حتى وقت قصير من هذا اليوم، الذي بلغ فيه عدد اللاجئين الأوكرانيين إلى دول الجوار ما يقرب من مليوني لاجئ في ظرف أسبوعين بسبب الحرب المندلعة في الشرق الأوروبي، اتسمت الذهنية الأوروبية بالتعامل مع قضايا الهجرة واللجوء على أنها مشكلة اجتماعية واقتصادية قادمة من الأقاصي البعيدة في الشرق، من “الشرق الأوسط” والاتجاهات الأسيوية والأفريقية البعيدة، أناس غرباء يطرقون الأبواب على حد تفصيل عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان الذي أفرد لهذه القضية كتاباً صغيراً ناقش فيه كيف كان هؤلاء “الضيوف غير المدعوين” دائمًا غرباء، بما يفرضه هؤلاء الغرباء من إثارة للخوف والقلق على وجه التحديد لأنهم غير معروفين ببساطة.
لكن على الكفة الثانية من الميزان، فقد تداعت كل دول الاتحاد الأوروبي إلى استقبال “غير مشروط” للاجئين الأوكرانيين، في مشهد يبدو لوهلته الأولى يرسم ملمحاً من ملامح إنسانية ظلّت غائبة في أوقات الحروب والأزمات الإنسانية الكبرى، ولأن الكثير من صور وتقارير عرضتها شاشات تلفزة عالمية هزت أبدان المشاهدين حول تجبّر موظفي حدود ورجال أمن إضافة إلى صحافيين على الحدود باللاجئين السوريين والعراقيين والأفغان، أثارت تساؤلات عميقة حول قدرة هذه الدول والمجتمعات على الكيل بأكثر من مكيال في أكثر لحظات الإنسانية غموضاً وقتامة وبؤساً.
وبالعودة إلى موجات اللاجئين الاولى، أو تلك التي اعتدنا مراقبة ردود الأفعال المشينة حولها، فقد أشار إليها باومان بأنها أنذرت بانهيار أسلوب الحياة في مجتمعات أوروبا بالاقتباس عن مراقبين وسياسيين هناك. مشيراً في كتابه “غرباء على بابنا” إلى أن هذا الجدل المقلق أدى إلى نشوء “ذعر أخلاقي حقيقي” لديهم، موضحاً كيف استغل السياسيون هذه المخاوف التي انتشرت على نطاق واسع، وما ترتب عليها من سياسة للفصل المتبادل للحيلولة دون انخراط مريح لهؤلاء في تلك المجتمعات، مؤكداً أن بناء الجدران بدلاً من الجسور، هو سياسة مضللة؛ قد تجلب بعض الطمأنينة على المدى القصير ولكن محكوم عليها بالفشل على المدى الطويل.
اقتراح باومان الذي توّج هذا الكتاب، كان في أهمية أن يتم الاستيعاب الحقيقي لهؤلاء نظراً لما تنطوي عليه هذه العملية من إضافة جوانب ثقافية يفتقدها المجتمع الأوروبي نظراً للاختلاف الهوياتي عن اللاجئين.
بدت مداخلة باومان هذه في حينها، ومن قبله حنة أرندت من خلال تعبير “بلا عالم” لتبيان الظروف التي يجد فيها المرء نفسه في عالم لا يهتم به كإنسان، “كتجديف عكس التيار”، إذ لم تتوقف دول الغرب، وعلى مدار تاريخها الطويل من امتصاص حركة اللاجئين عبر مسارات ضيقة إلى مجتمعاتها وقطاعاتها الاقتصادية، دون تلك الأسئلة المحمولة على جناح الريبة والخوف والشك من القادمين الذين يحملون بشرة داكنة وعقائد تحمل في طياتها خطراً قادماً من الشرق.لم يخف هؤلاء، بالكثير من الوقاحة، وباستدخالات خطابات بائدة حول نقاء العرق الأوروبي واصطفاءات ثقافته وتفوقها من التجبر بهذه الحركة التي لولا حروب دامية وأزمات طاحنة دعمتها وحرّكت مياهها دول من هناك لما رأوا وجوههم أصلاً.
لكن ومع انفجار أزمة إنسانية مستجدة في أوروبا هذه الأيام خلفتها حرب ما زالت تدور رحاها في كل مكان، أظهرت دول الاتحاد الأوروبي ودول جواره وأميركا على حد سواء، استجابة فائقة السرعة، ظنّت البشرية أنها لم تعد موجودة، إذ لم يشهد عالمنا الحديث، وتحديدا بُعيد تقسيمته الجديدة التي تسيدتها أميركا كقطب أُحادي للعالم، رزمة عقوبات على المعتدي فاقت التصورات، يقول مراقبون إنها استعاضت بالعقوبات العريضة عن سيناريو حرب شاملة تقترب في مخيالها إلى الحرب العالمية الثالثة. ناهيك عما بات يعرف بفانتازيا عقوبات طالت دويستوفيسكي في قبره، عقوبات لم يعرفها العالم من قبل، من حظر عريض لكل منتج “روسي” وحظر أي تعاون ثقافي او اقتصادي أو حتى طبّي مع الروس، بالإضافة إلى سيل بيانات صحافية تؤكد فيها دول عديدة في اوروبا استعدادها الكامل لاستقبال اللاجئين وتهيئة ظروف إقامتهم.
لم يتوقف الكيل بمكيالين، في معرض الحديث عن الحرب واللجوء وأهوالهما، عند هذه النقطة فقط، لكن ازدواجية خطابات الحرب هذه استعادت برشاقة مثيرة للاستغراب أحاديث عن شرعية المقاومة وإرسال السلاح واستدعاء مقاتلين أجانب، وما انطوى على هذه الخطابات من إعلاء شأن ذلك كله، وتستدعي من جملة ما تستدعي الكثير من عبارات الأمم المتحدة، التي تملّكنا شك بشأن وجودها إلى هذا الوقت، والتي تعطي شرعية الفعل المقاوم للغزو وتجرّم من جملة ما تجرم احتلال الارض والاستيلاء عليها ونقل ملكيتها، في حين تحرّم المنابر إياها ذلك على شعوب تعاني منذ أكثر من سبعة عقود جرائم الغزو واحتلال الأرض والمجزرة بكامل ألوانها، ناهيك عن لجوء سكانها الأصلانيين إلى مخيمات ما زالت قائمة حتى الآن، وتحرم الاستفادة من دعم حتى وإن كان بالكلام والموقف السياسي.
ولعل اللجوء، وهو تجربة إنسانية وبالغة القسوة في كل تجلياتها وسياقاتها، بما تنطوي عليه من انتزاع قسري من الوطن، وانغماس قهري في غيره، سواء في موجاته الأولى التي يتساءل أصحابها مندهشين عن حقيقة ما يجري هذه الأيام، أو روادها البيض الجدد، وهم يختبرون منذهلين أيضاً، مرارة ما يمرّون به وكأنهم يعيشون كابوساً لا يعرف أحد منهم متى سينتهي، مرة واحدة وإلى الأبد.
(العربي الجديد)