د. سماح هدايا، أكاديمية سورية، مقيمة في كندا.
مجلة أوراق – العدد 14
الملف
لماذا يتقاتلون ويتصارعون وهم يرفعون شعارا واحدا ويتكلمون لغة مشتركة؟
هل كانَ زيفاً وخداعاً ما قالتْهُ الجموعُ ولهجتْ به الألسنُ ونبضتْ له القلوبُ وتخيّلتْه العقولُ ورفعتْه اللافتاتُ وماتَ من أجلِه مئاتُ الآلاف…هل كان واحداً تعريفُهم للحقِّ والباطلِ وهل كانتْ واضحةً في أبصارهِم رؤيّةُ الحريّة؟
أحاولُ في هذا التّحليلِ توضيحَ الأثرِ الذي يتركُه سوءُ استخدامِ المصطلحاتِ والمفاهيم والتعريفاتِ في إفشالِ التّواصلِ وإخفاق العملِ الجماعيّ بهدفٍ مشتركٍ، وفي تأجيجِ النّزاعِ والصّراعِ، وتأخيرِ استحداثِ رؤيةٍ فكريّةٍ وشراكةٍ ثقافيّةٍ.
لنْ أتكلمَ في علمِ المصطلحِ ومفاهيمه؛ فهذا عملٌ ألسنيٌّ، لستُ خبيرةً به. سأنطلقُ من تعريفِ المفهومِ كصورةٍ ذهنيّةٍ، والمصطلحِ كدلالةٍ لفظيّةٍ للمفهومِ، وأشرحُ أثرَهما في عمليّتي الفهمِ والتّواصلِ الاجتماعيّ والسّياسي وأهميتّهما في الإنتاجِ الثّقافيّ وإنشاءِ منهجيّة في التّفكيرِ والتّحليلِ. الاستشهاد بالأمثلة سيكون من الواقع السّوري إبّانَ الثورة السّوريّة.
خللٌ في استعمالِ المصطلحِ والمفاهيمِ
أيُّ مجالٍ معرفيٍّ وخطابيّ يحتاج لدقّةٍ في تحديدِ المصطلحاتِ والتّعريفاتِ كمنطلقاتٍ خطابيّةٍ وتعيينِ المفاهيمِ وتوضيحِها وشرحِ النسقِ المستخدمةِ فيه بأبعادهِ الاجتماعيّةِ والثّقافيّةِ. فلا معرفةَ من دونِ مصطلحٍ. المصطلحُ ومفاهيمُه أساسيان في تبليغِ أيّ خطاب، سواء بكلامٍ شفويّ أو كلامٍ مكتوب. وقد حدّد العالمُ الشريفُ الجرجاني(1339-13414) في كتابِه التّعريفات الذي يعدّ من أوائل المعاجم الاصطلاحيّة في التراث العربيّ (القرن الرابع عشر الميلادي) تعريفَ المصطلحِ: “قيل: الاصطلاح اتفاق طائفة على وضع اللفظ بإزاء المعنى. وقيل: الاصطلاح إخراج الشيء عن معنى لغوي إلى معنى آخر؛ لبيان المراد. وقيل: الاصطلاح لفظ معين بين قوم معيّنين“[1]
يبدو في الخطاب العربيُ تشوشٌ واضطرابَ وخللٌ في استعمالِ المصطلحِ والمفاهيمِ، وعلى الرّغمِ من الجهودِ الكبيرةِ التي تبذلُها المجمّعاتُ العلميّةُ لضبطِ الأمرِ؛ فالفوضى في استعمالِ المصطلحاتِ واسعةٌ، والخلطُ في استخدامِها منتشرٌ في حقول العلوم، ولا يوجدُ استقرارٌ على مصطلحٍ موّحد[2]. ولعلّ أسباباً كثيرةً وراءَ هذا الاضطرابِ والاختلالِ؛ فستةُ قرونٍ من الارتدادِ الحضاريّ والانكفاءِ السّياسيّ أدّتْ إلى التّراجعِ اللغويّ والتخلّفِ عن المشاركةِ في الإنجازِ العلميّ والفكريّ الحديثِ. الحروبُ الخارجيّةُ والداخليّةُ وحالةُ الانقسامِ العربيّ عملتْ على هدمِ الهويّةِ الحضاريّةِ، واللغةُ هي الروحُ الحضاريّةُ، تنمو بنموّ الحضارةِ وبانهيارِها تنهارُ.
ضعفُ اللغةِ العربيةِ كمفاهيمَ ومصطلحاتٍ في ألسنِ أبنائِها، من الصّعبِ ردُّه لقصورٍ بنيويّ فيهاٍ؛ فهي لغةٌ اشتقاقيّةٌ وغنيّةٌ بالجذورِ، أنجزتْ حضاريّاً في مجالاتِ المعرفةِ المختلفةِ لقرونٍ طوبلةٍ، وتبوأتْ منزلةً عاليةَ كلغةٍ عالميّةٍ ولغةِ علمٍ وفكرٍ. لكنْ، يمكنُ ردُّ ذلك الخللِ لرداءةٍ في أساليبِ تعليمِها وتعلّمِها، ولانقطاعِ التّعليمِ والثقافةِ العربيين عن الإنجازِ الحضاريّ العربيّ القديم والإرثِ اللغويّ الأصيلِ الغنيّ بأساليبِ حسنِ النّظمِ وعن الإنجازِ الحضاري العالمي المعاصر، بإبداع الأفكارِ وتطويرِ المقولاتِ وتحديثِ الأساليبِ.
الترجمةُ وازدحامُ الخطابِ بالدّخيلِ الأجنبيّ أسهما في اضطرابِ المصطلحاتِ والمفاهيمِ؛ بترجمةُ المصطلحِ الأجنبيّ بأكثر من مصطلحٍ عربيّ، أو ترجمته منقوصاً لا يفي بالمعنى الدّقيقِ للمفهومِ الأصليّ: “وقد تدفقت إلى المعجم الاصطلاحيّ العربيّ المئات من المصطلحات الجديدة، غير أنّ هذا الكم الاصطلاحي ولم يستقر مفهومياً أو ترجمياً مما أدى إلى حالة الاضطراب والفوضى والتداخل…. فأغلب المصطلحات اللسانية الحديثة غريبة المنشأ متعددة اللغة وصلت إلينا عن طريق الترجمة التي باتت قاصرة عن الإدلاء بالتعبير اللغوي الدقيق للمصطلح الغربي فشاعت بين ايدي اللسانيين تراجم متعددة لمصطلح واحد، فكل لساني يأخذ بالترجمة التي تملي عليه ذوقه“[3].
علماءُ ومفكرون عربٌ تكلّموا عن ضرورةِ إيجادِ نماذجَ عربيّةٍ جديّةٍ وأصيلةٍ للتّحليلِ ودراسةِ العلاقاتِ وابتكارِ نظرياتٍ فكريّةٍ ونقديةٍ ثمّ تطبيِقِها عمليّاً، وفحصِها، وظهرتْ تجاربُ عربيّةٌ مهمّةٌ جدا في هذا السّياق، كتجربةِ د. عبد الوهاب المسيري، وما حدّده فيها وابتكره من مصطلحاتٍ ونموذجِ علاقاتٍ وتحليلٍ في حقلِ علمِ الاجتماعِ، في مجتمعِ التّراحمِ مقابلَ مجتمعِ التعاقدِ الحداثيّ، وفي تعريفِ العلمانيّةِ ونقدِها. وتجربةُ د. محمد شحرور في دراسةِ الكتاب والقرآن وفقَ منهجٍ لغويّ بتحديدِ المصطلحاتِ الواردةِ في التّنزيلِ الحكيمِ، ووضعِ ضوابط منهجيّةٍ ومفاهيمَ تؤسّسُ لدراسةِ القرآنِ والكتابِ استرشاداً بنظريةِ النّظمِ للعالم اللغويّ عبد القاهر الجرجانيّ، وبعيداً عن التّرادفِ. هناك تجارب أخرى مهمّةٌ، لكنْ، لا مجالَ لبحثِها هنا. ولعّلَ ما يحدثُ في الواقعِ العربي من تصاعدِ النّبضِ الثوري والتّحرريّ هو فرصةٌ يمكنُ اغتنامُها ولو بعد حين، للتّجديدِ وابتكارِ تجارب معرفيّةٍ وتطويرِها ونشرِها جماهيريّاً لنقدِها وتقويمِها.
تعثّرُ الخطابِ وتعثُّر الثّورة
الثورات العربيّة فتحتْ، بمطلبِ الحريةِ، الطريقَ أمام تصوّراتٍ جديدة ونماذجَ متخيّلة، وأي نموذجٍ فكريّ أو سياسيّ أو اجتماعيّ أو علميّ يتطلب وضوحاً لغوياً في الألفاظِ والمعاني، ودقّةً في المصطلحاتِ ومعانيِها ومفاهيمِها ودلالاتِها المجازية. للأسفِ مازالَ الاستخدامُ اللغويّ ضحلاً لغطيّاً وغير ناضجِ، يفتقرُ للابتكارِ والدّقةِ وجلاءِ المعنى، وهو ما ينعكسُ سلباً على التّفكيرِ ويُضعفُ القدرةَ على الإدراكِ العميقِ للمعاني والمفاهيم ومن ثَمّ التمكّنِ في التّعبيرِ السّليمِ. فلو اتّفق السّوريون منذ البدايةِ على تعريفِ ثورتِهم وتحديدِ ما يعنيه مفهومُ الحريةِ ومفاهيمُ أخرى كثيرةٌ كانوا قد أعلوا صوتَهم بها، ثمّ اعتمدوا نقطةَ انطلاقِ واضحةً دقيقةً، وحرّروها من اللبسِ والشعاراتيّة التي تُسطّح المعنى وتُبهّم على المضمون، وتفاهموا بلا مواربةٍ ومراوغةٍ على رؤيةٍ جامعةٍ مستقاةٍ من غايتِهم ومن تجربتِهم ومن وحي وعيهم الثقافي، وبنوا الثقة فيما بينهم، ما كانَ اتّسع النفورُ والصراعُ التناحريّ والفصائليّة السياسيّة والعسكريّة هذا الاتّساعَ، وما اشتدّتْ الحروبُ هذه الشّدةَ التي اختلطَ فيها الحقُّ بالباطلِ، وتشوّهَ التّفكيرُ وتهدّمتْ علاقاتُ التّعايشِ. فحالةُ الافتراضِ الواهمِ والاستنتاجِ غير المنطقيّ التي شاعتْ في الحربِ بعد الثّورةِ، أدّت لإصدارِ أحكامٍ مبنيةٍ على سوءِ الفهمِ وسوءِ التفسيرِ من معظمِ الفئاتِ والأطيافِ الاجتماعيّةِ؛ وزادتْ في الانقسامِ والتناحرِ والاصطفافِ المضّادِ.
لا يكفي شعارُ “إسقاط النظام” لإنجاحِ الثورة والتحرّر من النّظام السّياسيّ القائمِ؛ فوجودُ الفكرِ الحيّ ووضوحُ الرأي والمعنى أساسيّ. وقد تأزّم جدا الخطابُ العربيّ بعد إعلانٍ ربيعِ الثوراتِ العربيّةِ، بخاصّةِ سوريا، بسببِ الحربِ التي جُوبهتْ بها الثوراتُ وما لحقها من صراعاتٍ حادّة وحروبٍ أهليّة امتدّتْ أطول من عقدٍ، وتعرضَ لتغييرٍ في بنيته المعرفيّة وفي أسلوبه، متأثراً بحالةِ الانفعالِ والاحتقانِ السّياسيّ والتشاحنِ والكراهيّة والتّشكيكِ والتّخوينِ والتعصّبِ والتحيّزِ. كما اتسعت مساحةُ سوءِ الفهم وخللِ التّواصلِ بنارِ حربٍ أخذتْ تُهدّد وجودَ الشعبِ على أرضِه ومصيرِ بلادِه. الحروب عملت على تقويضِ جهود الثورة في إنتاجِ فكرٍ جديدٍ ومنهجيّةٍ حديثةٍ للتّفكير والتّحليلِ وخطابٍ جديدٍ موضوعيّ. وضاعفتْ في الخلطِ بين المفاهيم والموضوعاتِ والتعريفاتِ في مختلفِ المجالات: السياسيةِ والاجتماعيّةِ والفقهيّةِ والدينيّةِ والعلميّةِ والقانونيّةِ والإعلاميّةِ. وهو أمرٌ خطيرٌ جداً، لأنّه لصيقٌ بالسّلامةِ النفسيّةِ والأمنِ الاجتماعيّ وبالقيم والحقوق، بالإضافةِ إلى العافيةِ العقليّةِ.
بلاغة الرأيُ بوضوحِ معناه ودقّهِ لفظِه وسلامةِ نظمِه
المصطلحُ في أصلِ الكلمةِ عند العرب الصُلحُ. وعندما لا يتّفقُ القومُ على مصطلحاتِهم أو ما اصطلحوا عليه؛ فإنّ البديلَ العداءُ والخصامُ. لاشكّ أنَّ سوءَ استخدامِ المصطلحاتِ والمفاهيمِ، والخلطَ بين الرّأي والحقيقةِ من أهمّ مسبّباتِ الاضطرابِ في أيّ خطابٍ، وهو ما ظهرَ واضحاً، كما أشرنا سابقاً في خطابِ ما بعد الثورة. وليس مبالغةً القولُ أنّ سوءَ الفهمِ اللغويّ للمفاهيمِ وسوءَ التّعبيرِ عنها أشعلَ الحربَ الثّقافيّةَ والسّياسيّةَ بين السّوريين في زمن الثّورة، وعمّقَ العداوةَ والنزاعَ فيما بينهم. ولم يقتصرْ ذلك على أصحابِ الخلفيّةِ الاجتماعيّةِ متدنيّةِ التّعليمِ والثقافةِ، بل اصطحبَ معه فئاتِ المثّقفين والمتعلمين، الذين تعكّرَ خطابُهم بالتّعميةِ والإبهامِ والالتباس، وتشوّشِ إدراكِ المعنى بسياقيه الواقعيّ والرّمزي، وظهرَ التّطرّفُ في التّعبيرِ بالتحّيزِ للرأي الشّخصيّ البعيدِ عن الموضوعيّة، خصوصاً في استجلابِ تعريفاتٍ غريبةٍ ودخيلةٍ على السّياقِ اللغويّ والثقافيّ والسّياسيّ، وتبنّي الدّفاعَ عنها بغوغائيّةٍ لا تختلفُ، جوهرياً، عن غوغائيّةِ الجاهل. وهو ما زاد في تعقيد عمليّةِ الحوارِ والمجادلةِ وتبادلِ الرّأي؛ وهيّأ للتفسيراتِ الخاطئةِ أنْ تؤجّجَ التّناقضَ والخلاف والعداوة.
المصطلحاتُ لها سياقاتها وقد تضيع معانيها ودلالاتُها إن لم يتحدّد المصطلحُ والتّعريفُ. فمثلا؛ استخدامُ مصطلحِ العلمانيّةِ بمفهومٍ ضيقٍ وسطحيّ ومنقوصٍ، وكمشُهُ بمقولةٍ “فصل الدين عن الدولة” وخوض جدلٍ خصاميّ حولَ هذه الجزئيّةِ الصغيرةِ من دون تعريفِ مصطلحِ العلمانيّةِ بدقّةٍ وتوضيحِ مفاهيمِه وسياقاتِه الثّقافيّةِ والسّياسيّةِ والتّاريخيّةِ وتناول نماذجِه ودراسةِ ملائمتِها للواقع المجتمعيّ السّوري. كذلك أدّى استعمالُ مصطلحِ الحريةِ بشكلٍ غير دقيقٍ إلى نزاعٍ سياسيّ واجتماعيّ وفكريّ؛ فالحريةُ يَختلفُ مفهومُها بين المذاهب الفكريّةِ وبين المذاهب الدينيّة، وبين المدارسِ الاجتماعيّةِ، وفي الأنظمةٍ السياسيّةِ، فهل يعني مفهومُ الحريةِ الانفلـاتَ من القيودِ والضِّوابطِ ومن الرقابةِ، أو يعني الحريةَ في فعلِ ما لا يؤذي الناسَ ولا المحيطَ، أو يعني حريةَ الاعتقادِ، أو حريةَ التّعبير. هل يعني الحريّةَ الفرديّة، أو حريّةَ الشّعبِ في بلدِه وأرضِه وحريّتَه في اختيارِ نظامِه السّياسيّ وانتخابِ قادتِه في المجتمعِ والسّياسةِ وإدارة البلادِ. وهذا ينطبقُ على مصطلحاتٍ أخرى جرى تداولُها وتبنيها؛ كالديمقراطيّةِ، والقوميّةِ، من دون تعريفٍ دقيقٍ وفهمٍ واضحٍ لسياقاتِها. فالوعي الثّقافيّ المنقوصُ والمخيالُ التّاريخيّ والجغرافيّ المستورد يحوّلان هذه المصطلحاتِ لمفخخاتٍ تتفجّر بين الناسِ وتفجّرهم في صراعاتٍ تهديميّةٍ، وتمنعهم من التّواصلِ والتّعاونِ الفكريّ والثقافيّ والمجتمعيّ لابتكارِ نماذج معرفيّةٍ وإنشاءِ رؤيةٍ مشتركةٍ لقضايا مصيريّةٍ ووجوديّةٍ لا تقتصرُ على الفكرِ والثّقافةِ.
تجدرُ الإشارةُ في النهايةِ إلى أنّ فوضى المصطلحاتِ واضطرابَ المفاهيمِ والتعريفاتِ مشكلةٌ عامّةٌ لا تقتصرُ على الخطابِ العربيّ والسّوريّ؛ فتطوّرُ العلمِ واتساعُ مجالاتِه للمصطلحاتِ اللغويّةِ الجديدةِ المستخدمةِ يُمكنُ أنْ يُحدثَ سوءَ فهمٍ أو تفسيراً خاطئاً للمصطلحاتِ الكثيرةِ المستخدمةِ بشكلٍ متكرر.[4] لكنّها في الخطابِ العربيّ السّوريّ مشكلةٌ حقيقيّةٌ بسببِ ما تثيرُهُ من تقسيمٍ وصراعٍ وتحيّزاتِ أهواءٍ لافتراضاتٍ غيرِ منطقيّةٍ وغيرِ يقينيّةٍ، في وضعٍ شديدِ الاضطرابِ سياسيّاً وعسكريّاً ومذهبيّاً واجتماعيّاً.
خاتمة
اللغةُ والتفكيرُ متكاملان وبهما يكونُ الإنسانُ إنساناً عاقلاً، ولكي نطوّرَ فهمَنا اللغويّ ومعرفتّنا وفكرَنا ومجتمعّنا، يجب العمل على قضيّةِ المصطلحاتِ والتّعاريفِ والمفاهيمِ بتحديدِها وتوضيحِها وشرحِها توخيّاً للتّواصلِ السّليمِ في المجالين العامِ والخاصِ، وفي الحقولِ التواصليّةِ المعرفيّةِ المختلفةِ: الفكريّة الاجتماعيّة السّياسيّة العلميّة البحثيّة النقدية؛ فلكلِّ مصطلحٍ مفهومُه، مثلما لكلِّ كلمةٍ معناها. ولا مفرَّ من توضيحِ المصطلحِ والمفهومِ المراد في أيّ مجال معرفي توخّيّاً للدّقةِ والموضوعيّةِ والفهمِ السّليمِ المتبادلِ وإدراكِ مافي السّياقِ والنظمِ من دلالاتٍ. فالاختلافُ في وجهات النّظر، وفي الحقل المعرفيّ، ثمّ في التّجربةِ الفكريّة والسياسيّةِ، ينعكسُ على شكلِ المصطلحاتِ وطبيعةِ المفاهيم ولغةِ التعريّفات؛ كذلك العكس. لذلك تحديدُها ضروريّ في بداية أيّ خطاب وفي أي حقل معرفيّ.
التّحررُ من الاستبدادِ ومن سطوةِ التخلّفِ المعرفيّ يتطلّب تنميةً لغويّةً مرادفةً للثّقافيّةِ والاجتماعيّةِ، ومن الضّروريّ إعادةُ النّظرِ في تفكيرِنا واستخدامِنا للغة والمفاهيم والمصطلحاتِ، واتّباعُ الموضوعيّةِ والدّقّةِ في تحديدِ المصطلحاتِ والمفاهيمِ كيلا تصبحَ انتقائيّةً عشوائيّةً مثاراً للُّبسِ والنّزاعِ والاقتتالِ وبالتحديد في الواقعِ الذي تسودُ فيه الاضطراباتُ السّياسيةُ والحروبُ.
توحيدُ التعريفاتِ والمصطلحاتِ يسهمُ في تحسينِ العلاقاتِ بين النّاسِ سواء كانوا من جمهورٍ محدودِ العلم والثقافةِ، أو من مفكرين وعلماء سياسيين، ويقلّلُ من فوضى الخطابِ وسوءِ الفهمِ والخلافِ، خصوصا مع تقدّمِ المعرفِة والعلومِ وتعاظمِ تأثيرِ الإعلامِ وتزايد الاختلاطِ الثقافي والاثني وكثرةِ الترجمةِ والدَخيلِ من اللغاتِ الأجنبيّةِ.
أيّ تقدمٍ وتحضّرٍ يتطلّبُ وعياً لغويّاً نقديّاً. النهضة اللغويّةُ تفرض مراجعةً لما في الخطابِ من استخداماتٍ لغويّةٍ للمصطلحات والمفاهيمِ والتّعريفات، وفسحٍ المجال أمامَ نقدِها وتطويرها وتوليدِ الجديدِ منها بهدفِ الوصولِ لرؤيةٍ موضوعيّةٍ ودقيقة. التنميةُ اللغويةُ مثلُ التنميةِ الفكريّةِ والاجتماعيّةِ يجب العملُ عليها بالتّخطيطِ التّعليميّ والتّخطيطِ السّياسي الوطنيّ والقوميّ. الثوراتُ يُفترض فيها أنْ تعيدَ تشكيلَ الخطابِ، لاسيما أنّ أموراً كثيرة قد انقلبت، والمفاهيم القديمة الباليةُ بدأت تتساقط، والمجتمعُ أصبح بأمسِّ الحاجةِ للبدائلِ المعقولةِ. والأفقُ واسعٌ وبعيدٌ.
[1] الشريفُ الجرجاني، كتاب التعريفات، ص28،(المكتبة الشاملة الحديثة).
[2] د. جيلالي بن يشو. ج. مسغانم. مشكلة اضطراب دلالة المصطلح اللساني. مجلة اللغة العربية. العدد الرابع والعشرون ص 3.
[3] د. جيلالي بن يشو. ج. مسغانم. مشكلة اضطراب دلالة المصطلح اللساني. مجلة اللغة العربية. العدد الرابع والعشرون، ص4.
[4] Nanda Wijermans and Anna Lena Bercht, Dealing with ‘false friends
Stockholm Resilience Centre.