محمد زعل السلوم، شاعر باحث ومترجم سوري له العديد من الكتب والترجمات.
مجلة أوراق- العدد16
أوراق الملف
في الذكرى الحادية عشرة للثورة السورية، دائماً نطرح سؤال متى كنا أحياء ومتى كنا أموات؟
ربما الجواب البديهي سيكون بعد الثورة السورية المباركة، والتي أطلقها أطفال مدارس بمجرد كتاباتهم على الحيطان فلم يتحمل الديكتاتور كلمات بريئة وبسيطة عن الحرية المطلقة، بل ولم يستوعب الدرس المصري والتونسي، بضرورة التغيير وكما يقول المثل الشعبي: “إذا سقطت مئذنة في القاهرة الله يكفينا شرها بالشام”، لكن ما حصل في مصر هو الفرصة التي وجدها أبناء شعبنا للتخلص من تلك العائلة البذيئة الحاكمة لسوريا منذ عقود.
نعم أطفال مدارس قلبوا الدنيا عكسنا نحن الجيل المدجن على الطلائع والشبيبة ومسيرات التأييد كالقطيع والأغنام، كنا نشعر قبل أطفالنا الأحياء بأننا أطفال موت، ويتم إخراجنا من مدارسنا مرغمين لنرفع أعلام وصور لا تنتمي لنا ولا ننتمي لها، وربما لأني أنتمي لمجتمع عشائري ومنبوذ نوعاً ما من المجتمع السوري كوننا نعيش عشوائيات البعث ونازحين من أرضنا، فلم نكن نشعر بأي انتماء. كل ما نشعر به وتربينا عليه هو الخوف والصمت والحذر من التعبير عن ذواتنا.
فالمعلّم عنيف والمدرسة عنيفة والدولة عنيفة على فسادها، فإن كنت تمتلك المال تشتري الشرطي والتحقيق والقاضي وكل شيء تقريباً. فيما تنظر للرفاق البعثيين بإشفاق فهم نقيض لروحنا العربية بالضرورة، فكم كنا نستغرب عقلية البعث التي كانت تعلمنا العروبة ونحن عرب فلا ضرورة لنتعرف على هويتنا، ولكن ضمن هذه الهوية يتم دس الولاء للقائد وشعارات البعث الرنانة والتبعية والخضوع والشعور بالانتماء للقنّ الأسديّ الغريب الأطوار والبعيد كل البعد عن طبيعتنا.
هذا التدجين المعقم والحذر لم يعرفه أطفال درعا، بل كانوا الأكثر حرية وهم الوحيدون بعد العائلة ومجتمعنا القريب منا والأشبه بالغيتو، شعرنا لأول مرة أننا ننتمي لهم وننتمي لوطن، ربما تأثرنا سابقاً بوطنية النظام والفحولة الأسدية الكرتونية في لبنان وسوريا وفلسطين والقمم العربية، والفحولة السورية الدرامية والسينمائية وكلام الإعلام الفارغ في الهواء، لأننا كنا مجبرين على متابعة إعلام النظام المسبح بحمد القائد صباح مساء وكنا نسميها محطة “غصبن عنك” و”شام ونام” وكم كنا نعاني لالتقاط تلفزيون الأردن والشرق الأوسط وتلفزيون المستقبل والام تي في والال بي سي، عبر “أنتيناتنا” المعدنية في مقاومة محطات تشويش هذا النظام، نعم كنا نتمرد، فكم من ليالي السمر التي عشناها مع أقاربنا ونحن نسخر من بيان وزير الدفاع بسقوط القنيطرة وتسليم الجولان، ومذبحة حماة وتدمر، كنا في عالمنا الهامشي نتمرد ببساطة على هذا النظام الطائفي الخبيث، وكم كنا نسخر من الرفاق البعثيين وكذبهم وأنوفهم التي تطول مثل “بينوكيو” كلما زاد كذبهم، رغم همسنا وكلماتنا وليالينا الساخرة وأيامنا الجامعية، كنا نقاوم، رغم عدم شعورنا بأننا أحياء بل مجرد أموات تزحف في نفق الدولة الأسدية المعتم.
كنا نعرف أن من يكتب في صحفنا لا يمثلنا ومن يتحدث في محطاتنا لا نعرفه، ومن يعتلي الميكروفونات من المريخ، شعب آخر ووطن آخر وانتماء مختلف. لم نكن ننتمي لهم ولم يكونوا لينتموا لنا، كنا نشعر بأننا مجرد جالية في وطننا، غرباء في دمشقنا وسوريتنا. عشنا فيها الغنى والفقر ولكننا لم ننتمي ولم نشعر بأدنى حد للانتماء، رغم وجود الكثير منا في وظائف الدولة وحتى ضمن مفاصل الحكم لكن مفاصل “أرجل كرسي” لا أكثر، و”مشلحة زفر” يستخدمونها لتنظيف القدور بعد الطبخ المليء بالزفر.
عندما خرج الشباب في مظاهرات، كان كمن تنفس أخيراً وانتمى أخيراً وشعر أنه دمشقي وحمصي وحوراني وحلبي وحموي ولاذقاني وكل سوري، كانوا كنهر جارف فلدى الدخول للمدارس مظاهرة ولدى الخروج مظاهرة، وفي كل صلاة وبعد كل عرس وحتى عزاء، وفي كل لحظة ومناسبة، كان عرس فرح وتيار حياة وإرادة حرة مطلقة، نعم سنصرخ ونقول كلمة “لا” بعد عقود طويلة من “النعم” ونرفع هامتنا بعد عقود من الانحناء والهمس.
كانت لحظات الثورة لحظات نصر على أنفسنا وحواجزنا وغيتوهاتنا، لقد شعرنا ببساطة أن هناك وطن وأن هناك شعب وأن هناك حياة وأن هناك إنسان، فشكراً لثورة الحياة، ثورة الحرية، ثورتنا الثورة السورية العظيمة.