أنطوان أبو زيد: شخصيات الروائي النمساوي هانز بلاستغومر تسقط عن “الحافة”

0

منذ مطلع القرن التاسع عشر، أخذت نزعة التداخل بين الفنون الصاعدة في حينه وبين الرواية تتبلور وتتنامى، وشرع الروائي نفسه يصطلح لفنه تصوراً خاصاً، يكون للفنون الموقع الفريد فيه، منسجماً مع رؤيته للعالم وفلسفته اللتين تحكمان اختياراته وموضوعاته الأثيرة.

يقول ميلان كونديرا في كتابه “فن الرواية”، “إن تاريخ الرواية هو الميراث الذي يحصله كل روائي (من نتاجه المتواصل)، وهو الوسط الذي يعين فيه مغامراته، إلى جانب السياق الأكبر الذي تقاسُ به دلالة العمل الروائي، ويوزن به كل عمل جديد”. وللروائي نفسه، بحسب كونديرا نفسه، اعتبار خاص للموسيقى، لا سيما الكلاسيكية منها، باعتبارها ذات بنيان حي وتماوجات عديلة للوجود الإنساني، وفيها الإيحاء والخفة اللازمان، لتكون صنوَ الفن الروائي.

هانز بلاتسغومر، الكاتب الفنان النمساوي (1969)، يختط لنفسه مساراً خاصاً، وفقاً لتعريف كونديرا السالف، إذ يبدأ مساره الفني عازفاً على الغيتار، ثم مؤلفاً موسيقياً ومديراً لفرقة موسيقية دارت على أوروبا ثم على أميركا، ومؤلفاً لمسرحيات إذاعية ومسرحيات، وروائياً في آخر المطاف. ولعل هذا المسار مستمد من فرادة كيانه وظروف تربيته وتكوين أهله الثقافي والفني، إلى جانب ثقافته وتجاربه الحياتية التي يجد القارئ قسطاً منها، يضاف إليها السياق الأكبر أو المحيط الأوروبي والأميركي الذي ينطق عن همومه وقضاياه.

بلا أهل

الرواية المترجمة إلى العربية من الألمانية  للكاتب النمساوي هانز بلاتسغومر، وهي بعنوان “الحافة”  والصادرة عن دار “كلمة” في أبو ظبي، وبترجمة محمود حسين، تسلط الضوء على قضية إنسانية، آخذة في الامتداد والشيوع، عنيت بها الأجيال المولودة من علاقات عابرة أو مجهولة الآباء الحقيقيين، التي قُدرت بـ25 في المئة من الولادات في آخر دراسة أجريت في أوروبا. وبالطبع، فإن من شأن هذا الواقع أن يرتب انفصاماً انفعالياً واجتماعياً بين هذا الجيل المولود على هذه الصورة، وبين بيئته وسائر الأفراد الذين يشكلون مجتمعه القريب والبعيد.

إذًا، تحكي الرواية سيرة شخصية أسماها الروائي “غيرولد”، وقد أدرك نفسه، في الثانية والأربعين من عمره، أنه بات في ختام رحلته إلى “القمة” التي تعقبها “الهاوية”، على ما يرد في أحد الاقتباسين لفريدريك نيتشه، في توطئة الرواية. ويعني هذا الأمر أن الروائي يسارع إلى وضع القراء، من مستهل الرواية، في أجواء أزمة الشخصية المحورية، من دون أن يغفل عن رسم إطارها المكاني والزماني الأولي. وإذ يتولى الراوي مهمة التعريف عن نفسه، بكونه ابناً غير شرعي أو غير معروف الاب، لأم كانت مومساً “تبيع جسمها الغض للسويسريين الذين يعبرون الحدود، لأن فتيات النمسا أبخس ثمناً” ، ولم تلبث أن ارتدت إلى الإيمان وكرست حياتها لمساعدة المرضى والعجزة، عازفة عن الزواج والعلاقات.

يستعيد الراوي ماضي أيامه، وهو لا يزال فتى، يستحضر مشاعر الألم التي تعتصر كيانه كلما ناداه الأطفال، من أترابه، “ابن الساقطة”، إلى أن اعتاد تلك التسمية وعبَرَ منها إلى الفتوة الصاخبة مع صحبه من أمثال، غيدو وزينونر وبيتر وليفي وإنرهوفر وغيرهم. وذلك بعد أن يكون قد مر على وصف إطاره المكاني الضيق، عنيت حي غلورنس، الواقع في خسفة بين الجبال الشاهقة، الظليل دوماً، وبعد أن يصف سكانه بأنهم ذوو سحنات وغضون تستمد قساوتها من المكان والأجواء القاتمة فيه. وفي موجز الكلام على مغامرات الفتوة في الحي وخارجه، كل هذا والراوي لا يزال مستغرقاً في سرده السيري عبر تقنية الفلاش باك المتواترة، إنها غالباً ما اتسمت بالخطورة، والاندفاع الحماسي العضلي، يعززهُ التدرب على الفنون التقليدية لكاراتيه الشوتوكان، وما تفرضه الأخيرة من براعات جسمانية وتحمل للآلام، وإشارات كلامية ترمز إلى الاتفاق، مثلاً، أوس، وشتوتسه، وهي العبارة التي يستهل بها كل فصل من سيرته الروائية.

الإنفصال عن القطيع

ومن ثم ينتقل الراوي إلى مرحلة تعرفه إلى إيلينا شيرتلر، صديقته وامرأته، فيروي كيف التقى بها في 18 أغسطس ( آب) من عام 1993، ودخلت “حيز حياته” مساكنةً إياه على مدار اثنين وعشرين عاماً متواصلة. وكان الراوي جذبه فيها، بادئ الأمر، رغبتها في الانفصال عن “القطيع”، كناية عن نزعتها إلى الانكفاء عن كل ما يمت بصلة إلى المجتمع والعائلة والقرابات وما شاكل.

وبينما كان الراوي يسرد وقائع لقائه بصديقته وإقامتها لديه، تستحثه ذكرى جده العجوز، فيعود إلى استحضار حدث أليم، في بداية شبابه، إذ هاله مقدار العذابات التي سامها جده العجوز لها، في مقابل حنوها الدائم عليه. وبينما كان الجد العامل في أحد أنفاق البلاد، عائداً إلى منزلهما، تملكته نوبة سعال، أقدم على خنقه، انتقاماً لأمه، من دون أن ينتبه أحد إلى ذلك، ما دام أن المغدور مصاب بحساسية مفرطة بسبب تنشقه الغبائر في أنفاق الجبال.

وفيما الراوي يحكي عن كيفية ارتزاقه من أعمال البناء، في منطقة جنوب التيرول، نجده يخصص فصلاً كاملاً للكلام عن روايتيه الأولى والثانية اللتين ما زالتا مخطوطتين، وعلى منحة الثلاثة أشهر التي أعطيت له من منظمة إيطالية للإقامة في البلاد، وكتابة عمل روائي برفقة إيلينا، في التفاتة أو خلطة أسلوبية يجد النقاد لها نظيراً في الكتابات الروائية التجريبية والجديدة، وفيها ينبه القارئ إلى ازدواج الهوية بينه ككاتب وبين الشخصيات التي يختلقها وتمثل بعضاً من ذاته، “انتهزتُ كل فرصة تشغلني عن الكتابة. صرتُ غير قادر على تخطي الفجوة بيني وبين ما كتبتُ. وبينما فترة التوقف عن الكتابة تطول، بدأ التعب يتغلب على ما تبقى لي من إرادة في الكتابة…ولكن للمرة الثانية تسرب نتاجي الأدبي من بين أصابعي بلا عودة”..

القتل الرحيم

وبالعودة إلى الحبكة القصصية الرئيسة، كان أحد رفاق غيرولد المدعو غيدو، قد نُكب بصحته، حين شرب بالخطأ قنينة من المحلول الكيماوي أدى إلى تلف حلقومه ومريئه وجزء من معدته، فصار طريح الفراش، ورهين آلات التنفس والغذاء والدواء. وبما أن غيدو ورفيقه الذي كان يعودهُ دوماً في المستشفى، مدربان جيداً على تحمل الآلام، والصبر عليها، أشار الأول للثاني بأن ينهي له حياته (“أريد أن أموت”) ليخلصه من العذاب المستديم الذي آل إليه. وفي آخر المطاف، يرضخ غيرولد لإلحاح صديقه، فيقطع عنه أداة التنفس، وأنبوبة الكلام، فيقتله قتلاً رحيماً.

بيد أن الأغرب والأكثر مدعاة  للأسى سوف يحصل في الحلقة الأخيرة من حبكة الرواية، ومفادها أن غيرولد نفسه، لما فرغ من منحة إيطاليا، واستحق فرصة من شركة البناء، قصد أن يقوم بنزهة إلى مرسيليا، برفقة إيلينا، للمشاركة في مهرجان قنافذ البحر هناك. وفي طريق العودة، حدث خلل في السيارة اضطرهما إلى المبيت في فندق الفورمولا. وهناك تراءى لغيرولد أنه سمع بكاء طفلة، ولم يلبث صوت البكاء أن تأكد، بمجرد أن فتح الباب، إذ وجد طفلة بعمر الأشهر، تحبو. فما كان منه إلا أن حملها إلى صديقته إيلينا (التي لطالما سعت إلى الحمل من غيرولد طوال عشرين عاماً فلم توفق في ذلك) واعتبراها ابنتهما، بعد اتفاقهما على عدم إبلاغ السلطات الفرنسية بعثورهما، صدفة، على الطفلة ومن دون أن يستفقدها أي قريب مفترض لها.

وبعد نجاح الزوجين غيرولد وإيلينا بالعبور إلى النمسا، عبر طرقات متعرجة، تفادياً للحواجز المدققة في الهويات، استعادت إيلين توازنها العاطفي، وشرع الأب بتهيئة كل أسباب البقاء للطفلة لتنمو في بيئة من العطف والأمان. ولكن من أين لهما ذلك؟ فالواقع أن هواجس الخوف والقلق من انكشاف أمرهما، على الرغم من بلوغ الطفلة السنوات الثلاث، دفعت بهما إلى ركوب مخاطرة اجتياز الحدود البلاد (النمساوية)، حيث يتم التشديد على الهوية والانتماء إلى إيطاليا عبر دروب غابية محفوفة بالمطبات والمهاوي. وبينما كانت إيلينا تسير، حاملة طفلتها، وتاهت سبيلها في دغل كثيف، ولم تنتبه إلى وجود هوة عميقة في ذلك المكان، سقطت فماتت هي والطفلة سارة. أما غيرولد، فبعد أن نجح في الوصول إليهما، عمد إلى دفنهما في المكان، ثم استعد للخطوة الأخيرة التي يروي تفاصيلها، بعد أن يجمع كل ما أنجزه من مخطوطات ورتبها في حمالة ظهر، وهي القفز من إحدى قمم جبال جنوب التيرول، واللحاق بهما.

كثيرة هي نقاط الجذب في هذه الرواية للكاتب النمساوي، وليس أقلها الغمز من قناة التربية المسيحية المتزمتة، ومظاهر التقوى الخارجية العميمة في بلاده، وبالطبع مسألة تفكك الأواصر العائلية، وغيرها من اللمحات الذكية التي لا تقوى المقالة إلا على التقاط اليسير منها.

للكاتب المسرحي والفنان والروائي النمساوي هانز بلاتسغومر، عديد من الألبومات الموسيقية، والمسرحيات، مثل “السارق آبن”، و”راديو أسود”، و”كومبراي”، و”تحت الثلوج”، و”حرية بيومترية”، و”لذة الحياة”، و”حول 90 دقيقة”، و”عائلة واحدة”، وغيرها. أما رواياته فأهمها، “حملة بحث”، و”أبيَض”، و”أطفال مستعادون”، و”قدم الفيل”، و”عالم الممر”، وغيرها.

*اندبندنت