غسان الجباعي، كاتب ومخرج مسرحي وروائي سوري ومعتقل سابق
مجلة أوراق- العدد 15
أوراق الملف
من المحزن والطريف أيضاً، أن تُشكل، في إدلب الخضراء، فرق مسرحية تخلو تماماً من النساء، وذلك بسبب هيمنة المدعو أبو محمد الجولاني (القائد الأعلى لما يسمى بحركة تحرير الشام) وسيطرة الإسلاميين والتطرف الديني، على مدينة عبد الصمد الكيالي “أحد رواد المسرح في إدلب”، والحقوقي الثائر إبراهيم هنانو، والأديب المناضل صاحب “المناديل البيض” مواهب الكيالي (أول رئيس لرابطة الكتاب السوريين 1951) والأديب الساخر الأشهر حسيب كيالي، وغيره من المبدعين أمثال: تاج الدين الموسى، خطيب بدلة، نجم الدين السمان، رياض سفلو، مروان فنري وغيرهم الكثير.
لقد ألصقت تهمة الإرهاب بهذه المدينة المسالمة وأهلها الطيبين، ظلماً وعدواناً، كما ألصقت بالسوريين وثورتهم، علماً أنهم، مثلهم مثل أي شعب آخر، حلموا بالحرية والكرامة والتغيير.. وأهالي إدلب، مثل أهالي المحافظات السورية الأخرى؛ ليسوا طائفيين ولا إرهابيين، كما يحلو للبعض أن يصنفهم، بل هم شعب عريق متحضر منفتح؛ يحب الحياة ويحلم بمستقبل أفضل لأجياله.
وقد عاش السوريون الكثير من النكبات والنكسات، واستطاعوا –في كل مرة- أن ينهضوا من رمادهم، كما نهضت الشعوب التي تعرضت للمحن والأهوال: فعندما استسلمت ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، كانت حطام بلاد وبقايا شعب، وكذلك اليابان وفيتنام وكوريا، وأغلب دول إفريقيا وأمريكا اللاتينية؛ بعضها تمكن من النهوض بسرعة، والبعض ما زال يحاول..
شعوب كاملة في أوروبا أصيبت بالإحباط والتمزق والانهيار التام، بسبب الحرب! خمسة ملايين أسير ومعتقل ألماني (في سيبيريا وحدها)، عشرة ملايين قتيل، عشرات ملايين الجرحى والمعوقين، منازل ألمانيا ومدنها العامرة سُوّيت بالأرض، قوات الحلفاء فككت مصانعها وسرقت آلاتها ودمرت بنيتها التحتية بشكل كامل. لم يبقَ فيها غير النساء والأطفال والشيوخ… ثم تلتها فترة النهوض من الركام، بقيادة نسائها، وفي غياب تام للحكومة: بدأن بجمع الأنقاض لإعادة بناء البيوت، ومن تحت الركام، جمعن الأوراق والكتب، وفتحن المدارس، وكتبن على بقايا الجدران المحطمة شعاراتٍ تبث الأمل وتحث على العمل (لا تنتظر حقك، افعل ما تستطيع، ازرع الأمل قبل القمح..) وفي عام 1954، فازت ألمانيا بكأس العالم لكرة القدم (وكانت أصابع اللاعبين تخرج من أحذيتهم المهترئة). بدأت مرحلة البناء بالإيمان والأمل والعمل، وتمكنت (نساء المباني المحطمة) من صنع النجاح تلو النجاح، إلى أن توحدت ألمانيا من جديد، وسقط جدار برلين، وأصبحت ألمانيا -اليوم- أقوى اقتصاد أوروبي.
يختلف الألمان –طبعاً- عن السوريين، وكذلك أهالي ستالينغراد ووارسو وسيربرينيتسا، عن أهالي إدلب وغيرها من المدن السورية، من حيث الثقافة والتاريخ والجغرافيا والاقتصاد، لكن الشعوب هي هي، إرادة الحياة فيها أكبر من الموت والدمار. إنها تحمل في جذورها بذور الرحمة والحب والعدالة والجمال، وفي نسغها رحيق المستقبل! وهي -في النهاية- ضحية الحروب والصراعات والأطماع السياسية والاقتصادية، التي تقف أمامها وخلفها، عبر العصور.
لا يوجد شعب طائفي أو متخلف أو همجي أو عنصري! ولا يجوز أن نطلق مثل هذه الصفات على أي تجمع بشري تجاوز عصر الظلمات، فما بالك إذا كان هذا التجمع شعباً واحداً، تحكمه وحدة اللغة والأرض والثقافة والقيم والتاريخ العريق والمصير المشترك؟ إذا أردت أن تتعرف على السوريين حقاً، اخرج من شاشات التلفاز والإعلام المغرض، وغص في أعماقهم. عش معاناتهم، وسوف ترى بعينك وتلمس بيدك، طيبةَ هذا الشعب المفعم بالعواطف واللهفة الإنسانية والأخلاق النبيلة والصبر. إنهم اليوم (بكل أطيافهم) يتقاسمون الرغيف واللحاف والدفتر، كما تقاسموا الدم والدمار والبراميل المتفجرة والموت تحت التعذيب. لم يعرفوا الطائفية قبل ثورة البعث والأحكام العرفية وحكم العسكر، وقبل أن يقوم نظام “الأبد” بسحقهم وتمزيق وحدتهم، وتخويف (الأقليات من الأكثرية)؛ ولم يعرفوا العنف الوضيع، قبل أن تتبرع الفصائل الطائفية المتوحشة (المصنعة والمستوردة) بذبحهم، دفاعاً عن الله وجنّتة الموعودة، أو صوناً للمقامات الدينية المنسية ورموزها البائدة منذ قرون…
من يريد أن يتعرف على هذا الشعب السوري، الذي تُرك في مهب الريح والقسوة، وتآمرت عليه وسائل الإعلام كلها -دون استثناء- العربية والدولة، الموالية والمعارِضة، وبجميع اللغات، بما في ذلك اللغة العربية التي كانت تصب النفط على النار، وتدفع هذا الشعب -بقوة- نحو الشيطنة والعنف والتطرف والطائفية والسلفية… ولم تستطع -حتى الآن- تحقيق أهدافها.
من يريد أن يتعرف على السوريين، عليه أن ينظر بعمق في عيون أطفالهم ونسائهم (المحجبات والسافرات)، ليكتشف -ببساطة- أنهم شعب لا يهزم، ومن لا يرى في هذه العتمة غير السواد، أو يرغب أن يدفع بالتي هي أسوأ؛ فله ذلك!
لا شك أن الأنذال وتجار الحروب والقوادين موجودون أيضاً، وقد عملوا على تفكيك وحدة السوريين، مستغلين تنوعهم الغني، بتأجيج الحس الطائفي واللعب على وتر الدين والعرق والمذهب، لكن هؤلاء الدخلاء لا يمثلون السوريين، بل يمثلون مشغليهم من الدول الإقليمية والدولية، ونحن، إنما نتحدث هنا عن الناس البسطاء الفقراء العاديين الذين فقدوا كل شيء، وهم لا يهتمون –اليوم- إلّا بالمنزل أو الحقل أو مسقط الرأس الذي يسمونه وطناً، ضاربين عرض الحائط بالتنظيرات والتحليلات السياسية والفكرية وخرائط الطريق كلها، وليس لديهم سوى خارطة واحدة هي مسقط الرأس، شرطاً وحيداً كافياً للوطنية والمواطنة. إنهم يؤمنون بأن سورية هي بيتهم النهائي، وهم من سيعيد بناء هذا البيت. فكم سوري اليوم، يتغنّى بقول المتنبي:
لَكِ يا مَنازِلُ في القُلوبِ مَنازِل/ أقفَرْتِ أنْتِ وهنّ منكِ أواهِلُ
إن اقتلاع الناس من أوطانهم، أو تهجيرهم القسري، باستخدام السلاح والحصار والتجويع والتخويف والاعتقال، مأساة كبرى وجريمة موصوفة ضد اﻹنسانية، تحرّمها وتجرمّها النواميس والشرائع السماوية والقوانين الدولية (حامية حقوق اﻹنسان)
ملايين المدنيين السوريين اقتُلعوا من أماكنهم قسراً، واضطروا إلى الفرار من لهيب الحرب والدخان، سواء تلك التي أشعلتها الدبابات والطائرات والبراميل المتفجرة والصواريخ، أو تلك التي افتعلتها الكتائب الجهادية المسلحة (اﻹرهابية والمتطرفة والأقل تطرفاً) باستخدام السكاكين والسياط والفؤوس والمتفجرات، والتي فرضت سيطرتها فجأة على مدن ومناطق واسعة من اﻷراضي السورية، رافعة شعارات دينية وطائفية، كانت أشد فتكاً من الغازات السامة، ولا علاقة لها بالدين ولا بالشعب السوري وحقوقه المشروعة في الحرية والكرامة وإقامة الدولة المدنية؛ بل هي ثورة مضادة موصوفة، متحالفة مع الاستبدادين: السياسي الرسمي، والنظام الإقليمي والعالمي، الذين أرادوها أن تكون حرباً أهلية بين الطوائف والعشائر والقوميات.. فالاستبداد السياسي المتجذر، والديني الطارئ المتعصب، تحالفا معاً ضد ثورة السوريين الشعبية الوطنية المسالمة، وتمكّنا أخيراً من شيطنتها وحرف مسارها، إلى حرب ضد اﻹرهاب، باتت شعاراً واحداً ووحيداً، وذريعة محلية وإقليمية ودولية وأمنية، للقضاء، ليس على الثورة السورية فحسب، بل على ثورات الربيع العربي الملطخة بالدم والبارود.
إن التهجير القسري لم يبدأ من القصير، ولا من الزبداني أو الرقة أو حلب، ولا مع حصار الغوطة وتجويع السكان، والاعتقال والقتل تحت التعذيب، بل بدأ مع أول دبابة اجتاحت درعا، ومع أول برميل أو قذيفة أسقطتها المروحيات على دوما وداريا، ومع أول تدخل إيراني و”لبناني” ثم روسي وتركي وأمريكي… إنه قرار استراتيجي اتخذه النظام منذ البداية، وهو تحويل شعار الشعب: (الشعب يريد إسقاط النظام) إلى شعار: (النظام يريد إسقاط الشعب) وهذا ما حدث ويحدث حتى الآن! لكن (رُبّ ضارة نافعة)، كما يقال، فدرب اﻵﻻم الذي سار فيه الشعب الروسي وغيره من شعوب الأرض، يسير فيه السوريون اليوم! والدرب الذي اجتاح الحدود وقطع الجبال والبحار والسماوات، سيثمر مهما طال الزمن.
لقد أثبت السوريون -في الداخل والخارج- أن الدم سينتصر على السيف، وأنهم قادرون على تحويل الجرح إلى وردة، والآلام العظيمة إلى مواهب وملَكات وإنجازات. وهذا أمر بدهي، فمن يرحل يتجدد، شاء ذلك أم أبى، وهم الآن يتجددون، يتعلمون اللغات ويطلعون على الثقافات ويكتسبون خبرات وعلوماً جديدة، في دول متقدمة علمياً وتكنولوجياً، ومجتمعات منظمة سبقتنا في خوض حروب طاحنة، قومية وطائفية واجتماعية ووطنية، ومرت بظروف مماثلة لما يمر به السوريون الذين يندمجون -الآن- مع هذه المجتمعات المتنوعة، يكتسبون الخبرة والتجربة والمعرفة اللازمة، لإعادة صياغة أنفسهم وإعادة تعمير بلادهم، وما دمرته الحرب التي فُرضت عليهم، وبناء مستقبل أولادهم ومجتمعهم الجديد. وهذا الاندماج ليس عيباً، كما يعتقد البعض؛ فهو أخذ وعطاء، وهو تميز وتجاوز للذات، وهو لا يعني –أبداً- ذوبان الهوية الثقافية والوطنية، بل يعززها ويقويها، ويبني جسوراً متينة وضرورية، مع شعوب اﻷرض. وهذا كله يعني شيئاً واحداً، هو أن ثورة السوريين ما زالت مستمرة.