أعتقد أن معظم المهتمين بالآداب والفنون، وربما غير المهتمين أيضا، يملكون رفوفا عديدة مليئة بالكتب، غالبا موضوعة في مكان علني، في بيوتهم، يراه الزائرون للبيت، يتأملونه بعيون ربما كانت متقدة وحادة وتلتهم العناوين التي تقع في طريق النظر، أو خاملة ومستغربة، ولا ترسم أي علاقة حقد أو غيرة.
تقليد المكتبات المنزلية، قديم جدا، إنه جزء من تراث الشعوب كلها، تقريبا، وليست العربية فقط، وبهذا التقليد الذي استمر زمنا طويلا وما زال موجودا إلى حد ما، استطعنا المحافظة على حرف الكتابة، والنشر، بل واتسعنا فيها أيضا، وصار ثمة تخصص في ذلك المجال عند من ينشرون للكتاب، فهناك من ينشر الأدب بكل ضروبه، ومن ينشر التراث، والمخطوطات وأدب الرحلات، والتراجم المختلفة، ودائما ما تلاحظ في زيارتك لمعارض الكتب، وجود ذلك النشاط المتعدد.
وأذكر أنني عثرت مرة على شيخ مسن، تخصص في بيع الجرائد القديمة، الصادرة في حقب بعيدة في مصر، والتي كانت كثيرة ومرتبة، ويعثر فيها الباحثون في التاريخ السياسي والاجتماعي، على ما يريدون، ولأنني من هواة التاريخ، وأدب الرحلات إلى حد ما، ظللت سنوات أتتبع دورا معينة تملك ذلك الوقود العظيم الذي أستفيد منه في كتابتي، وصار مالكوها يعرفونني، ويمدونني بالجديد حتى من دون أن أسأل.
أعود للمكتبات المنزلية، وأشعر بالدهشة من تراكم الكتب عند كثيرين، بعضها ما يزال داخل كيس البلاستيك، لم يتم تصفحه، لكن حين أجلس وأتأمل ما اقتنيته من كتب طوال السنوات الماضية، وكيف أن الكتب تتراكم في بيتي، تزاحم الأثاث أنفاسه، والخطوات تنقلها، وتنحني بعض الرفوف التي تحملها من ثقلها، أعتذر لاستغرابي، خاصة حين أجلس في يوم إجازة، أنبش في الكتب، أنزلها من رفوفها، وأتصفح بعضها، وأجد بينها كتبا سمعت بها كثيرا، وظللت أتمنى قراءتها، ولم أكن أعلم أنها عندي، وأخرى بحثت عنها في الأسواق المغبرة، وأكشاك الكتب القديمة، في المدن التي كنت أزورها، ولم أعثر عليها، بينما كانت على بعد أمتار مني، على رف مغبر، أو داخل خزانة، بصحبة عشرات غيرها. وكان هناك كتاب لوينستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني القديم، اسمه «حرب النهر»، عن تاريخ السودان، في زمن الثورة المهدية، كتبه أيام أن كان مراسلا حربيا في السودان، في تلك الفترة، وقرأت فقرات بديعة منه، أدهشتني. تلك الأيام كنت أكتب نصي «توترات القبطي»، وكنت بحاجة لتفاصيل تاريخية عن الحياة اليومية، والدأب الجهادي المصوب نحو الاستعمار، وكيف يمكن لمقاتل فقير رث، لا يملك غير حربة أن يتصدى لمدفع استعماري خطر.
أذكر أنني كنت أسأل في معارض الكتب التي أصادفها، ثم سافرت الى السودان وبحثت في الدار السودانية للكتب التي تعد حتى الآن أكبر دار تتعامل مع الكتب، والدار الوحيدة التي ستعثر فيها على الجديد والقديم، يمرحان معا في أماكن مرتبة، بعناية، ومراقبة بواسطة موظفين يلبون الأسئلة بكل بشاشة. وأظن عبد الرحيم مكاوي الذي رحل منذ أيام، أجاد فعلا في حرفته، وأسعدنا بذلك الصرح المتألق الفريد، وقطعا سنفتقد وجوده المؤثر.
في الدار السودانية لم يكن الكتاب موجودا، تقول الموظفة إنه نفد منذ فترة، ولم تعاد طباعته بعد، ويقول موظف آخر غالبا تجد نسخة منه عند ناصر، بائع الكتب القديمة المخضرم في سوق أمدرمان.
وفي يوم صيفي حار، تحت وطأة الزحام والعرق، طرقت كشك ناصر الذي أتعرف إليه لأول مرة، والرجل الصبور المتوسط الطول، والمثقف جدا بحكم وجوده وسط تلك الكنوز، أخبرني بوجود كتب غيره، مهمة أيضا، وأحضر لي كتبا في تاريخ السودان وجغرافيته، ومعماره وإرثه وغناء قبائله، وعاداتهم ما لم أكن سمعت به. ولا أنكر أنني استفدت مما قدمه لي فعلا في كتابات عديدة، لاحقة، لكن «حرب النهر» لوينستون تشرشل لم يكن موجودا، وأيضا لا توجد نسخ إلكترونية مقرصنة منه، كأنه ملّ وجوده في حياة القراء، فانزوى في ركن بعيد، أو كأنه لم يكتب قط، وينتظر تشرشل جديدا ليكتبه، ومترجما جديدا لينقله للعربية. واضطررت في تلك الفترة أن أكتب ما أردته في نص توترات القبطي، مستعينا بخيال بحت، أملكه وأسخره لخدمة نصوصي، حين تنضب جداول البحث، أو تعجز الأدوات عن الوصول إلى بغية ما.
منذ عامين، وفي يوم جمعة، لم أكن أعمل فيه، بعثرت مجموعة كبيرة من كتبي كانت في عدد من الخزانات في مكتبي، وكنت لدهشتي الشديدة أمسك بكتاب حرب النهر، ذلك الكنز الذي طاردته في كل الأماكن المتاحة ولم أعثر عليه، بينما كان على بعد مترين مني، أتحاوم حوله، أجلس قريبا منه وأنا أقرأ أو أكتب، وأيضا أسب غيابه، وهو في الخزانة يستمع إلى ذلك السخط، ولم أقرأه أبدا، فلم أكن بحاجة إليه.
الآن صرت أعود للمكتبة المنزلية، كلما أردت كتابا معينا، أو موضوعا أتعشم وجود فقرات عنه في كتاب ما، وفي كثير من الأحيان أعثر على ما أريد، وذلك بالطبع لأننا في زخم شهوتنا لاقتناء الكتب، خاصة في المعارض السنوية، أو حين نكون في بلاد مترفة بالكتب مثل القاهرة وبيروت، نشتري كثيرا جدا، ندفع مئات أو حتى آلاف الدولارات لنشتري الكتب، ثم نخزنها لعدم وجود وقت للاطلاع عليها مع الأمل أن يتوفر وقت ذات يوم، وغالبا لن يتوفر حتى يرحل القارئ المثقل بأعباء الحياة الأخرى. هذا ببساطة ما فكرت فيه، وفي كل مرة أجد كتبا لم أقرأها واشتريتها منذ زمن، أقول لنفسي، لن أقتني الكتب مرة أخرى، لكني أعود وأقتنيها، وهكذا.
إنه شيء أشبه بالمرض، وهناك حالات متقدمة منه، مثل أولئك الذين يشترون الكتاب نفسه بطبعاته المتعددة، وبترجماته المتعددة، إن كان ترجم مرات عدة، مثلا ستجد رواية ماركيز «مئة عام من العزلة» وقد تمّ تعريبها بواسطة ثلاثة مترجمين كما أذكر، وهناك من اقتنى تلك التراجم، ومستعد لاقتناء غيرها، لو ترجمت من جديد.
*القدس العربي