في تبادل الصداقات على الفايسبوك في سورية، قد لا تكتشف صديقاً جديداً فقط، بل كاتباً ألمعياً، أو كاتباً عادياً. وعلى الأغلب لن تجد أمامك إلّا ثلّة من الكتّاب الوهميين أو السارقين ربّما!؛ وذلك ليس إلا ضرباً من السذاجة غير الجدية أبداً لأشخاص في التاسعة عشرة من عمرهم، أو لرجلٍ خمسيني يهذي كلاماً لا معنى له ولا غاية منه، وفي كل الاحتمالات يتولد شعور غريب لدى المتابع بينما يقرأ منشوراً على إحدى تلك الصفحات: ” شكراً لموقع (…) على نشره قصيدتي” و”شكراً لمجلة (…) على نشرها مقالتي” من هؤلاء كلهم؟ ومن نحن منهم؟
حتى في التبادل الشفوي في الشارع أو الجلسات العفوية، قد تصادف رجلاً أو امرأة يوجهون لك لوماً؛ لأنك لم تبدِ إعجابك بموقع نشر قصيدة لهم، أو مجلة تبنَّت كتاباتهم. تنتشر كالورم تلك المواقع التي تجمع قصائد السوريين، وتعطي قيمة مختلقة لما يبدو نصاً أو كتابةً لا قيمة لها؛ هذا يشابه الممارسة السياسية، ويشابه الفكرة الدينية أيضاً. كل شيء يبدو متاحاً دون حديث رصين أو جدي. تملك اللغة قدرةً على الغشّ والتزييف في هذه البلاد، وفي كلّ ما يكتب، يظن من يدعو نفسه كاتباً أنَّ ما يهذي به يحمل معنىً وإبداعاً وفناً، أو أنه صاحب فكر!
يتصاعد هذا مع ثقافة شعرية ضئيلة. بالكاد يعرف شعراء سورية، ولا سيّما في ما يندرج تحت الكتابة النثرية؛ الكتابة التي دخل بعض منها إلى مستودعات الكتب المدرسية السورية كنصين لأدونيس لا أكثر. تنتشر الكتابة النثرية، أو ما يسمى بقصيدة النثر، في ما يشبه النص المفتوح المختلط بالهايكو؛ ذلك الخليط الأشبه بمحاولة تقسيم النصوص بطريقة سرديَّة نثريَّة أو شعريَّة. وكل هذا ينتشر في جيوب “فيسبوكية” يختلط فيها استعراض الأنثى لصورها المثيرة مرفقة مع نصوصها الرديئة، وعلاقات المثقف والشاعر والأديب، مع عامة المتابعين والطامحين إلى الكتابة والشهرة. هنا يكمن همٌّ سوريٌّ عام؛ في شعور كل فرد بأن عليه أن يكتب، وكأنَّ الكتابة واجب ضمني للجميع! الكتابة النثرية انتشرت ليس تأسيساً لمجلة الشعر وروادها، ولا لترجمات أدونيس وكاظم جهاد المفصلية حول قصيدة النثر، بل -في الأغلب- تشبَّهاً بأسلوب كان جذاباً لوقت طويل؛ مثل محمد الماغوط، ورياض صالح الحسين. ولا يبدو هذا الميل في الكتابة مشابهاً، بل غشّاً في البساطة والحدث والأسلوب جعل الأغلبية يشعرون بأنهم سيكونون الماغوط أو الحسين مثلاً؛ هذا الاستنساخ الرديء لما يبدو شعراً انتشر في سوريا بصورة لا يمكن وضع أيِّ حدود لها. تنتشر الكتابة والصفحات، وتنهال آلاف النصوص على المتابعين، ويأخذ الفايسبوك شكلاً يظنه البعض معرفياً أو ثقافياً. وبوجهٍ عام، تشهد العقلية السلوكية للسوريين شرطاً ثقافياً مهمَّاً، من خلال التواجد عبر الفيسبوك؛ ومردُّ هذا إلى انفصال المجتمع عن الثقافة، أو حتى عن الكتابة المطبوعة وتحولها إلى الشكل الإلكتروني السريع. وقد منع النظام منذ بدء الثورة أي جريدة عربيَّة أو أجنبيَّة من الدخول إلى سورية، فباتت المتابعة الثقافيَّة متسقة ومرتبطة بالاهتمام والرأي الشخصي، أكثر من اتصالها بحركة ثقافية معينة أو مفتوحة.
إلا أنَّ طارئاً مسؤولاً حلَّ على السوريين والعراقيين ولا سيَّما مع انتشار المجلات وأصحابها، والوهم الذي يرافق بعض الكتاب الجدد بأن المجلات تصطاد كتاباتهم وتتهافت على نشرها! وهي مجلات من دون أيّ قيمة حقيقية، بل هي تجسيد واضح لجهل السوريين بثقافة المجلة والجريدة، وأصول النشر الأدبي.
حالة الفرح في شكر المواقع والمجلات التي لا تملك أي قيمة تاريخية أو واجهة نقدية أو بحثية، حتى تبدو تلك النصوص مختارة بلا عناية، ومنشورة من دون تنقيح؛ ليست إلا لعبة من ألاعيب اللغة والمخاطبة، خلقت أوهاماً وانطباعاً مزيّفاً لمتابع الفايسبوك. من يخلو بيته من مجلة أو جريدة دورية، بات يكتب على صفحته شكراً لمجلة أو موقع تنشر له قصيدة مثلاً، وهي لا تملك تاريخاً أدبيّاً حتى، ما يثير الشكوك حول قيمة ما يكتبه السوريون من نثر وشعر ونصوص مفتوحة، أو بعض المنشورات العامَّة التي قد تحمل طابعاً أدبيَّاً، ولا سيّما أنّ المكتوب يتراوح في قيمته وطوله بين النصوص المنشورة في المواقع المُحكمة والرصينة -التي تحاول الاعتناء بالثقافة الأدبية- وصفحات التواصل الاجتماعيّ الضئيلة في قيمتها لكنها تملك متابعين أكثر حضوراً من سابقتها. بين هذا وذاك، هناك حالة سحرية في تحويل الكتابة ونقلها إلى حالة من الواجب شبه الرسميّ. أسماء المواقع والصفحات التي تصطاد الكاتبات وترفع من شأنهنَّ جعلت الكتابة النسوية أكثر ظهوراً، وبينت لنا كاتبات محترفات أن غالبية الذين يستحوذون على النصوص وينشرونها، يطلبون من الكاتبات نشر روابط المجلات أو المواقع، ومن المثير للسخرية أن بعضاً من المواقع والمجلات المهمَّة ودور النشر، نشرت لبعض الكاتبات نصوصاً شعرية مبنية على محصلة لغويَّة فيسبوكية، أو على جمع بعض التراكيب والمفردات المسروقة من مجلات ومواقع أخرى.
في ظل هذا تحرص دور النشر السورية على عدم الاهتمام بالكتاب والشعراء، وتميل حركة دور النشر في الطباعة إلى تحويل المنتج إلى دول الخليج والأسواق العربية الأكثر استقراراً لتحصيل قيمة كبيرة من فارق العملة وتضخيم الأرباح، أما الاهتمام بما يبدو شعراً ونثراً فلا يشغلهم؛ ما جعل الكتابة الشعرية في أسوأ مراحلها، بل إنها تندثر وراء موجة الكتابة الهوسية للسوريين عبر صفحات التواصل الاجتماعيّ التي باتت ذات قيمة أكبر من الكتاب المطبوع، فيما تختلط أشكال الكتابة تلك وأنواعها ضمن سياق غير أدبيّ وغير منتج، يفتقر إلى المعنى أو المعرفة أو الأصالة.
*المدن