أنس الأسعد: “محمد قنديل: 3 سلامات” لمُحبّ جميل.. سيرة فنّية عن “ابن البلد”

0

ما زالت المكتبة العربية تسعى، بخطوات وئيدة، إلى توثيق وأرشفة الغناء، وكذلك السيَر الفنّية للمُغنّين. ورغم أنّ القرن العشرين شهد نهضة فنّية تتقاطع من ورائها أحداث ومحطّات تاريخية واجتماعية، إلّا أنّ الدراسات التوثيقة، التي تصدر ضمن هذا السياق، قلّما تجمع بين تلك المُشتركات، وهذا ما يفوّت الفرصة أمام القارئ، اليوم، للنظر بعمق في تفاصيل زمن مضى.

تدارُك هذا الخلل، وبناءُ سيرة فنّية دون ترْك فراغات، هو ما يحاوله الباحث المصري مُحبّ جميل في كتابه الصادر مؤخّراً عن “آفاق للنشر والتوزيع”، بعنوان “محمد قنديل: 3 سلامات”، والذي يتتبّع فيه مسيرة المغنّي المصري (1929 – 2004).

يتموضع الكتاب في سياق اشتغالات توثيقية أُخرى كان جميل قد خصّصها لفنّانين مثل صالح عبد الحي (1896 – 1962)، وفتحية أحمد (1898 – 1975)، ومحمد عبد المطّلب (1910 – 1980). وبالتالي فإنّ المؤلَّف الأخير يُعدّ استكمالاً لتلك الرحلة، حيث يبني منهجيته على اعتماد السيرة موضوعاً له؛ وإنْ كان اقتفاءُ أثر هذه الأخيرة ليس بالأمر السهل، خاصة أنّ هذه الأسماء لم تكن حياتُها مفتوحةً دائماً أمام الصحافة، بل إنّ شخصية، مثل قنديل، ظلّت بعيدة عن تصدير نفسها في سياق “أخبار النجوم”، وما شابه.

بدايةً من “عالم الطفولة والأحلام”، عنوان الفصل الأوّل، ينطلق الباحث في توثيقه، فيتقصّى مكان الولادة: حي شبرا القاهرة، وزمانه: 11 آذار/ مارس 1929، ويُضيء على الأسرة الفنّية التي ترعرع فيها صاحب “عاشق يا بنات النيل” (1971)، فكان لها فضل في احترافه الغناء، قبل أن يلتحق بـ”معهد الاتحاد”، حيث تعلّم عزف العود، وتعرّف هناك إلى أم كلثوم، مشاركاً في فيلمها “عايدة” (1942). وعندما كان يُسأل عن الأصوات التي لعبت دوراً جوهرياً في تكوينه كان يجيب: “محمد عبد الوهاب، وأم كلثوم، وأسمهان، وليلى مراد، بالإضافة إلى ألحان زكريا أحمد ومحمد القصبجي”. وبهذا يكون الفصل الثاني، “على طريق النجومية”، قد رسّم الينابيع الأُولى التي نهل منها، وشقّ طريقه متأثّراً بها.

ثورة 23 تمّوز/ يوليو 1952 هي الحدث السياسي الأبرز الذي من خلاله سيعبر قنديل ليكون واحداً من مُغنّي الثورة الشباب، موقّعاً “الراية” التي كتبها محمود إسماعيل، ولحّنها قنديل نفسه، قبل أن يقدّم أغنيته التي اختارها جميل عنواناً لكتابه؛ وهي: “تلات سلامات” عام 1954، وهي من كلمات مرسي جميل عزيز، وألحان محمود الشريف. وكشأن مُغنّي تلك المرحلة، سرعان ما صار قنديل أحد أصواتها، وحسبنا عناوين أغنياته التي تؤكّد ذلك؛ مثل: “يا ويل عدوّ الدار” (1956)، و”وحدة ما يغلبها غلّاب” (1958)، وبمجرّد أن يشدو “أنا واقف فوق الأهرام/ قدّامي بساتين الشام”، حتى تبدأ تصفيقات الجمهور.

كان الغناء الخفيف، أيضاً، أحد عوامل شعبية قنديل، كما يُنبّه الباحث في كتابه، فأغنيات مثل: “أبو سمرة السكّرة” و”جميل وأسمر”، راجت في خمسينيات القرن الماضي بشكل كبير، ومهّدت لـ”الفترة الذهبية” في مسيرته خلال عقد الستينيات. مع ذلك، فإنّ محمد عبد الوهاب لم يُلحِّن له أيّ عمل، وربّما يعود ذلك – حسب ما أورد الباحث في الفصل الثالث “رحلة مع الكبار” – إلى افتتان موسيقار الأجيال بأصوات أكثر حداثية، مثل عبد الحليم ونجاة الصغيرة ووردة لاحقاً.

“قنديل في عيون المُلحّنين والنقّاد”، هو عنوان الفصل الرابع. وبعيداً عن آراء الإطراء أو الاستحسان التي أدلت بها شخصيات فنّية بارزة، كالملحّن رياض السنباطي والمُخرج كمال عطية والناقد سليم سحّاب، الذي يُفرد الكتاب رأيَه العِلمي بشكل موسّع، إضافةً إلى نقّاد آخرين، يستوقفنا رأي نقدي صرّح به المُلحّن كمال الطويل، الذي رأى صوت قنديل “بلدياً”، في حين أنّ “الأغاني العاطفية عايزة أداء شيك”. ومن هنا، يأتي التساؤل الذي طرحه المؤلّف في الفصل الخامس؛ “ألوان من الحياة”: هل كان قنديل مغنّياً شعبياً؟ وكيف كان يَنظر هو إلى نفسه؟ يُخبرنا مُحب جميل بأنّ ذلك ما حاول محمّد قنديل، طيلة حياته، ألّا يُثبتَه على مسيرته، رغم أدائه هذا اللون.

أمّا الجانب التراجيدي في الكتاب، فيحتفظ به الفصل السادس والأخير؛ “حكايات أخيرة عن العزلة”، والذي يروي فصولاً من حال الفنّان العربي في سنوات حياته الأخيرة، حديثٌ عن تكريمات متأخّرة أو مفوَّتة، عن مرض وإنهاك وابتعاد عن الوسط الفني، وتقنيات حديثة (نتحدّث هنا عن الفيديو كليب) باتت تُزاحِم أسلوباً تقليدياً، وتُزيحه عن مكانته في وسائل الإعلام… وهكذا إلى أن رحل المغنّي عن عالمنا في الثامن من حزيران/ يونيو 2004.

بستّة فصول إذاً، بالإضافة إلى ملحق ثَبْت الأغاني والأعمال الإذاعية، يكتب محبّ جميل سيرة “ابن البلد” (1956) الفنّية. ورغم أنّ العمل توثيقيٌّ في مجمله، إلّا أنّ الاشتغال على البُعد التحليلي حاضرٌ فيه، أيضاً، كما أنّه التفاتة لا بدّ منها – على قلّة الوثائق، ربّما – إلى فنّان يُعدّ من الجيل الذي أسّس لصلة وصل بين شكلين من الأغنية العربية في القرن العشرين، يُمكن أن نُسمّي الشكل الأول منها “الرائدة” نسبةً إلى جيل الروّاد، والثاني “الأغنية المعاصرة”، وهي التي تُؤدَّى اليوم.

(العرب الجديد)