مجمل الكتابات الفكرية والسياسية الموالية للثورة السورية، تتناول الأزمة الأخلاقية التي يعانيها العالم بموقفه المتردي واللاإنساني حيال مذابح الشعب السوري.
شلال الدم تدفق طويلاً وغزيراً من شرايين السوريين بكل وحشية وإجرام في زمن يـُـقال عنه زمن حقوق الإنسان.
إن لم نع ليس كوننا ضعفاء متخلفين فحسب، بل ونعيش في عصرٍ إمبريالي متقدمٍ وساحق، سيكون اتهامنا للعالم لا يعدو كونه أخلاقياً محضاً، لا يتمسك به في هكذا عصر سوى القاصرين عن تقديم أنفسهم كما تتطلب مستلزمات الواقع العالمي، كما علينا أن نعي بأن الأرض ليست الجنة، وأن الحياة تحكمها تناقضاتها، فلا وجود للصدق بلا وجود الكذب، ولا للخير إلا بوجود الشر، كذلك الحق فلا معنى لوجوده إلا بصراعه مع الباطل، وحين ينتهي أحدهما ينتهي الآخر، فمدى نجاح الإنسان وتقدمه هو استعداده الدائم لمواجهة السوء، أي أن الصراع مع الباطل هو الطريق إلى الحق.
لكن ومن جهة اخرى، ألم يكن النضال البشري على مدى التاريخ، يعني ويؤكد مفهوم الحق الإنساني؟ هذا الذي تكرّس َفي غالبية دساتير المجتمعات وأنظمتها، بعد أن فاضت به النظريات الفكرية والفلسفية، والآيديولوجيات السياسية والمعتقدية، وأصبح من أهم أحكام ومواد هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن؟
بين هذا وذاك يتوه الضعفاء حيث لا سبيل للوصول إلى حقهم سوى بالمطالبة، بيد ان الحقوق تؤخذ بالمغالبة. من هنا لا يعدو اتهامنا للأقوياء كونه تعبيراً عن غبن سببه الأساس فينا، اتهام يستمد شرعية تنديده بمواقف الآخرين التناقضية بين الحق كمفهوم ونص، وبين ممارسته واقعياً.
لكن واقع حال هذا الواجب يختلف عن تصورنا الحالم بمساعدة الاقوياء لنا كواجب مجرد من ملابسات الواقع دون سبب أو تردد، لذلك يأخذنا الاستهجان، كيف أن العالم يحضر من حين لآخر فيما يحدث من كوارث طبيعية، إلا أنه غالباً ما تحدد حضوره هي مصلحته السياسية والاقتصادية، أو اختفاءه حيال مآسي حروب أهلية، وثورات شعوب على طغاتها. ولكيلا نكون أخلاقويين في إدانتنا لهذا العالم، علينا أن نعيد قراءة وفهمنا لماهية الواجب الواقعي.
صحيح أن الواجب هو في أس المعنى الأخلاقي، ومعنى الواجب هنا ما يقابل معنى الجائز والممكن في تعريفه اللغوي والمجرد، أي المفروض فرضاً بالمعنى الإكراهي، ونكون هنا قد نفينا عنه شرطه الجوهري المتمثل بحريته دون أن ننتبه أو نعي ذلك، من هنا كان الواجب الواقعي مخالفاً لرؤيتنا، وسيختلف بتعريفه حيث أن وجوده مرهون لمفهوم الحق، إذاً لابد من الوقوف على تكوّن هذا المفهوم في سيرورة نضال البشر من أجل حقوقهم.
هل مفهوم الحق تابع للوازع الأخلاقي؟
أم أنه خاضع لعامل إكراهي؟
أم أنه لا يستقيم إلا بجدلية الحق والواجب؟
بمعنى آخر، هل هو ذاتي ـ طوعي، أم موضوعي ـ شرطي؟
الدافع الذاتي يحتاج إلى ارتقاء إنساني ووعي بالواجب، وهذا على ما أعتقده ليس مفقوداً في ضمير العالم ومؤسساته المدنية والرسمية، لكن مع كل هذا، مازال الشعب السوري يُذبح أمام نظر الجميع دون فعل حقيقي لإنقاذه، كيف ولماذا؟
لمحة تكوينية
كثيراً ما يختلط في الأذهان مفهوم العدل والمساواة بين الناس على أنهم متساوون بالحق، بغض النظر، أو بإهمال مفهوم الواجب كنظير وشرط له. إن مفهوم الحق والواجب ليس فكرة تجلت نتيجة تأمل، إنما هو محصلة صراع اجتماعي تاريخي عميق وطويل، تكوَّن مع تكوُّن الطبقة البرجوازية في الغرب، حيث كان مقياس العدل والمساواة هو: وحدة الحق البرجوازي المجسدة بمقولة: الكل يعمل وكلٌ يأخذ حسب جهده، أي الحق يؤخذ حسب قيمة الواجب المبذولة، فتساوي الحقوق قائم على تساوي الواجب، أي كلٌ يأخذ حقه حسب قيامه بواجبه. إذاً العدل لا يعني المساواة، إلا أذا قام على مقياس الواجب.
وبموازاة الدوافع الاقتصادية والعملية لتكوين هذا المفهوم، قامت جهودٌ فكرية وفلسفية قوننته وشرّعته، وأعطته دلالات متعددة ومختلفة، حيث شارك في تركيبة المجتمعات وعلاقات مكوناتها الإنتاجية فكراً وعملاً وقانوناً.
يقول كانط: الواجب هو القيام بالفعل احتراما للقانون ـ القانون الذاتي الأخلاقي القائم على الخير الأسمى، والمؤسس على العقل والإرادة، كانط كوني التفكير، لأن فلسفته اتسعت لتشمل الإنسان كمفهوم وليس كأفراد، الإنسان في صيغته المطلقة العامة غير المحددة واللا مفهومة تقريباً، لذلك قال له هيجل: إن رؤيتك للواجب الأخلاقي ذات نزعة رومانسية غائمة مثالية، غير معقولة وملموسة، تحتاج إلى تجسيد في الواقع؛ الواجب عند هيجل واقعي مؤسساتي، أي أنه يتجلى في إقامة دولة قوية تقوم على الفرد المنصهر في الكل، لكن هل هذا الفرد سيقوم بواجبه دون أن يأخذ حقه، أن يحقق مصلحته، منفعته، رغبته، حلمه، كي يستطيع، أو نستطيع أن نطلب منه القيام بواجبه؟
الاعتقاد الصاحي يميل إلى الفرد لن يعطي واجبه دون أن يأخذ حقه. هيجل ربط الواجب بالحق، العطاء بالأخذ.
كما ان التواصل الاجتماعي والإنساني على مختلف أنواعه ومكوناته ومراميه، مرتبط بالواقعية البشرية للمفاهيم الملازمة لعقلانية البحث عن المنفعة؛ يقول هيجل: إن من يخضع لواجبه يحقق حماية شخصه ومنفعته، وذلك إشباعاً لماهيته الجوهرية؛ ويقول: إن الواجب مرتبط بالدولة لا بالذات المتفردة، أي بالذات الموضوعية الجماعية. فالواجب ليس فكرة ذاتية، بل نتيجة جدلية بين حقه وحق الآخر، بين حقه وواجبه، حيث أصبح الواجب هنا مرتبطٌاً بالكل لا بالفرد.
لذلك علينا أن نفهم ما هو وعي الواجب الأخلاقي كأفراد، ووعيه كدولة، اي ماهي الجدلية التي تحكم مفهوم الحق والواجب بين المواطن والدولة من جهة، وبين هذه الدولة الممثلة لكل المجتمع والدول الأخرى في العالم، على اعتبار أنها اصبحت بمثابة فردٍ في العائلة البشرية.
إذاً، حق الفرد في مجتمعه مرهون بواجبه، كما أن هذه الدولة المجسدة لمجتمع ما هي بمثابة فرد في المجتمع العالمي، فعليها ما على الفرد في مجتمعها حيال المجتمع الكوني، أي أن حقها مرتبط بواجبها أمام العالم، والذي يتعين بمشاركتها فيما توصل اليه الآخرون من تقدم ومساهمتها فيه. وهنا نسأل: هل قام العرب بواجبهم اتجاه العالم، وساهموا بإنتاجه المادي والروحي، كي يطالبوه بحقهم والقيام بواجبه الإنساني حيال مصائبهم؟ بالتأكيد الجواب لا.
متى يفهم العرب عواماً ونُخباً. أن المفهوم الإنساني للحق والواجب مشروطٌ بدلالاته الواقعية وحضور وجوده حضارياً؟
*مادة خاصة بالموقع