التشبيح؛ مفـهـوم مـن المـفـاهيـم التـي يتعـامـل بهــا البشــر في واقعهم ، وهـو مــوازٍ تـنــاقـضــيـاً لـمـفـهـوم الأخـلاق ، إنَّه نزوع رغـبـوي كـان ومـازال عـلى مــدى تـاريـخـهـم يتـرصـد تفكـيـرهـم وســلـوكهم، ويـجـاهـر بـحـضـوره دائـمـاً فـي “الـنـفـوس الأمّـارة بــالـسـوء”. إنَّـه الـتـشـبـيـح المادي والفكري الذي يفـرض نفسـه على الآخرين إمَّا بالقوة القاسية أو بـالقـوة الناعمة، ينتج عن انحطاط روحي يتسببه فسـق عقلي ، فهو أقذر خـيـانـة على الإطلاق لأنّه خيانة للعقل، حيث يصير وسيلة عيش تنخر وصائل المجتمع، و بالرغم مـن اختلاف سـلـوكيـاتـه واشكاله وذلك لاختلاف مواقع أصـحـابـهـا اجتمـاعياً، إلا أنَّه ينتمي إلى عقلية ساقطة واحدة.
أخطـر أنـواع التشبيح هـو التشـبيح الفكري، فكما يمكـن أن يكون صاحبه أميّاً جاهلاً، يمكنه أيضاً أن يكون من حملة الشهادات العليا، أو ديكتاتورية سلطة تقتنص من هنا فكرة ومن هناك أخرى لترقع رؤية سياسية تفرضها على الناس بخوفهم ومداراتهم للسلطان، وتوكل مهمة تصديقها لبطانة لا عمل لها سوى اجترار ما يقوله الزعيم وجعله مقولات وشعارات وبرامج سياسية وفكرية واقتصادية. كما يمكن أن يكون من الذين يعتبرون أنفسهم مثقفين مدعين يتباهون بتكرار العناوين الرئيسة للمراجع، وحفظ أسـماء الكتـب وكتابها، يستعرضونها عند حاجة إشهار ذواتهم وتقديمها على أنها صاحبة معرفة، وذلك أسـلوب المندسـين علـى هـوامـش الثقـافة ، ويكثر هذا النوع مـــن المثقفيـن، أو ينحـصـر وجـودهم في المجتمعات المتخلفة لأسباب تعود إلى محدودية الوعي فـيـهــا ، مـمـا يـجـعـل هــؤلاء أشــبـاه الـمـثـقـفـيـن ومـسـوخـهـم يـتـجـرؤون بـاحـتـيـالـهـم عـلـى تـبـوّء أمـاكـن تفعل في عقل المجتع لتحويله إلى كورس يردد هراء الشبيح الأكبر، إن وجودهم هو المفتاح الذي أغلق الأبواب والنوافذ بوجه النور.
خـطـر هـؤلاء الـمـخـتـلـســيـن في البـنيـة الثقـافيـة، لا يـقـتـصــر عـلـى أنَّـهـم نفعيين وغير نافعين، بل هم يحملون وباء الكسل والبلاهة العملية والفكرية، وباء يسم المناخ الثقافي بالانتهازيَّة والفساد والنفعية الرخيصة، ولأنهم يجيدون الاحتيال والزعبرة الكلامية، فإن بعضهم يصل إلى امتلاك إمكانية الفعل التسلطي والهيمنة الفارغة والخطيرة على التكوّن الثقافي الاجتماعي، إنَّ ثقـافـة التمنـطـق والفذلكة هـذه، والقـائمـة على مبـدأ { دبّرْ راسك } وعلى اعتبـار أنّ الحياة انتهازٌ مجانيٌ للفرص، كـانـت ومـا زالـت السُّـوس الذي نخر العقل السياسي والثقافي العربي، وجعلته مدمن الاسترخاء والبلادة، فهي التي كـانـت ومـازالت السبب الرئيس بانهزام عقلانية الحياة العربية وتفكيرها، والاكتفاء باستمراء العيش على حساب الآخرين.اهم صفات ودلائل التشبيح الفكري هو اللف والدوران حول الفكرة، وامتلاك رومانسية الوصف الشكلي للموضوع حيث لا يخرج القارئ سوى بجرعة من نشوة البلاغة والغوى اللغوي. التشـبيح لـيس ظـاهـرة جـديـدة أو عـارضـة في حـيـاتـنـا العـربـيـة والإسـلاميـة، بل هو تجسيدٌ لما تبقّى من اهتراء علم الكلام العربي الذي وسم مجمل ثقافتنا، فتلقفه وانتهزه تخلفنا ليحافظ على عفـن فواتنا في جميـع مسـتـويـاتنـا وفئـاتنـا الاجتمـاعيـة والسـياسـيـة والفكـرية ، فهـو علّةٌ خطيرةٌ لأنَّنا اعتدناه تفكيراً وسـلـوكـاً ، كـرسَّـهـمـا فـيـنـا تـأخـرنـا المـتـعـشـق مـع اسـتبـدادنـا الـذهنـي قبل السـيـاسـي، وعجزنا عن انتاج الحياة الحقيقية للفعل والتفكير.
*خاص بالموقع