أدهم حنا: سميرة خليل… إعادة اختراع الخفاء بوصفه كينونة للفعل

0

من الصعب الكتابة عن سميرة خليل، الغنية عن التعريف، أو حتى عن زوجها ياسين الحاج صالح، لكن تنوع مجالات الكتابة والدلالة تسمح لنا مرة بعد مرة بتكرار فعل الكتابة، كاكتشاف دائم لكينونة ما يُمكن أن نعرفه عن تاريخ بلادنا أولاً، وتاريخ الشخصيات فيه ثانياً. التاريخ هنا كمعنى سوسيولوجي عن دور الأفراد فيه والشخصيات وأدوارها في حيواتنا وتاريخ بلادنا. وهو ليس تاريخاً فقط للغالب والمغلوب، وللسلطة وما تُريده أو حتى ما يُريده الخطاب العالمي للسلطة بابتلاع حيواتنا كأفراد، أو حياتنا بوصفها تاريخاً للبلاد.

ينتمي ياسين أولاً لفكرة ثقافية اجتماعية، يُحددها دنيس كوش في مفكرة العلوم الاجتماعية. السياسي الذي يُصبح مثقفاً سياسياً لأنه ينتقد الأسس الثقافية والاجتماعية التي يقوم عليها ولها النشاط السياسي في البلاد. فمنذ العام 2000 وتخرج ياسين من الطب بعد إكماله سنوات الاعتقال وحرمانه من الاختصاص من أجل مزاولة العمل، لم يعد ياسين لآليات التنظيم السياسي التي عاشت بشق الأنفس في سوريا، بل اتجه للكتابة بقدرة هائلة على تأسيس لمحات نقدية وجذرية، منقطعة عن أشكال بدائية وغير مجدية في العمل اليومي للسياسة التي تحمل أفكاراً وتصورات عبر التجمعات والأحزاب. لكنها -كأفكار- في الأصل لا تملك مكاناً للعمل ولا قدرة على التواصل مع السوريين بإطارٍ عام وفضاء عمومي. كانت تجربة ياسين مثمرة لدور المثقف النقدي، وبروزاً لأهم مثقفي السياسة في البلدان العربية. وكانت مقالات ياسين الأولى، وصولاً لمشاركته الدائمة في ملحق “تيارات” في صحيفة “الحياة” المحتجبة، تثير إشكالاً في المكتبات السورية. فقبل فضاء الإنترنت، كان الصراع على الحصول على جريدة “الحياة”، يوم الثلاثاء من كل أسبوع، مثيراً للريبة. كان انتظار السوريين لياسين مُلفتاً وجليلاً.

وما راهن عليه جذرياً في نقده وعمله الفكري كان صائباً، هذا ما عرفناه من نتائج الثورة ودورها في إظهار الشخصيات السياسية التي اعُتقلت في الثمانينيات والتسعينيات، وما ظهر عليها، من الفساد السياسي، والطائفية، والعزوف عن مواجهة النظام، أو ممن اعتبروه قدراً لا بد منه في مواجهة التطرف، او من استغلوا تاريخ اعتقالاتهم للخروج من سوريا عبر المنظمات الدولية. 

في هذا جانب اجتماعي آخر، زواجه من معتقلة سابقة أيضاً، وهذا ليس ربطاً بشخصه، بل كتشكلٍ يُركز عليه ياسين في الكتابة عن نفسه وعن سميرة. الهوية الجماعية لمعتقلي النظام السوري وعلاقاتهم ببعضهم البعض، أو تركيزه على الاحتضان الذي يتلقاه ويتفاعل معه مع المعتقلين السابقين وعائلاتهم.

فاتنا وفات ياسين ملاحظة ابن خلدون عن المغلوبين وهم يحاكون تعاليم الغالب ويقلدونها. كان على هفوة وضيق حال، أن تصل سميرة إلى فسحة من أمكنة الثورة، فسحة اجتماعية مقبولة المستوى من الأمان، ذلك لأن النظام أغلقها وحاصرها. أمان سميرة هو أن تعمل رفقة نساء خبرتهن جيداً، جراء نشاطها القديم الجديد في العمل الاجتماعي، في محاولتها لخلق تواصل اجتماعي سياسي بين السوريين، بوصفهم قدراتٍ وأفراد ممكنين في أحوالهم ويومياتهم من العمل والنشاط. كانت دوما، المُحاصرة ولادةً لفئة من أشد المغلوبين قذارة وقسوة الذين حاكوا النظام، وتماثلوا معه، فأخفوا سميرة.

لهذا الخفاء قصص وسرديات، لكنه حالنا أيضاً. ليس من الجيد الكتابة عن ياسين لأنه يتحدث عن نفسه مراراً، إلا أن شيئاً ما يفوته من المعنى الوحيد الذي يُمكننا نحن الحديث عنه. في جُل دراسة ما تعرض له السوريون في الحرب، وتنويعات الخسارة التي نتعرض لها، يبرز ياسين كحالة مختلفة عن كل سياق، ليس بما تعرض له، بل من طبيعة الصراع التي حققه وسميرة في الثورة السورية. وكيف استطاع خلق قصة مروية أقرب للسردية التاريخية. لقد تعرفنا عبر ياسين على سميرة، فاهتمامه السردي بما تشاركَه مع سميرة يبدو ملفتاً، ليس من زاوية الحديث عنها وهو يحجبها، بل من باب خفوت صوتها جراء اختطافها، والضرورة التي يشعر بها للدفاع عن ذاتيتها في المرويات التي كتبها.

مرويات ياسين، غرق في ذات سميرة ودفع لها، كأن صوتها ليس تخيلياً، بل وقتاً مضى وكان حقيقياً ومُدركاً ويصلح ليكون درساً، مرويات تحرك دراما العائلة وحيواتها في مجتمعنا ومجتمع المعتقلين السابقين مُدركة لنضال السوريين وأثمان انتمائهم لأفكارهم وثورتهم. اهتمامه السردي بالتفاصيل، كحكاية فنية لا تهمل تفصيلاً أو حدثاً، مُحيطاً بالإشارات التي جعلتها شريكة، وصاحبة فعل في آن واحد. في هذا الوفاء الذي يسرده ياسين ما يُمكن أن يكون جزءاً من تعريف ضمني لذات سميرة وأقوالها، الأحداث التي نقلتها ورأتها وقالتها.

في هذا التقاسم امتلكنا جزءاً من فهمنا لتاريخ بلادنا. في تاريخ المعارضة السورية منذ السبعينيات، لا نجد مثالاً واحداً شبيهاً بياسين، والذي لم يتوقف يوماً عن إظهاره لحقيقة الصراع مع النظام السوري بشق الأنفس، ولو كان هذا على حساب كل شيء.

كان لكلٍ من سميرة وياسين إعادة هيكلة تاريخهم، ضمن سياق نحن أقرب إليه من التنظيمات السياسية التي سادت في سوريا. ولم يؤثر اختفاء سميرة في نشاط ياسين، كان عليه إعادة اختراع الخفاء بوصفه كينونة للفعل. المغلوبون الأشد قسوة واتساخاً، لم يجعلوا ياسين متأملاً للعماء، سارع لاقتياد هذا الخفاء كدلالة للفهم والتجسد فَخُلقت جائزة سميرة خليل، لأصحاب الأعمال أو النشاطات الحقوقية. وكل مرويات ياسين بوصفها نزهة في أحداث وتاريخ وعمل وحياة، تُشكل لنا قيمة مضافة لإنتاجنا للمعنى. الكل خاسر في الحرب، لكن، وبالهوية الخاصة التي يملكها ياسين وسميرة، دفعا بكل شيء من أجل هذه البلاد، وهي تختصر كل ذات أُخفيت في الويل السوري، وفي تاريخ عالم يبدو بِلا قيم. ياسين يدافع عن سيرة سميرة وسيرته، ليؤكد لنا أننا قد نملك عائلة أيضاً تكون حياتها كلها دفاعاً عن الحقيقة وعن المعنى. تعطينا سيرة سميرة إدراكاً لما نحن فيه في خفاء صوتنا أيضاً، ياسين ينجح في كل مرة في الدفاع عن العائلة بوصفها تشاركاً مختاراً وقيمياً ودفاعاً عن المخطوفين والقتلى لأنهم يملكون سرداً، وبالتالي ذاتاً.

(المدن)