محمد زعل السلوم
شاعر وكاتب ومترجم سوري له أكثر من 18 كتابا مطبوعا بين الشعر والرواية والدراسات
مجلة أوراق- العدد 17-18
أوراق الملف
كان تكليفي من قبل إدارة جريدة أوراق في رابطة الكتاب السوريين بتقديم موضوع أختاره عن الجولان بمثابة جائزة عظيمة في الذكرى الخامسة والخمسين من تسليم الجولان. ربما لأنني جولاني باحث في التاريخ الجولاني وربما لأنني أبحث عن جولاني الخاص وجولان السوريين.
ربما لأن قراءتي للجولان عاطفية أكثر بل وأكثر حميمية فذات مرة طلبت من صديق تركي متخصص بالوثائق العثمانية البحث في عدد من الأسماء الجولانية التي أعرفها كما أعرف نفسي لأجده يستخرج لي أسماء من شرق وشمال وجنوب سوريا، فاستنتجت ربما كنوع من النرجسية وربما كنظرة واقعية متمسكاً بمَثل والدي رحمه الله والذي أحفظه عنه “أقتل الأرض بباخنها” بمعنى أهل مكة أعرف بشعابها.
لذلك فسأقرأ جولاني على طريقتي والتي ربما تختلف حتى عن أقرب المناطق لها وهي تتوسط بلاد الشام، فقراءة الجولان بتنوعه الديموغرافي والاثني والطائفي مثير وجاذب بشكل يستحق الكثير من الدراسات والأبحاث وإن حاول كيان الاحتلال الإسرائيلي ونظام الأسد إظهار أن الجولان أرض بلا شعب، وهو في الحقيقة تاريخ عميق ومتجذر لا يهدأ، بل هو يغلي على مدى قرون طويلة بلا توقف.
جولاني الخاص بي هذا أقرأه بطريقة مختلفة عن ابن دمشق وريفها ودرعا والحولة وصفد وجبل عامل وشمالي الأردن، أقرأه برجاله ونسائه وأطفاله وشيوخه، أقرأ الجولان بليالي السمر الطويلة في تجمعاتنا تجمعات النازحين أو عشوائيات البعث كما لقبها الدكتور إياس غالب الرشيد، باجتماعاتنا بالصلحات التي كان يقوم بها والدي وقبله جدي، بولائم الضيوف وفوارد الأعراس والجنائز، بالمكتبات التي كانت تحترق شيئاً فشيئاً عندما نفقد ابن جولان حقيقي عاش تلك البلاد وتنفسها قبل أن ينزح لمكان غير مكانه وأرض غير أرضه وحتى يُدفن في بقعة غير بقعته. كم كنت أندم على عدم توفر الكاميرات آنذاك والتسجيل لتلك الأصوات التي كانت تملؤ دواويننا بروح القهوة والهال والتغني بالحاضر الغائب في ذاكرتنا أي الجولان. لم أكن أنتمي فحسب لقرية أبي وجدي وأقاربي مويسة، بل كنت أسمع أصوات الحمة وفيق ومجدل شمس وبريقة والخشنية والرزانية والبطيحة وواسط والدلوة وقرحتا والغادرية والعليقة والرفيد وصيدا الجولان، كنت أنصت بكامل وجداني وروحي لتلك الأرواح العظيمة لتلك البهجة التي ترتسم على عيونهم وشفاههم وهم يتلذذون بنطق اسم وطنهم المقدس، بل وكيف يضفون طابع وهالة القدسية على ذكرياتهم وكأنهم يفتحون قلوبهم للحياة ويشربون ماء وطنهم، تلك اللحظة بالذات التي يذكرون اسم الجولان فيها، ليقولوا لي وهم يتحسرون “ليتك لحقتها، لشعرت وعرفت قيمة ما نقول وما نصف”، كنت في الحقيقة اغبطهم على عمق ذاك الانتماء، وقد حفرت وجوههم وأيديهم آثار الزمن حتى كانوا وهم يتغنون بالهابانيرا خاصتهم أن صحتهم اكتسبوها من بلادهم لا من أرض التعثير والجحاوير ونهر قليط دمشق. حتى دمشق لم يحبوها وقد عوملوا فيها معاملة الغرباء المتطفلين، فيما تمعّن النظام تهميشهم ما استطاع لذلك سبيلا. لكنها الجولان التي رسمت عليها الصهيونية منذ تأسيسها للاستيلاء عليها وعقدت عشرات المؤتمرات للوصول لقمة جبل الشيخ فيها وعلى مدار حوالي القرن من الزمن قبل تسلم مفاتيحها من الخائن الكبير حافظ الأسد.
ربما لأني جولاني، أشعر بمرارة من عاشوا الجولان وأشعر بمرارة من ماتوا وهم ينهضون كل صباح ليقولوا صباحك جولان وكأنه يقول اليوم يوم خير وتصبحون على جولان وكأن أجمل الأحلام الجلوس تحت شجرة تعتلي تلة جولانية، كانت صدورهم تلهج باسم الجولان فتسمع المسنين يقولون “تذكر أيام البلاد”، “بايام البلاد كان كيت وكيت”، “تذكر الناعورة وشلون كانت النسوان تروي لجانا الجيش واحتل تلولنا وحط حارس وعسكري عكل نبعة ليهججون الناس” “تذكر الجيش شلون قوّم الأخ على أخوه وصارت الناس تدعي الله يكسركم يا خونة” “تذكر شلون الجيش عوّفنا بلادنا وجماعة بعصية بعصية”، نعم لقد عافوا بلادهم منذ حكم البعث عام 1963، وهو يفرض على الناس أحكامه العرفية بل كان عسكري يسوق قرية برجالها ونسائها لمعتقل جماعي. كانت نية البعث واضحة من بداياتها وهي “تسليم الجولان” كيف لا والبعث في منطلقاته تتقاطع مع الصهيونية وحتى منظريه ومفكريه اليساريين من الغرب هم ذاتهم منظري الصهيونية ومنطلقاته الفكرية التي لا يمكن بلعها حتى مع كأس ماء من مياه طبرية، بل مجرد عصيدة لا يمكن هضمها وتلبك معوي لا يمكن استيعابه.
هذا البعث الآثم سلم الجولان حتى أحد كلابه بُعيد الهزيمة ونكسة حزيران قالها بفمه الملآن حتى لو أخذوا دير الزور المهم يبقى البعث، هذا الفصيل السافل والفاشل تاريخياً والأكثر إجراماً وعربدة، وحسب المنطق المنهجي عليه السقوط الذاتي، وهو جالب الدمار لسوريا والعالم العربي.
نعم جولاني عندما أقرأه فسأقرأه بأحاديث أبنائه الشرعيين ومالكي أراضيه الحقيقيين، من حفروا ترابه وزرعوا أرضه وانتظروا فصول خيراته وتغنوا به في أعراسهم وعاشوا برده وحرّه، وتزوجوا وأنجبوا فيه وعمروا منازلهم واستقروا على أرضه لقرون.
أقرأ الجولان بزغاريد نسائه التي لازالت لليوم ربما تستوطن وديانه ونداه وضبابه الذي يحمل أرواح أهله، جولاني أنا هو ضحكات أطفاله وعصي شيوخه وهي تنقر حجارته، تلامذة مدارسه وهم يقطعون طرقات الطين للوصول للقنيطرة لاستكمال دراساتهم والتفوق على أنفسهم وطموحاتهم تفوق خيالات العالم.
أقرأ الجولان بشعبه الذي عاش لياليه ونهاراته، رياحه وقطع وديانه وتلاله، بسينما القنيطرة حاضرة الجولان وحكاية والدي عن ذاك الفيلم الهندي نهاية الخمسينات لماسح أحذية يتحول لبطل أسطوري، لرقصات الشركس ودبكات البدو والتركمان ومجوز النصيرية وهيبة الدروز وبساطة الفلاحين وتواضع الملاكين، لصراعاته بين التقليديين والشباب الجديد المتعلم المثقف الراغب بمجتمع مدني جديد، بصراعات أحزابه، بتأثره بالانقلابات العسكرية بدمشق، بمقاومته لجيوش غورو وخضوع دمشق للانتداب الفرنسي بعد ميسلون، بهجيج ابنائه ونزوحهم مراراً وتكراراً، لكنهم كانوا يعودون، لمحورية الجولان في الحرب العالمية الثانية ومحور الهجوم المضاد للديغوليين لاكتساح الفيشيين على خط القنيطرة دمشق، الجولان الذي دافع عنه جوفنيل المندوب السامي الفرنسي ضد الوكالة اليهودية وطالب اليهود بالاستثمار الزراعي شرق الفرات في سوريا والابتعاد عن الجولان، الجولان الذي تصارع عليه الفرنسيون والانكليز وتنازعوا حدوده فيما كانت مستوطنة الدان في تل القاضي مركز الاستخبارات الصهيونية لمراقبة حياة أبناء الجولان و كانت تخشى أبناء الجولان بالمقابل امبراطوريتين هما الفرنسيين والانكليز وتحسب حسابهم، الجولان هذا الذي تم تفكيك بنيته الاجتماعية على مراحل حتى النزوح الكبير عام 67، وتهميش مجتمعاته بحيث لا تقوم لهم قائمة ولا يفكرون حتى بتأسيس مقاومة، وإشغالهم بإعمار منازلهم حول دمشق وريفها ولف بلوك كما يقول النازحين وتصبح عشوائياتهم قد تجاوزت الخمسين في أربع محافظات سورية.
هذا الجولان المشتت والمقزّم وهو يتسع سوريا بأكملها بخيراته وعطاء أهله، عدا قيمته الزراعية والسياحية والمائية والتاريخية والأثرية وموقعه الجغرافي الاستراتيجي في قلب بلاد الشام. عدا كل هذا فثروته الأساسية هو الانسان السوري فيه والذي أكد على مر العصور وحدته وتلاحمه وهو بكل بساطة سوريا المصغرة، ففيه كل الطوائف والإثنيات على بقعته الصغيرة التي لا تشكل أكثر من واحد بالمائة من المساحة الجغرافية السورية. إلا أنه نموذجي لأقصى الحدود للتنوع والتسامح والنجاح لوطن مصغر عن وطن كبير، فمن أهلي في الجولان عرفت قيمة الجولان الحقيقية بقيمة أهله وهم الذين اعتادوا الظلم، إلا أنهم أسسوا بدمشق وريفها ودرعا وحمص نموذج النازح الناجح المهجر الذي بتعب ذراعه صنع منزله ودرس وتعلم وتفوق على نفسه وإمكاناته وهو المتأخر اقتصادياً عن بقية السوريين نصف قرن على الأقل لخسارته لأرضه، وبعد الثورة هذا الجولاني نموذج يحتذى لبقية اللاجئين من أبناء وطنه، للإصرار والعزيمة وروح التمرد والتوق للحرية، فلم يكن غريباً عليه أن يرتكب النظام بتجمعاته أكبر المجازر السورية في جديدة الفضل وعرطوز والذيابية والحسينية والحجر الأسود وحي التضامن وغيرها الكثير الكثير من المجازر.
راهن وايزمن مؤسس الكيان الصهيوني على نسيان الأبناء مآسي آبائهم وبالتالي نسيان أرضهم، الحقيقة أن رهانه خاسر، فأنا على سبيل المثال ومنذ 2010 اطلعت على ما لا يَقلُّ عن عشرين ألف وثيقة لدى أهلي وناسي بعضها يعود للعهد العثماني ووثقت تاريخي وتاريخ وطني المصغر ولازلت أتمتع بروح الكبار الذين رحلوا وكذلك سأعلم جيل الثورة معنى الجولان في القلب السوري.