أفراح الهندال: حدائقهن المعلقة”.. رواية الإنسان تحت أنقاض الانهزامات العربية

0

عتبة أولى.. ولوج الحدائق
لا يمكن دخول رواية الأديبة الكويتية د.نجمة إدريس “حدائقهن المعلقة” قفزاً، ومن دون المرور بأسوارها وبوابتها لتكوين تصوّر يستوعب عالم الرواية بجزيئياته وتفاصيله، عنوان الرواية الآسر يشكل العتبة الأولى بجذوره اللغوية والدلالية، ويتضافر بنمو أحداثها وتشكلات شخصياتها حتى النهاية التي تتركنا أمام عمل لا يقل جمالاً عن أعجوبة “حدائق بابل المعلقة”، والتي تفردت بكونها “أسطورة” من بين عجائب الدنيا.
وصف تكوين حدائق بابل بـ”زراعة الأشجار على الرواق المسقوف” لتنمو عمودية، جاء متواترا مع نسيج استدعاءات الذاكرة لبطلتيّ الرواية الرئيستين وهما يتبادلان ذكريات الغربة والوطن، وهموم الذات وعوالقها بالآخرين، بممكنات محدودة – كأشجار حدائق بابل- رغم شساعة سقف المكان والزمان.

الشخصيات أولاً
لقراءة علامات رؤية الكاتبة ما بين العنوان وعالم الرواية؛ نحدد الشخصيات الرئيسية المحركة للعمل: سهام من الأردن، منال من الكويت، وشخصيات ترد ضمن مراسلاتهما وتنمو خلال المبنى السردي :سميحة ونجوى ويوسف من مصر، أروى من اليمن، وهي الشخصيات الذي بقيت حتى آخر لقطة في الرواية.
أما الشخصيات الثانوية التي تكمل المعمار الفني كالفتاة آية من مصر، صفاء من العراق، فايزة من فلسطين، هشام من سوريا، ياسر من العراق، عبدالمنعم من مصر، سلمان من السعودية، نجيب من الأردن، لبنى، جنى، أبو إياد، مليكة ، وليام، بشير، شاليمار البصارة، وغيرهم، الرواية تزخر بالشخصيات وتحتاج التنبه إليها.

نساء بمعزل عن النسوية
قد يبدو عنوان “حدائقهن المعلقة” للقارئ ذي النزوع التقليدي مكشوفاً من باب أن “الكتاب واضح من عنوانه”؛ فتدغدغ “نون النسوة” أفق توقعاته مع معطيات “الحدائق” وصورتها الذهنية المليئة بالروائح والألوان، فيصنف الرواية استباقيا في إطار التيار النسوي، والذي يكاد يكون بعيداً تماماً رغم توفر المعطيات الأولية في سيرة كل شخصية؛ لكن رصدها كحكايات متفرقة، ورسم ظروفها المكانية الأولى “البيئة” ونقلات حياتها وعودتها إلى “نقطة الصفر” من دون تحولات “ثائرة” تذكر ؛ يفند ضرورة التصنيف، فالأدب النسوي لا يعدّ كذلك ما لم تُعِد الكاتبة صوغ تلك السير المتشظية بتمثلات تخييلية تخرجهن من واقعهن المقيد بمعايير المجتمع واعتباراته التقليدية، لتقرر لكل منهن خلاصاً ثائرا ومتمردا يحقق التغيير لتبني رؤى التيار النسوي الحديث.

“نون” السر الإنساني
تكمن القيمة الأدبية لهذا العمل الروائي في تعبيره عن الإنسان مجرداً، فبنائية النص الأنثوي التي تضمنت جنس الكاتبة، العنوان المؤنث وتصدّر الشخصيات لا تشكل صبغة نسوية بقدر ما تنفتح على الكيان الإنساني ذاته، فلم تنغلق على قضايا المرأة بل طرحت أسئلة الإنسان الوجودية، في ظل تأكيد حاجة الجنسين إلى بعضهما للتكامل وبناء الحياة، بدءا من منال التي كبرت كعلامة استفهام أو كعضو مبتور بعد موت أخيها التوأم “كمال”، مروراً بثنائيات العلاقات جميعا.
والمخاتلة بين رمزية “الحدائق المعلقة” وتكوينها الملغز وتجذرها العميق وامتدادها معلقة بين السماء والأرض بشكل عمودي يبهر الأنظار بينما قُيّدت طبيعته الفطرية في الانتشار والنمو والحرية؛ هو ما يوازي نموّ “السؤال الوجودي” الذي “ظل معلقا في الهواء”، وظل مفتوحاً بعد نهاية العمل الأدبي.

الغلاف ..
توثقت العتبات الأولى للرواية بعنوانه وصورة الغلاف الذي برزت فيه تماثيل ودمى وإكسسوارات ، وكأنها ركنٌ في غرفة فتاة تواشجت بينها والجدار باهت اللون ذاكرة تمثل صفحة قديمة، بينما تدلت أعلاها ورقة شجيرة تكاد تكون ظلاًّ، وهي مما نلتقط في الرواية أقرب إلى شقة سهام في لندن، حين كانت تستذكر الماضي بعمر الخامسة والستين وتستحضر وجوه الأصدقاء ومشاهد من ذاكرتها كما تقلب تلك القطع الأثرية، وهذا تناغم لا يخرج عن سياق العنوان.

المدخل.. ذاكرة حرة
في الصفحات الأولى يطل اقتباسان للكاتب الإيطالي أنطوني تابوكي أقتطع منهما : “لا يمكن كتابة الحياة”، و”أحب الخيارات التي تمنحنا إياها الذاكرة… حرية أن نعيد اختراع الحياة”.
والكاتبة بذلك تؤكد على حضور الذاكرة أساساً لعملها الروائي، بينما تشير إلى نشوة اختراع عالمها التخييلي لإعادة تدوير الأحداث بالمعاني التي خلصت إليها من تلك التجارب الكامنة/الكاملة.
والإشارة إلى “الذاكرة” في هذين الاقتباسين؛ أوقع القارئ في فخاخ العتبات؛ فتلك الحدائق.. معلقة، والعالم.. سريّ، والذاكرة لا تخلو من الشخصيات والأحداث المتخيلة، و”أي شبه بينها والواقع صدفة محضة” كما نبهت في الصفحة التالية.

تقنيات الكتابة
تكونت الفكرة الكلية للبناء السردي عبر تقنيتين؛ الأولى بـ”التراسل الإلكتروني” ليدخل القارئ مباشرة إلى الفضاء الأثيري بين صديقتين من خلال ست رسائل في الرواية، والثانية فضاء مسرح الأحداث المستدعاة من الذاكرة للسارد بـ”ضمير الغائب”، يتولاه الراوي العليم الذي كان على تماس تام مع بواطن أغلب الشخصيات، بلغة شعرية مكثفة.
وبهذا يجد القارئ نفسه أمام رسالة حديثة تتكشف بعدها أحداث حصلت في فترة زمنية بين الثمانينات والتسعينات يرى ويسمع ويكتشف من دون أن يتوه عن وجوده في ذاكرة مشتركة بين الاثنتين، وبلا أدنى علاقة بالكاتبة نفسها، فتحققت المعادلة الذكية التي تجعل ضمير الغائب “مادة للإبداع لا ثمرته”، أي أنه “ليس ضميراً متحولا عن “أنا” الكاتب، بل إنه عنصر أصلي وخام من عناصر الرواية”.

انتماءات ومشارب
تبدو شخوص الرواية متعددة المشارب والانتماءات، إلا أنها تشكل صراعاتهم المتقاربة، التقت الفتيات في “بارك هاوس” سكن الطالبات العربيات الشبيه بهيئة الأمم المتحدة، لسعته ولتعدد أعراق ساكنيه، وفي شقة سهام الشبيهة “بجامعة الدول العربية، ومن هذين المكانين والنادي الثقافي العربي، والمتاحف والمقاهي تشكلت علاقاتهم.

الأحداث معادل موضوعي
بدأت الرواية من الزمن الحالي، ثم قامت ذكريات الغائبين من زمن التحولات العربية الكبرى، فبدا رسم الأحداث والعلاقات متصلا بهموم الوطن الموزعة على بلدانهم العربية، ثم صارت مصيرا واحدا وهموما مشتركة في لندن، يتبدى ذلك في الفوران القومي للحق الفلسطيني، مجزرتي صبرا وشاتيلا، مخيم عين الحلوة والعشوائيات، مأزق التطبيع مع إسرائيل، الجدل حول عبدالناصر والحقبة المليئة بالتناقضات، اغتيال ناجي العلي في لندن، ملاحقة الصحفيين والكتاب العرب، الصدع الذي نخر الجسد العربي باحتلال الكويت وأودى بالأحلام، وملامح سكة القطار بين البلدان العربية ولم يكتمل، وفي المقابل ما يظهر من عنصرية تلاحق لون بشرتهم ولغتهم، المستعمر الذي يتباهى بتاريخه في المتاحف وفي الممارسات اليومية.
أما تفاصيل الشخصيات كطالبة العلم ، الكاتبة، السياسي ، المحاسبة، التاجر، الصحافية وغيرهم فهي بنىً تحددت إمكانياتها بمصادفات شحيحة، وهي المعادل الموضوعي لما سبق؛ فلم يتحقق حلم الزواج “الوحدة العربية” بسبب زيف الشعارات والصدمات، ولا النجاح في مشروع الاستقرار بسبب العنصرية وشح الإمكانيات “الاغتراب”، ولم يتمكنوا من تمثّل معطيات قيم حقوق الإنسان والاعتراز بإمكانيات الفرد حين عادوا إلى أوطانهم “الانهزام العربي وجمود الموروث”، وهذا تبئير لقضايا الواقع الوطن العربي.


الأطلال.. حتمية عربية
وبقدر ما بدت “الصداقة” قيمةً أولى انتصرت لترمم خرابات العلاقات الإنسانية؛ بدت مشاريع الحب خاسرة لأولئك المغتربين بمواقفهم السلبية، المأزومة :
فمنال المسيان الكويتية التي أحبت الناشط السياسي والكاتب العراقي ياسر أعظمي تأسست عاطفتها “بالبناء المتأني المتماس مع الأسئلة الأولى عن الذات والآخر”، ولكن هذا التآلف والانسجام بين فتاة حالمة ورجل مهموم بقضايا وطنه انتهى باختفائه/اغتياله بسبب الطاغية نفسه الذي أمضّ قلب منال باجتياح وطنها، وأجهضت إثر أحداث تلك الفترة جنينها كما أجهضت الأحلام العربية للسلام والوفاق.
سهام التي احتوت يوسف في ضيقه فوجئت بدورها المحدود في قصة حب من طرف واحد، لتعود إلى تأمل مشاريع الزواج الأولى التقليدية في بلدها، المتماثلة مع مشروع سكة القطار غير المكتمل .
أروى اليمنية التي نشأت في لندن متحررة وثّابة وبسيطة، لاحقت حلمها إلى السعودية حيث حبيبها سلمان الذي فاجأها بالهامش الذي يريد، مع وجود أساس تقليدي ثابت في حياته بزوجة أولى من بيئته بالشكل المرضيّ عنه، لترفضه وتعود بالخيبة.
نجوى الكاتبة التي تأملت المساندة من أستاذها عبدالمنعم وفوجئت به واجماً محايداً في حفل توقيع إصدارها، لم يبدِ أدنى اهتمام حتى لتفسير هروبه آخر الأمسية… ما مثّل صدمة المثقف.
وكذلك بقية العلاقات، التي وظفت في الرواية لتُكسب القضايا العربية ملامحها الثقافية وصراعاتها ومصائرها من خلال الشخصيات، وجاءت الحوارات مليئة بنبرة العتاب والتساؤلات الوجودية عن الثابت والمتغير، الممكن والمحتمل.. بلا نتيجة تحمي مشاريع الوحدة والنهضة وبقية الأحلام العربية من السقوط.، فبقيت أطلالا في الذاكرة.. الموقف الحتمي العربي الأصيل!

ظلال أنطولوجية
“من أين أتيت؟ إلى أين أنا ذاهبة؟ وكيف سأقطع الطريق؟” أسئلة تكررت عند سهام التي تتذكر سقوطها في نهر العاصي طفلةً.. ثم كانت أكثر الصديقات وعياً وبصيرة، وآية التي عرفت أنها لم تكن ابنة رحم بل متبناة.
وتبدّت الأسئلة في سلوكيات آخرين كنجوى التي تركت حب الحياة والتبرج إلى التدين البسيط والتوجه الروحي، منال التي تكتشف أن “المصابيح محروقة” كلما حاولت إشعالها، وصولاً إلى حفلة “التكليف” والنساء المتلففات بالسواد والفتيات الوجلات خلف النوافذ في وطنها.. لتتحجب أو “تحتجب”، أروى التي تحجّ في رحلة وجدانية للقاء حبيبها، فترتطم بالخيبة وتفتح قلبها في صحن الحرم.. ولا أحاول ترسيخ الموضوع الأنطولوجي هنا، لكنها الظلال ..التي أحاطت بالجميع، ولم تكشفها أنوار.

ثيمة الموت والحياة
توالي الخيبات جعل الموت حلا وجوديا لعسر الحياة وضيقها؛ كما حصل لوالدة منال، ثم لوالدة ابتسام جارة منال التي أشعلت النيران في ثيابها بسبب القهر وماتت، ولبنى بعد المرض إثر أزماتها النفسية، وياسر الذي راح ضحية عبثية الحرب، نجيب الذي لم ينل قلب سهام في صغرهما فاختنق بقصائده واستحالت سرطاناً في حنجرته، شقيقها وائل الذي مات بجلطة دماغية تاركاً طفلين وأرملة.
ورغم الاشتغال في ثيمة الاغتراب الوجودي وسؤال الهوية، استبقت د.نجمة إدريس علامات النجاة، التي تمثلت في “أبناء الحياة”، الأطفال الذين ولدوا وكبروا، وغادروا وعادوا، وتعثروا ونجحوا بمعزل عن وصايا الآباء وعاطفة التملك عند الأمهات، فـ”اختياراتهم متاحة وحرياتهم مصونة” كما قالت منال في إحدى رسائلها، وكما بدت آية التي تمردت على واقع أمها بالتبني، واليتامى الذين سيواجهون صعوبة الحياة، ويحددون صورة المستقبل.

تحت الأنقاض
تمكنت الأديبة د.نجمة إدريس باقتدار من تحديد نقطتيّ استعادة من الحاضر إلى فترة الثمانينات، وهم كذلك أبناء مرحلة أسبق، لقراءة المشهد العربي طوال تلك السنوات بالمراجعة والنقد، فكشفت بذلك ما يقبع تحت أنقاض الانهزامات العربية وآثارها في الإنسان لا في الأوطان فقط، لتؤكد على ما مات فيه.. وما نجا، ما قاساه في محنة اغترابه الوجودي بسِيَرٍ لم تخلُ من التساؤلات والسخرية، والمآلات الحتمية عند الرضوخ والاستسلام؛ وما عليه أن يفعل للنجاة يستعين بالجانبين البيولوجي والروحي –الفص الأيمن والأيسر من المخ كما قالت منال بداية الرواية وما خَلُصَت إليه في نهايتها-؛ أي بالعِلم منقذاً وبالحُلم مَلاذاً .
الجدير بالذكر أن رواية “حدائقهن المعلقة” صادرة عن الآداب سنة 2019م، ومرشحة ضمن القائمة الطويلة لفرع الآداب بجائزة الشيخ زايد للكتاب التي أعلنت نوفمبر الماضي.

*ايلاف