أدونيس فائزاً

0

موفق قره حسن

كاتب سوري

مجلة أوراق- العدد 17-18

أوراق النصوص

ها هو الآن شاعر المنفى، والسجون، والغربة، والاغتراب، الشاعر المهاجر، والمتحدّث الرسميّ باسم الشعب، وهموم الشعب، وقضاياه، الشاعر أدونيس قدّس الله سرّه، بجلالة قدره يستلقي تحت شجرة الحكمة في قريته الوادعة في سوريا، بعد أن أزاح بوذا من تحتها، ليحتسي البابونج، ويتأمل عاملات النمل، وهنّ يثقبن الأرض كي يبنين بيوتهنّ ويدافعن عن وجودهن من خلال هذا الخرم الصغير، أدونيس الذي وصل إلى أعلى درجات الإنسانية، لم يعد يحتمل عقله أن يفكّر في قضية الإنسان وحدها، فانتقل إلى الحشرات، والحيوانات، والجمادات، والماورائيات، حتى إنّه بدأ بتنظيم مهرجان ثقافي داخل المدينة الفاضلة، والذي سيلقي هو بنفسه، كلمته الافتتاحية.

يرنّ الهاتف الأحمر، والذي لم يكن أحمر عندما اشتراه، إنما طلاه بهذا اللون كي يتناسب مع لفحته الحمراء، والهاتف هذا ما هو إلا نبذة قليلة عن الأشياء التي طلاها بلون الدم؛ أي اللون الأحمر، ولا أدري بالفعل لماذا هذا الارتياح الذهنيّ والبصريّ لهذا اللون الدموي عند شاعر كبير؛ وحساس من العيار الثقيل كأدونيس، وهو الذي يشكّل منذ ولادته أعلى مستويات سحب دوائي لمنتج الهيستامين المضاد للحساسية؟.

– ألو مرحبا منزل  الشاعر أدونيس؟

– (يعدّل من جلسته بعد أن سمع كلمة شاعر وبابتسامته المعتادة): أيوه اتفضلي مين معي؟

– أنا كاترينا عم حاكيك من ستوكهولم حضرتك مرشح لجائزة نوبل لهذا العام، وأنا عم حاكيك هلق لأدعوك شخصياً بالنيابة عن الحاج نوبل لأن متل ما بتعرف عطاك عمرو من زمان

– الله يرحمو

– الله؟!

– قصدي لروحو السلام .. خلص ولا يهمك مدام، بكون عندك بأقرب وقت

– باي

– باي.

ينزل السماعة من يده بعد أن هشَّ؛ وبشَّ؛ وطار فرحاً فارتطم رأسه بسقف الغرفة، ووقع على ظلّه كما الطيور تقع دائما على أشكالها، ويبدو لنا من خلال الكاميرا التي زرعناها داخل حياته لنتلصص على يوميات شاعر فذ، وقامة كبيرة، وصاحب كعب عالٍ في المعترك الثقافي كأدونيس؛ بأنه متوترٌ بعض الشيء، وبالأخص أنَّ المدام كاترينا لم تلمّح له إن كانوا سيبعثون له تذكرة الطائرة؛ أو ثمنها، أم أنّ هذه الرحلة سيتحمّل مصاريفها شخصيّاً، ولكن الطمعة كبيرة، والطبّة أكبر، والجائزة بتستاهل شوية تضحية، وهل (التركتور) صافف قدام البيت، صرلو فترة منبيعو ومنطرقا سفرة .. أخ بس لو كان خط الهوب هوب شغال ع ستوكهولم بس يلا ع ستوكهولم بدنا نروح لنداوي القلب المجروح.

وبالفعل أدونيس ما كذّب خبر، هرع إلى الخزانة، وأخرج الثياب التي سيرتديها في الحفل، ولمّع حذاءه، ورتق جوربه، وبعثر شعره، ووقف أمام المرآة، وبدأ بالبروفات كي يكون مستعداً دائماً لأي سؤال قد يطرح عليه في ستوكهولم من حركات الرأس .. إلى الأصابع .. إلى اليد التي ستوضع على الجبين، والخد، حتى الساق التي سترمى بعناية فوق أختها الساق، وهو يجلس بين الجمهور الغفير، تدرّب أيضاً على ردة الفعل التي سيفتعلها عند سماع اسمه الفائز بالجائزة، ودعوته إلى المنصّة، ليس هذا وحسب؛ بل بدأ بتمارين الليونة كي يقفز برشاقة على درجات المنصة، ولم ينسَ تمارين الصوت كي يشدو بخطابه الرنان صاحب الوقع البروليتاري على الآذان، لأنّه فقير، ومشرّد، وقروي، ومكافح، ولا مكان له، ولا عنوان، ولا أحد يستحق الجائزة غيره؛ فهو المثال الأكبر؛ والنموذج الأهم للتطور الدماغي البشري.

مضت الأيام، وما زال شاعرنا على حاله كل يوم يقوم بنفس الأعمال، تمارين .. وبروفات، كي يصل إلى أعلى نسبة أداء داخلي، وخارجي ملموس، ومحسوس أمام الحضور .. حتى أتى الصوت الذي قلب حياته رأساً على عقب، فبدّل سعادته الغامرة إلى أحزان .. وأشجان .. وصار إلى شاعر تعِس لا يكاد ينبس ببنت شفه؛ حتى يبكي .. لا يكاد يتحرك قيد أنملة؛ حتى تلمع حبات الألماس بين أهدابه، الصوت الذي خاطبه فيه والده بأن هذا (التركتور) هو ميراث العائلة الوحيد، وبأنّ ريعه كان يذهب إلى الأعمال الخيرية فكيف يجرؤ على بيعه؟  

وما أحبط شاعرنا ليس أنّه لن يستطيع بيعه بسبب تلك الأمور سالفة الذكر، ولأنّ العصب الإنساني قد لمع عليه، فهو لم يكترث بهذا كله، فعندما أخرج أوراق (التركتور) ليبيعه، وجلس على بازاره؛ وقبل الشروع بالتوقيع على عقد البيع، تبين بأن هذا التركتور ليس من ممتلكات أدونيس الشخصية، إنما له حق الانتفاع به فقط.

نسي أدونيس الفكرة، وعاد إلى الأرض يفلحها، ويسقيها يعزقها، ويبذرها، وكلّما كانت فكرة الجائزة تخطر على باله كان يصرفها عنه بلعب الشدّة، و ليس بالتأمل كما عودنا، لأنّ التأمل سوف يعيد التفكير بها رغماً عن أنف أبيه -لروحه السلام – وها هي مظاهر الحياة البائسة تنال من شاعرنا المحبط الحزين، والمكفهر، شاعرنا الذي أحالته الفاجعة إلى ربع أوقية من الدم؛ والماء، والعظام التي تصدر أنينها كما لو أنّها سيمفونية الكدر المشؤوم، والمحموم بالوجع.

أدونيس الذي عكف عن الكتابة بمختلف أطيافها، ويده التي لم تمسك يوماً إلا الأقلام ها هي قد تشقّقت بفعل الكريك والشوكة والأظمة، وتلت الشهور الشهور، وما هي إلا أيام قليلة تفصل الشاعر عن حلمه بأن يذكر اسمه هناك في ستوكهولم كفائز، إلا أن الحلم بعيد، وستوكهولم ليست في بانياس ليذهب إليها رَمَلاً، ولا مع جاره في سيارة (الزيل) بعد تبويسة شوارب، : إنها ستوكهولم يا أدونيس .. ستوكهولم  .. فماذا أنت فاعل؟

ترررن ترررن / ترررن ترررن

– الو أدونيس؟

– أيوا مين معي؟

– نحنا من اتحاد الأحباب في إلك مكافأة مالية.

أغلق السماعة عندما سماع هذه الكلمات، وكما لو كان ميتاً؛ ودبّت فيه الحياة، وبلمح البرق ذهب، وبلمح البرق عاد حاجزاً على أول طائرة منطلقة إلى ستوكهولم، ووضّب حقيبته، وتأكّد بأنّه وضع الكلمة التي سيلقيها بين الأوراق الثبوتية، وانطلق أدونيس إلى تحقيق ذاته؛ وحلمه باستلام الجائزة، وطارت الطيارة، والحبايب طاروا.

– جميلة هي السويد من فوق أليس كذلك؟

يهز أدونيس رأسه فاغراً فمه، وبعينين براقتين وبابتسامة بلهاء أجاب: بلا

– أين نحن منها يا أدونيس؟، ولماذا لسنا مثلها يا أدونيس؟

ضحك من سؤالي ضحكاً غيّر مسار الطائرة فكادت أن ترتطم بجبل لو لم يكن السائق شوفيراً ماهراً، وانحرف قليلاً في اللحظة الأخيرة.

هبطت الطائرة التي تقله، واتجه مباشرة نحو الحفل فلم ينتبه إلى الشوارع، ونظافتها .. ولا إلى مظاهر الحياة برمتها، ودخل شاعرنا، وجلس في المقعد المخصّص له، وأخذ وضعيته التأمّليّة ذاتها التي اعتدنا عليها، وبدأ الحفل الكبير وبدأ توزيع الجوائز، ونادت مقدّمة الحفل على اسم أدونيس لفوزه بجائزة نوبل، ولكن ليس للشعر بل للسلام، كونه قد رشّح أكثر من مرّة لهذه الجائزة أي جائزة الشعر، ولكنها جائزة نوبل في نهاية الأمر .. للسلام كانت أم للشعر أم للقرود السود.

نعم فاز أدونيس، وكما تدرّب فعل، لا زيادة، ولا نقصان، تأٔكّد عدّة مراتٍ من الخطاب الذي سيلقيه إن كان في جيبه قبل وصوله إلى المنصّة، صافح المقدّمة، واللجنة، واستلم الجائزة بيد، وحيّا الجمهور بيد .. بعد أن انحنى له عدة مرات، وسط التصفيق اللامنتهي، والأضواء، وأصوت الكاميرات؛ وهي تنهال بآلاف الصور، والموسيقا الحماسية، كل شيء مدروس من أجل هذه اللحظة التاريخية المنشودة، كل شيء يرغمك على الخشوع لولا ..

لولا أن تبرّز عصفور صغير كان يقف على غصن شجرة الحكمة التي اتخذها أدونيس موقعاً له للتأمل في قريته الوادعة في سوريا، إلا أنه بالغ بالتأمل هذه المرّة .. وباغته النعاس فلم يستطع الفكاك من شركه، ونام حالماً بالجائزة فأيقظه العصفور من رؤياه بفعلته الرعناء التي فعلها فوق شاعرنا العظيم، ولكن هيهات ألّا يجد شاعرنا فلسفة لهذا الشيء، فنسب هذا الفعل إلى الرزقة القادمة لا محالة، والتي هي جائزة نوبل حسب تصوراته، ودراسته، وتوقعاته لمجريات الأمور.

9/ 4/ 2020