أدهم حنا: “تاريخ الجسد”… لماذا علينا قراءته؟

0

يبدو كتاب تاريخ الجسد أوروبا من العصر الحجري القديم إلى المستقبل، لجون روب، واوليفر ج.ت، ترجمة جمال شرف، (دار الرافدين هاريس)، مهماً ليس من باب اهتماماته، وهو الكتاب المغرق في دراسة أشكال التواجد الأحفوري للجسد في أوروبا، وصولاً لكل معنى استحوذه الجسد في الدين أو المعرفة ضمن التاريخ الأوروبي. بل من الأفكار التي يطرحها كآلية تعليمية لدراسة تاريخ الجسد وفهمه من ظروف التاريخ وصوره وبقاياه.

يبحث الكتاب الجسد بوصفه حدثاً وحدثاً درامياً في آن واحد. ملخصاً معنى تكوينياً معرفياً لما يمكن الاستفادة منه من علوم متعددة، علم الآثار، علم التاريخ، علم الاجتماع، علم النفس، علم الأنثروبولوجيا بدراسة ما تبقى من آثار ومقابر وجثث وشيئيات ووثائق في المقابر الأثرية، وفي مستندات الحضارات التاريخية التي لم يتوقف حتى اليوم في أوروبا البحث فيها.

تبدأ الفصول الأولى في محاولة لشرح نظري لفكرة العمل وتنويعاته الوظيفية، الاتكاء على ميشال فوكو يبدو واضحاً وجلياً، خاصة في المعنى الذي يؤكد عليه فوكو بان الجسد هو تاريخ خطاب السلطة نفسه كمساحة تصويرية للمجتمعات. هذا لا يعني أن الدراسة تفتح بابا لوعي الجسد داخل المجتمعات التاريخية من منطلق أحادي، بل تطرح قضاياه، بناء على أدبيات متنوعة المعلومات، سواء من منهجية المدرسة الطبيعية، أو المدرسة البنائية. بدءاً من أدبيات الانثربولوجيا التي درست الحضارات النائية في العصور القديمة، والتي يحرص الكتاب على تقسيمها وتفنيدها، مرفقاً جداول تنظيمية دقيقة، فيربط الجسد باكتشاف الأدوات، فكل مرحلة من مراحل الكتاب، تدرس أدبيات متنوعة للم شمل المدرستين في التفكير، فارضاً أسلوباً تاريخياً لا بدّ منه لفهم فكرة التطور في وعي الجسد وفي العيش داخله وفيه.

يُبرز الكتاب الثقافة الحضارية بالعلاقة مع الجسد. المقابر الوسيلة الفضلى في فهم حتى اقتصاديات الحضارة، وقداسة الفرد وعملية تمثيل المقبرة بوصفها فكرة المقدس لحيوات الأجساد بعد الموت، وعلاقات الاقتصاد التي تُفهم فيها المقابر، الفخارة والمسلات في القبر كنتيجة لعمل انتاجي اقتصادي، الأسلحة والزينة تدرجات الفنون كل هذا يدور حول عرض على جسد، وعرض داخل مقبرة وعلى حفريات قديمة. وصولاً لتنشيط الانتباه في كل فصل على صعود المقدس وتمايزات الجسد في ميزان التقدم الحضاري. والأهم يدرس في كل فصل الكتاب خصوصيات الجندرة، العلاقة المركبة بين فكرة القوة الجسدية للذكر الناضج بوصفها مصدراً لقوة اجتماعية أولاً ولتحقق سياسي ثانياً. وحتى علاقة الناضجين من الذكور بالأطفال والغلمان بوصف الجسد مشتهى ومحاولة لإنتاج فكرة تصالحية ثقافية بين الأجساد والعوالم الرمزية والثقافية التي يُمكن إبرازها. ويُنشئ الكتاب ردة فعل لمفاهيم العلاقات الجسدية المثلية مثلاً بوصفها تاريخا للجسد ومحاولات إبراز قدراته الخفية أكثر مما يكون فيها الجسد في العلاقة كدائرة للمتعة.

وتموضع الجسد في الأمكنة يأخذ طابعاً بحثياً، المنازل القديمة نفسها تُدرس كالقبر، فتموضع الجسد وتطور متطلباته يؤثر مثلاً على تقسيم الغرف، المنزل كسياق لتاريخ تموضع الجسد وفهمه. وتسوق فكرة تموضع الجسد لتشمل الكتاب كله، وصولاً لليونان ودلالة الفن، المرحلة الهلنستية وآثرها من المنطلق اليوناني على منطقة شرق وغرب المتوسط خاصة. ارتباطات النزعة الجمالية خلافاً فقط للنظرة الوظيفية للجسد ابتدأت مع اليونان حسب بحاثة الكتاب. ومن اليونان يُطرح الجسد المثال، والجسد المعافى، والجسد الأكثر تناسقاً بوصفه مثالاً. في المرحلة اليونانية يركز الكاتب على فكرة الجسد المتكامل بوصفه ضداً للأغيار من اليونانيين. الغير بوصفه غير متمدن، ودلالة تماثيل الجندية، وتماثيل الجمال، المرأة والرجل في التماثيل الفردية. مٌبرزاً حقيقة التجسد الكلاسيكي المثالي، في الأجساد التي يغيب في نحتها أي معنى غير مثالي كدلالة على القوة والجمال. التصنيف اليوناني يأخذ من الكتاب مفتاحية سياسية واجتماعية وفنية. فمثلاً يشرح الكتاب عبر حجم كبير من المعلومات تحولات الفن، وتحولات العنف السياسي القائمة على الجسد. 

في الفصول التالية يخرج نظام الكتاب نحو الألوهة، مُعيداً فكرة التقسيم الغربي للجسد، سواء بالمعنى الأفلاطوني المتعالي للروح على حساب (الجسد /المادة)، او المعنى الديكارتي للفصل للروحي الجسدي. هنا يبرز الكتاب في فصل (الجسد والله) علاقة الشق الإلهي في العلاقة مع الجسد، اعتماداً على ما أشار اليه الكتاب بوصف التوحيد المسيحي في أوروبا هو أول توحيد من نوعه في القارة الأوروبية، بالتالي كان على هذا الديني أن يُشكل ضبطا عاليا للأجساد بوصف الكنيسة سلطة، وحركة الفكر من قديسي القرون الوسطى وتأثيراتها على ما بعدها في أوروبا، كانت شديدة التأثير والقسوة خصوصاً على النساء.

الكتاب لا يُبرز الجسد في الفن عبر الأيقونة فقط، بل عبر لوحات مفصلية شكلت للجسد أبعاده في الخطيئة، والانضباط المنزلي للأزواج، مسير الحجاج الدينيين، يسوع والأم ككيانية للتجسد المثالي.  

تبقى الفصول اللاحقة العلم التطبيقي والتجريبي للجسد، بوصفه دراسة لما ابتدأ فيه الكتاب، وذلك شرحاً عن معرض الأجساد الذي افتتح فيه الكتاب سرداً ووصفاً، معرض فون هاغنيز للأجساد المتفسخة والمهشمة بطريقة سير الجسد في الانحلال. رابطاً المعرض بوصفه فطرة طبيعية لتاريخ العلم وهو ينهش الجسد ويقننه ويضبط حركته فهماً كيميائياً وسينياً.
 يتضمن الكتاب سرداً للجسد الأوروبي، ومدرسة نظرية مختصرة لكيفية فهم الجسد ومعرفة تاريخه بقرب الإله والفكر وعلم الاجتماع. وهو ثري في ضبط الزينة والرموز والأسلحة لكل عصر لفهم حمولة الجسد. 

*المدن