمودية في المجتمع مع ظهور هويات صغرى مذهبية وطائفية وقومية وعشائرية وقبلية وحتى مناطقية أو جغرافية متنابذة ومتصارعة، طغت على سطح الأحداث منذ السنوات الأولى لانتفاضة السوريين، وبتشجيع كبير من القوى الإقليمية والدولية التي ساهمت بحرف الصراع داخل سوريا إلى اتجاهات غير وطنية.
بعد خروج معتقلي حزب العمل وباقي معتقلي القوى اليسارية من السجن، “خرجتُ أنا بتاريخ 7 يناير 1999، بعد أن أمضيتُ 12 عامًا و 32 يومًا”، كانت قد جرت خلالها الكثير من المياه تحت جسور الأيديولوجيا واليسار في العالم، وأهمها انهيار الاتحاد السوفياتي أواخر ثمانينيات القرن المنصرم، دون أن تتوقف أغلب قوى اليسار في سوريا عند هذه المجريات أو ارتداداتها، مراجعةً أو ناقدةً لها، باستثناء مراجعة الحزب الشيوعي السوري/المكتب السياسي في مؤتمره السادس عام 2005، حين غير اسمه من “الحزب الشيوعي/المكتب السياسي” إلى “حزب الشعب الديمقراطي” والذي اعتبر مؤشرًا للانتقال من الخط الإيديولوجي الماركسي اللينيني باتجاه الاشتراكية الديمقراطية وظلالها الليبرالية.
بالنسبة لي كمعتقل في حزب العمل الشيوعي/الرابطة سابقًا، رأيت مع أغلبية الرفاق الخارجين من السجن، أن تلك المرحلة انتهت، وأنه فيما لو أراد أحدنا العمل السياسي فعليه التفكير بطريقة جديدة، إذ بات من غير المقبول التمسك بشعار ديكتاتورية البروليتاريا مثلًا، في بلد يسيطر فيه نظام كلياني شمولي على كل الجمعيات المدنية والنقابات بما فيها النقابات العمالية، وهذا ما دفع أغلبنا لتثمين المراجعة التي أنجزها الأصدقاء في حزب الشعب، والتي وئدت سريعًا مع استقالة الأمين العام المنتخب عبد الله هوشة، احتجاجًا على إغلاق نوافذ الحرية والديمقراطية في الحزب.
فيما نشط بعض رفاقنا في حزب العمل على استعادة الحزب فور خروجهم من السجن، ولمآرب مختلفة من شخص لآخر، إذ نشط بهذا الاتجاه رفيقنا السابق فاتح جاموس الذي سبق وخاض معارك نظرية داخل حزب العمل وفي السجن دفاعًا عن أولوية المسألة الوطنية على المسألة الديمقراطية، كما عمل على إصدار مطبوعة باسم “الآن” ما زالت حتى تاريخه تصدر باسم من بقي من هذه المجموعة في هيئة التنسيق، إضافة للرفيق منيف ملحم المنتمي لاتجاه الأممية الرابعة أو التروتسكية، وسبق له في فترة ربيع دمشق تأسيس “منتدى اليسار للحوار” مع بعض رفاقه، كما أسس عام 2002 حركة “مناهضة العولمة”.
بينما الرفيق عبد العزيز الخير الذي تأخر إطلاق سراحه، تأخر أيضًا انضمامه إلى جهود استعادة الحزب ولم يبرز بشكل واضح إلا بُعيد انتفاضة السوريين، بدليل أنه عندما شارك بتأسيس تجمع اليسار الماركسي في سوريا “تيم” بتاريخ 24 أبريل 2007، وقّع باسمه الشخصي رغم مشاركة حزب العمل بالتأسيس والتوقيع، وظلّ لفترة بُعيد الانتفاضة يُنسق مع فاتح جاموس، حتى غادر هذا الأخير حزب العمل الشيوعي إلى حاضنة قدري جميل في “جبهة التغيير والتحرير”، وبقي الرفيق عبد العزيز الخير ومعه قسم من رفاق الحزب داخل هيئة التنسيق، حتى اختطافه وتغييبه قسريًّا في 16 أكتوبر 2012، من قبل أجهزة الأمن السورية على طريق المطار حين كان عائدًا من زيارة للصين.
بالمقابل، أحصي في سوريا خلال السنتين الأوليين من زمن الانتفاضة وجود ما ينوف عن 300 مجموعة صغيرة، ينشط أغلبها في المجالات الإغاثية والمدنية والطبية والإعلامية، كما اشتغل بعضها على تقديم مساعدات لوجستية وجمع تبرعات للمنتفضين إضافة إلى المشاركة في التظاهرات التي كانت علامة فارقة لتلك المرحلة، ولوحظ انخراط أغلب رفاق تجربة حزب العمل، وبعيدًا عن إطار الحزب السابق، ضمن بعض المجموعات ذات الطابع اليساري الداعمة لانتفاضة السوريين، مع حذر شديد من موضوعة العمل العسكري أو التسليح، باستثناء نوايا لبعض الأشخاص أجهضت باكرًا.
ما يميّز ديناميات رفاق حزب العمل السابقين تجلى بقدرتهم على التفكير خارج الصندوق إن صح التعبير، أي دون البحث عن شرعية الحزب السابق، لذلك رأيناهم يتوزعون في مجموعات كثيرة بعيدًا عن الرابط الحزبي أو البرنامجي، من لؤي حسين وتيار بناء الدولة إلى تيار مواطنة وحركة معًا واليسار الثوري وتجمع نبض وحركة شمس وغيرها من المسميات، وكنت مشاركًا في تأسيس تيار مواطنة، والذي شارك في تشكيل “ائتلاف وطن” الذي ضمّ 17 منظمة صغيرة ذات طابع يساري عمومًا، كما وُجِدتْ منظمات أخرى كثيرة بنفس الاتجاه وإن لم تنخرط في هذا المسمى، وقد حققت أغلب هذه المجموعات الصغيرة نجاحات مهمة ضمن حدود بيئتها ولصالح تجسير الهوة بين مكونات المجتمع السوري ضمن إطار النشاطات الداعمة للانتفاضة، وكذلك نجاح هذه المجموعات ضمن حدود أهدافها أو برامجها العملية، لكنها لم تحقق أي نجاح يذكر حين اقتربت من العمل السياسي المباشر، وتحديدًا عندما ذهبت إلى التشكيلات السياسية الكبرى لاحقًا، أو احتكت بها.
وكانت تجربتنا الأولى حين شارك “تيار مواطنة” في مؤتمر القاهرة الذي رعته جامعة الدول العربية، وأنتج أول صيغة توافقية عرفت باسم “وثائق القاهرة” التي صدرت بتاريخ 3 يوليو 2012، وقد توزعت بين “العهد الوطني” وبين “الرؤية السياسية المشتركة”، وكانت الأرقى والأفضل حتى تاريخه وباعتراف الجميع، رغم العبث الذي مارسه الجميع بدءًا ممن أراد أن يحجز عبر الهاتف لصالحه نصف أسماء لجنة الصياغة كونه يمثل معارضة الداخل، إضافة لانعدام الثقة بين الجميع، والفوضى العارمة التي سادت في الجلسة الختامية، إذ تناوب أربعة أو خمسة أشخاص على رئاسة الجلسة، دون أن يفلحوا في التقليل من غوغائية البعض وانسحاب البعض وتراجع البعض عن انسحابهم حين قرروا في اليوم التالي توقيع الوثائق مع التحفظ.
ما جرى تلك الليلة ينتمي حقًّا إلى مسرح العبث أكثر مما ينتمي إلى العمل السياسي والفكري الوطني، ولا أستثني أحدًا من العبث الذي استمر بعد صدور الوثائق التي تركت أصداء جيدة عند السوريين عمومًا ولدى أغلب الأطراف الدولية الفاعلة أو المعنية في ذلك الوقت بالملف السوري، إلا أن الطرفين الأساسيين في المعادلة المجلس الوطني وهيئة التنسيق ساهموا بوأد هذا المنجز، المجلس الوطني/وامتداده الائتلاف لاحقًا اعترضوا على اعتماد شرعة حقوق الإنسان مصدرًا للتشريع، فيما استمرت هيئة التنسيق في مواقفها المُعطِلة وتمترسها وراء المحاصصة، البعيدة عن أي إحساس بالمسؤولية السياسية والوطنية.
ورغم إصرارنا في تيار مواطنة على رفض المشاركة في المجلس الوطني أو هيئة التنسيق، إلا أننا راهنّا على لحظة ولادة الائتلاف، وشاركنا بها منذ البداية، ثم دَخلتُ في المرحلة اللاحقة ضمن التوسعة التي جرت نهاية أيار/مايو 2013، إذ خَبِرتُ سوء وضع هذه المكونات، وأذكر أنني خلال عامين كنت أقاتل في “تيار مواطنة” على فكرة الخروج من الائتلاف، وبعد لأيِ أعلنت انسحابي دون موافقة التيار، واعتذرت من أصدقائي ومن كل السوريين عن فشلنا في بيان علني بعنوان “بُنى غير قابلة للإصلاح”، إذ كان الائتلاف وما زال يسير ضمن المحور التركي الإخواني، فيما ممثلو اليسار ضمن الائتلاف كانوا يمارسون العبث السياسي بكل معنى الكلمة في مستوى تحالفاتهم وفي مستوى مواقفهم السياسية، حتى من كان منهم شركاء لنا في تجربة السجن، وانسحبت لاحقًا من “تيار مواطنة” أيضًا.
هنا سأعود إلى تجربة “حزب الشعب” التي خرجت من رحم المراجعة النقدية للحزب الشيوعي السوري/المكتب السياسي، التي أشرنا إليها، وسأكتفي بما أورده الصديق مازن عدي في دراسة مهمة بعنوان “الربيع العربي والأحزاب السياسية: سوريا مثالًا” في العدد الثالث من “رواق ميسلون، تموز/يوليو، 2021”. يتحدث الصديق المهندس عدي القيادي في “حزب الشعب-الهيئة القيادية” عن تجربة حزبه الأم “حزب الشعب” في زمن الثورة وداخل مؤسسات المعارضة، قائلًا:
“تعـرض حـزب الشـعب لانتقادات واسعة علـى سـوء الأداء، وعلـى تأخيـر عقد مؤتمره الـذي يضمن المراجعـة وتجديد الطاقات. لـم تعمـل قيادته كي يكـون فاعلًا كمؤسسة، وتُـرك أعضاؤه لمبادراتهم الفردية خلال الثـورة، فــي الوقــت الــذي لعبــت بعــض التصريحات السياسية لأحــد مسؤوليه غطاء للإسلاميين المتشددين مثل جبهة النصرة (جورج صبرا)، يُضاف إلى ذلك عدم الرضى عن أداء الحزب في المجلس الوطني والائتلاف الوطني الذي جُيّر لمصلحة جماعة الإخوان المسلمين وحلفائهم من التيارات الإسلامية. تفاقمت أزمة الحزب تنظيميًّا، إذ صدرت قرارات فصل داخلية لمجموعة كوادر كانت تسعى لإنشاء منبر ديمقراطي داخلي بحسب النظام الداخلي، إلا أن القيادة رأت أنه تكتل بغرض الانقسام. احتكم المعترضون إلى هيئة التحكيم الوطنية داخل الحزب برئاسة عمر قشاش التي أنصفتهم، لكن القيادة المركزية لم تحترم قــرارات هيئة التحكيم، وأعلنت حالة الطوارئ، ولجأت إلـى قـرارات الفصل التي طالـت أعضـاء فـي المركزيـة وكوادر أساسية. كذلك، لم تحدث استجابة لدعوة ثلث أعضاء المؤتمر السـادس إلـى عقـد مؤتمـر سابع، ولا يـزال الأمـر معلقًا حتى اللحظة الراهنة. انتهى الحزب واقعيًّا إلى جسمين تنظيمين يحملان الاسم نفسه مع تميّز الطرف الجديد بإضافة عبارة الهيئة القيادية إلى الاسم”.
وكل هذه التفاصيل معروفة داخل الوسط المهتم في سوريا، وأنا أتفق مع كامل الملاحظات التي أوردها الصديق مازن عدي، وسبق لي الإشارة إليها في سياق مختلف، مع أنني لست من مؤيدي أي انشقاق تنظيمي، وخاصة في بنى هي مأزومة في الأساس.
سبق للصديق اليساري الفلسطيني الراحل سلامة كيلة، الذي أمضى ثماني سنوات من عمره في سجون الأسد، وبقي مخلصًا ليساريته حتى النهاية، أن كتب عن أزمة هذا اليسار في كتابه المهم “اليسار العربي في أفوله” الذي صدر أواخر عام 2011، عن دار فضاءات للنشر والتوزيع، حين يقول إنّ “اليسار بات يتلاشى، فيتحول إلى أحزاب هرمة ذات سياسات تميل إلى المهادنة والتكيف مع الأمر الواقع، والقبول بأقل القليل”، دون أن يَحدُّ هذا التشاؤم من إصرار كيلة على بناء يسار جديد، وهو السؤال الذي يبحث عن مشروعيته في إطار الأزمة الراهنة ومقدماتها العديدة؟
حتى هذه اللحظة، لا يوجد أي أفق لولادة يسار سوري حقيقي، طالما لم نزل نفكر بتقسيم الدكاكين الخاوية واليافطات القديمة، مستسلمين لتناقضاتنا السابقة وصراعاتنا القديمة بعد عشر سنوات من السيول الجارفة التي دَمّرت كامل سوريا عمرانًا ومجتمعًا واقتصادًا، وقوضت في طريقها بقايا اليسار السوري الهرم، فبات حريًّا بنا أن نفكر بطريقة مختلفة، مستحضرًا ملاحظتي السابقة حول إمكانية “التفكير خارج الصندوق”، لماذا نحاول التمسك بإرث لم يمنعنا من الخطأ سابقًا؟ ولماذا نسعى إلى القسمة داخل الصندوق ولا نسعى إلى بناء صندوق جديد أرحب؟ وهذا يفترض السؤال حول ضرورة ومشروعية اليسار الجديد؟ وتاليًا أي يسار نريد؟
أعتقد أن فكرة اليسار الشيوعي باتت جزءًا من الماضي، وعلينا أن نعترف بتطور مفهوم اليسار كثيرًا باتجاهات تربط فكرة العدالة الاجتماعية بالديمقراطية وحرية الإنسان وحقوقه، بالتوازي مع ربط مفهوم العدالة بالكثير من القيم الثقافية والاجتماعية التي تشكل حاملًا للفعل السياسي أكثر منها أيديولوجيا ترتبط بدكتاتورية البروليتاريا أو أي دكتاتورية أخرى يسارية أو قومية أو دينية.
علينا أن نفكر الآن مع كارل بوبر في كتابه “المجتمع المفتوح وأعداؤه”، إذ لم يعد مقبولًا تأطير الحياة والتاريخ وعناصرهما المتحركة من مجتمعٍ وثقافةٍ وأفرادٍ في منظور أو إطار محدد أيديولوجيًّا، دون أن ننسى بالطبع أثر الديمقراطيات الغربية التي ذهبت أبعد من ديكتاتوريات البروليتاريا في الأنظمة الشمولية، من حيث تطبيق مفهوم العدالة والتأمينات الصحية والاجتماعية التي تحدث عنها ماركس وبعض تلامذته المجددين.
بالطبع سيرفع كثيرون علينا تهمة الليبرالية، مع أنها في شقها السياسي باتت ضرورة ملحة لاستعادة جيل الشباب السوري إلى حقل العمل السياسي أولًا، وبأقل حمولة أيديولوجية ممكنة، فعصر الأيديولوجيات الكبيرة قد انتهى، كما انتهت معه أحلام التنظيمات الأيديولوجية الكبيرة التي تسيطر على المجتمع، وتستغل قوتها لبناء ديكتاتوريات جديدة.
مع ذلك سأسمح لنفسي بالعودة إلى أبجديات الماركسية والصراع الطبقي، للبحث عن مشروعية اليسار السوري الجديد أو حامله الطبقي، حين نكتشف أن 90 بالمئة من السوريين الآن في مناطق النظام، أو في مناطق الشمال السوري الخاضعة للاحتلال التركي أو لسيطرة هيئة تحرير الشام، أو في مخيمات اللجوء بين تركيا والأردن ولبنان، هم جميعًا بالمعيار المادي أو الاقتصادي تحت خط الفقر بكثير، مع أنهم ليسوا بروليتاريا أو طبقة عاملة، لكنهم ممن هبطت بهم مفاعيل الحرب إلى درجة أقرب لمفهوم البروليتاريا الرثة وفق التعبير اللينيني، وإذا كان لينين قد اعتمد أصلًا على فلول الجيش الإمبراطوري المهزوم في نهايات الحرب العالمية الأولى، وهم ليسوا بروليتاريا، ليقودهم من هزيمتهم باتجاه قصر الشتاء، ويحقق ثورة أكتوبر التي غيرت لعقود من الزمن وجه التاريخ، فهل يمكن ليسار سوري جديد أن يعاود الاشتغال على هذه النسبة الكبيرة من السوريين التي أفقرت دون حد الفقر بكثير، والتي تمرغت بكثير من الخسائر والذل في انتماءات وهويات واحتلالات لا تعبر عن قضيتها أو احتياجاتها وطموحاتها، ليصنع منها كتلة حقيقية في المعادلة السورية التي خرج منها السوريون نظامًا ومعارضةً؟
هي مجرد فرضية للتفكير، رغم معرفتنا أنه ليس بالمستطاع الآن قيادة هذه الفلول المفقرة إلى قصر قاسيون، بل ليست هذه المهمة مطروحة الآن على جدول العمل السياسي الراهن، لكن هذه المجاميع المفقرة بالضرورة هي أرض خصبة لانتعاش اليسار السوري مجددًا في بحثه عن الحرية والكرامة بعد أن عزّت عليها لقمة العيش، وهذا هو التحدي الحقيقي أمام النخب السورية لاستعادة هذه المجاميع عبر عمل دعاوي ربما يطول أمده بعض الشيء، عمل يعيد الاعتبار إلى الثقافة في المجتمع انطلاقًا من فصل الدين عن الدولة، بعدما قادتنا أسلمة الثورة أو الانتفاضة إلى العسكرة والكوارث الراهنة سوريا، فالعلمانية هي النظام الأقدر على الحفاظ على حقوق جميع المتدينين وعباداتهم بعيدًا عن شؤون السياسة وإدارة الدولة أو الشأن العام، فليس مطلوبٌ من الدولة أن تُدخل مواطنيها إلى الجنة، بل أن تؤمن احتياجاتهم في الحياة الراهنة، وتصنع لهم في دولتهم إمكانية للحياة بكرامة.
يؤكد المفكر الراحل إلياس مرقص هذه الفكرة بقوله: “إنه في زمن العسكرة ليس من مجال الآن للفعل السياسي، وربما يكون الأجدى العودة إلى العمل الدعاوي الفكري والثقافي لتجميع بنية حزبية قادرة أن تحسم الأمور ديمقراطيًّا حين نصل إلى هذه المرحلة ولو تأخر الزمن”.
وأعتقد أن هذه الكتلة العريضة وضمنها الأجيال الشابة من السوريين تمتلك الآن حاملًا متاحًا تقدمه منصات التواصل الاجتماعي التي يمكن استثمارها بديلًا عن “الأيسكرا” البلشفية، كطريق للعمل الدعاوي الواسع، القائم على الاستثمار في حقوق السوريين المفقرين اقتصاديًّا والمهمشين سياسيًّا واجتماعيًّا، واستعادة الشباب منهم والعاطلين عن العمل بشكل أساسي باتجاه حقل السياسة، فجيل الشباب هو الضمان الوحيد لاستعادة ألق اليسار الثقافي والاجتماعي، يسار ينطلق من فكرة العدالة الاجتماعية ربطًا بمفهومي الحرية والديمقراطية، بعيدًا عن أي ديكتاتورية باسم البروليتاريا أو الدين أو الرسالة الخالدة، فهنا كان مقتل اليسار السوري الذي لم يكن ديمقراطيًّا ولم يعترف بالحرية كقيمة سامية في الفكر والسياسة، وهنا التحدي الذي ينتظره في المستقبل، وبدون ذلك لن تكون المساواة أو العدالة بين الأفراد ولن يكون حلم المواطنة ممكنًا.
*موقع جدلية