أنور بدر، رئيس التحرير
أوراق- العدد10
افتتاحية العدد
رغم أن الأدب والنقد الأدبي عصي على التحقيب والتصنيفات الجنسانية والعمرية والمناطقية، التي تأخذنا بعيدا عن المعيار النقدي والفني لأدب لا ضفاف له، لكنها تبقى شائعة جدا بمعنى تحديد اهتمام الدارس بهذه الشريحة أو تلك من الكتّاب، أو هذه الموضوعة أو الإشكالية، دون أن تستطيع تلك الموضوعة أو الإشكالية أو التصنيف منح النص الذي يتكئ عليها أي قيمة معيارية.
أسوق هذه المقدمة لأقول أنّنا في اختيار ملف “أدب الشباب” في بداية الانطلاقة الجديدة لمجلة “أوراق”، لم نقصد المعنى العمري لأدب الشباب في مقابل أدب الكهول مثلا، إذ كان دافعنا الرئيسي يتخلّق حول العلاقة بين جيل تفتح وعيه وبدأت تجربته الإبداعية في زمن التحولات الكبرى لمجتمع خاض تجربة الثورة بكل عنفها وطموحها وانكساراتها أيضاً، وتجليات تلك التحولات في مستويات اللغة والخطاب وطرائق السرد وعلاقات ذلك كله بالزمان والمكان في مسيرة سيبقى التوق إلى الحرية والإبداع هو ما يحدوها للاستمرار دون توقف.
بصياغة أخرى، دعونا نقول أن الإشكالية تكمن في البحث عن أثر تلك التحولات على المعايير أو المفاهيم النقدية والمنتج الإبداعي عموما، فتلك المفاهيم لم تكن ثابتة في يوم من الأيام، بقدر ما تتطور وتتبدل بقوة المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فكيف الحال في زمن الثورة والذي إن دل على شيء فإنما يدل على قوة التغيير وشموله، فالثورة ليست مجرد انقلاب سياسي يأتي بنخبة حاكمة جديدة مقابل نخبة حاكمة سابقة لها، وليست لعبة تغيير “طربوش” الحاكم فقط، كما رسمها الراحل محمد الماغوط ككوميديا سوداء في “ضيعة تشرين”، أو مجرد تغيير في الأسماء والأشخاص، الثورة الحقيقية هي فعل تغيّير في مجمل بنى المجتمع والعلاقات والثقافة بمفهومها الواسع أيضاً، وهذا ما نقرأه في كل ثورات التاريخ الكبرى، والتي اجترحت مدارس جديدة في الكتابة والإبداع والنقد وفلسفة الجمال أيضاً.
وإن كانت هذه إشكالية عامة بمعنى علاقتها بالإبداع والكتابة، فإنها تأخذ خصوصيتها بالنسبة لشريحة واسعة من الكتّاب والمبدعين الذين تفتحت ملَكَتهمْ الإبداعية والفنية في خضم هذه التحولات الكبرى لمجتمعنا، وربما قبل أن يمتلكوا معاييراً ربما كانت سائدة لزمن ما، فكيف لهذه الشريحة العمرية التي عانت من فقدان الأمان وربما العائلة في زمن الحرب، وضياع الهوية وتشتت الجغرافيا بما يعنيه من عادات وأنماط معيشة جديدة، وصولا إلى الهجرة وتعلم لغات وخبرات جديدة، وقراءة كتب والدخول إلى مفاهيم الآخر والعصر بما يسمى الاندماج الثقافي، كيف لها أن تتعامل مع تبدل المكان، ومع توقف أو تقطعات الزمن؟ وكيف لكل العناصر المشار لها آنفا أن تترك أثرها على هذا الجيل من الشباب السوري وفي منتجه الإبداعي تحديدا؟
خاصة وأن هذه الشريحة العمرية تعاني ككل السورين من عدم تجانس إن صح التعبير، بعد أن توزعت بين سوريات متعددة في الداخل، وفي مخيمات اللجوء وصولا إلى أصقاع العالم كله، حتى أن التقارير الحديثة تشير أن السوريين الآن هم أكبر مقدمي طلبات اللجوء في العالم، وفق إحصائيات رسمية، وهم الأكثر انتشارا في كل دول العالم أيضا.
لذلك أصبحنا نقرأ في بلدان الاغتراب عن عشرات التجارب الإبداعية لسوريين شباب، بعضها كُتِبَ بالعربية وبعضها بلغات غير عربية، كذلك نسمع ونتابع عشرات التجارب الفنية في السينما والمسرح ناهيك عن التشكيل والفرق الموسيقية التي تنوعت في لغاتها وأدواتها ومعاييرها، هؤلاء السوريون الذين تجرأوا على قول كلمة “لا”، هم يكتبون ألان، أو يقصون حكايتهم منذ سنوات بأدواتهم الجديدة أو المكتشفة حديثا، دون انتظار أن ينصفهم التاريخ، أو تنتهي سنوات الخيبة والموت التي نعيشها، بل يكتبون حكايتهم وهم يدركون رغم بؤس الحال، بأن النهاية لم تقترب بعد، وأنهم لم يطالوا من الثورة حتى الآن إلا حلماً جميلاً.
إذْ عجزت عشر سنوات من القتل والتدمير عن صنع نهاية لكارثة السوريين المستمرة، كارثة ضربت كل بنى المجتمع السوري وهياكله، وخربت بنى الثقافية وقيم الهوية التي تَشظتْ وتشظينا في إثرها، فتشكلت ذاكرتنا الجديدة في زمن لازال عصياً على الاعتياد، فكيف لنا أن نعيش بلا ذاكرة بلا مشاعر بلا أحاسيس؟ حتى لو أغمضنا عيوننا عن كل ما يجري، حتى لو استأصلنا كل أقنية الدمع في مآقينا، حتى لو نجحنا بالنوم بعيون مفتحة كي لا نحلم، فإن ضجيج الداخل سيعلو في فضاءات الوحدة والوحشة مشرعاً ضَعفنا البشري قصيدةً في وجه كل الجلادين وسفالات العالم الأصم.
سيشكل هذا الضجيج لغتنا الجديدة التي نبتت من كل حيواتنا المعذبة والمهشمة والميتة أيضاً، لذلك تبدو هذه اللغة أقل بلاغة وأكثر عفوية وصدقا حين تبتعد عن المواقف السياسية وعن الشعارات الجاهزة والأيديولوجيات المسبقة، والتي باتت أكثر من رمادية بعدما حرقتها سنوات الحرب والدمار والحرائق التي التهمتْ زيتونَ سوريا وحنطتها كما اغتالتْ الربيع العربي بكل ألوانه الزاهية.
لذلك أعتقد أن الكتابة في هذا الزمن لم تَعد ترفا ومثاقفة، بقدر ما هي مهمة كي لا ننسى ولا ينسى العالم هذه المأساة المفتوحة على المستقبل، والتي أخذت تبلور سردياتها الغنية، وهي تبحث في عوالم السوريين الداخلية التي تتدفق بإيقاعات وصور ليست نمطية، ولم تكن مألوفة في حيواتنا الرتيبة السابقة، ولا في الكتابات التي أُنتجتْ فيما مضى، فالتجربة الآن جاءت أبعد من مخيلة من شاركوا في صناعة هذه الحرب وفي استمراريتها أيضا.
الكتابة الجديدة التي حاولنا الإشارة لها في هذا الملف تأخذنا في لعبة السرد وتعدد المستويات التعبيرية للّغة التي تمتح من معاشنا ومأساتنا ومن ضياعنا وحاجتنا للتواصل عبر الفيس بوك أو الواتس آب، بعيدا عن التصحيح الإملائي لتلك الأجهزة الذكية، حيث نكتشف دفء الأمهات ونواح الثكالى المخبأ في لهجاتنا العامّية، وتلك الطاقة التواصلية التي تعجز عن مقاربتها أو الاحاطة بها أناشيد الفصحى ومطولات الخطباء في المناسبات الرسمية أو على المنابر، فالخطابة والخطباء لم يعرفوا حكايات السوريين المعاشة وأحاسيسهم حين تنام العوائل والأطفال بلا عشاء، أو عندما يقرصهم البرد ولا غطاء يدثرهم في عراء الطريق.
كيف سيدرك الخطباء تقلص مساحة الحوار أو الديالوغ في حيواتنا وتواصلنا، لصالح مونولوجات وكوابيس أحلام، وكيف سيدركون أن الوثائق والصور غدت أغنى تعبيرا وأكثر سريالية من الخيال، وهل أدركوا كيف تتشظى الّلغة بين لهجاتنا المحلية التي كنا نجهلها سابقا، لتواكب تشظي المكان والزمان والأحلام وكل مكونات المجتمع والفرد أيضا في مستوى العلاقات والمشاعر والبحث الدؤوب عن الحرية، على مستوى الطموح وتأكيد الذات في مواجهة عالم همجي.
لذلك لن أقرأ بعد اليوم لزوميات مالا يلزم ولا مدائح الشعراء، سأهجو ظلي وأنا أعدو وراء وطن يهرب من عيوني، باتجاه الفوضى التي صنعها سادة العالم باسم الحرب أو باسم السلام، مع أن تلك اللزوميات تَسكنني وتُلزمني بأن لا أُعرّفَ الغيرَ، وأنا بتُّ أعرفهم بأكثر مما نَحنُ، ولن أنتظر التاريخ ليكتب مرثيتي، بل سأخطها بمداد ذاكرتي لتقرأ الأجيال القادمة ما حصل ويحصل في سوريا.