كنا في الصف الخامس، عندما شرعت الدولة الموقّرة بتشريع التعليم المختلط، فاستعاذ الكبار بالله من الشيطان الرجيم، وتأسفوا على تردّي التربية والتعليم. جاءنا سرب من فراخ اليمام، فانكمشنا في اليوم الأول متربصين، أسرى من غير وثاق ولا قيود، وكأننا في معركة جديدة لا نعرف كيف نقاتل فيها، وبدأنا ننظر حولنا، ونزن مقادير الأنوثة بميزان الذكورة المطمورة تحت الأرض.
وكنا نسخر من اللقالق الأوربية المسيحية الطاهرة التي تأتي بالأولاد في المجلات المصورة على مناقيرها الطويلة، وقد بان البون شاسعاً بين لقالق أوائل القرن العشرين وأوسطه بعد الثورة الجنسية التي لم تبق ولم تذر. وكنا أكبر من أعمارنا، ونعرف كيف تنجب الأمهات الأولاد، ونعاشر الكبار في أنديتهم بأدب جمّ، ونقبّل أيديهم بوقار، ونتداول شؤون العالم مع أقراننا في الهدن بين المعارك، ولو استطعنا لانتقمنا من الآباء والأمهات معاً، فقد كنا نتمنى أن نولد على طريقة اللقالق الطاهرة، لكننا استسلمنا لنواميس الأقدار الصارمة وقوانين المدارس الحتمية.
كانت داليا أجمل يمامة في الصف ابتلانا الله بها، وأحسن بنات السرب، وتسكن فيما يشبه المنطقة الخضراء في البلدة. ترافق قرار التعليم المختلط مع ثورات صادمة، بعسكرة التعليم المستورد من كوريا والصين، كما أخبرنا الكبار، وقد كان عسكرياً دوماً، فاشتدّت إدارة المدرسة في مراقبة الصدرية البنية، والأحذية السوداء، وربطة العنق البرتقالية، والكتافية، والشعر الحليق، والتفتيش الصباحي على الأظافر الطويلة، والهتاف عند كلمات معينة من النشيد الوطني، ورفع العلم عبر بكرة معدنية لها حبل، على سارية عالية، كما لو أنه غريق سقط في بئر عميقة. ثم نصفّق بعد إنقاذ تلك الخرقة الملونة من الموت غرقاً في الأرض القاحلة، كل صباح، وندخل إلى صفوفنا مثخنين من العسرة والرهق والجهد.
في الاستراحة اجتمعنا نحن المصعوقين بخدعة بنات طروادة الحربية، نتدارس خطط الكرِّ والفرِّ، وتنافسنا على التودد إلى داليا ، فقد أجمعنا على أنها أميرة الصف، ولها حظوة، فهي بنت حسب ونسب، شديدة الأناقة، لا قدرة لنا على منافستها في هندامها، ورقتها، وتهذيها، وبريقها، ونتبارى في اختلاق الأسباب للحديث معها، وكنا نلعب كل يوم تقريباً، لعبة حربية بين فريقي الحيين، الحي الشمالي والحي الجنوبي، متسابقين إلى احتلال هضبة “مارشولا” في جنوب البلدة، بجانب المقبرة، التي صار اسمها فجأة هضبة داليا، ننقسم فريقين، ونترافس ونتلاكم بلا رحمة، لبلوغ القمة، والفائز السابق يرفع الراية في أعلاها هاتفاً: انتصرنا.
ولم أكن الأول في الصف، لكني كنت مبرزاً، وماهراً في معرفة أشباح المعاني الغامضة التي تدمدم بين سطور النصوص الأدبية. مرّة سأل المدرس عن معنى عبارة: “سال لعاب الذئب”، فرفعت إصبعي متردداً، فأذن لي، فنهضت عاجزاً عن التعبير باللفظ، فلجأت إلى الحركة والإيماء، وأخرجت لساني ولحست به شفتي بشهية، فهتف المدرس فيما يشبه النصر، وقال: أحسنت، صفقوا له.
وصفق لي الجميع، فانتفش ريشي كالطاووس، وكان عطر التصفيق يعبق سنة كاملة، والتفت داليا إلى الخلف تستطلع ملامح هذا الفارس الأغبر الذي منحه المدرس هذه الوسام الكبير المدوّي.
وكانت هيئة التعليم والتربية العسكرية قد رأت أن تجعل على أكتافنا رتباً عسكرية، وهي خاتم شريطي أحمر مستطيل، لها خمسة شرائط صفراء عرضانية، اسمها المدرسي “الكتافية”.. وكان محفوظ وجهاً من وجوه الحزب الحاكم، ولم يكن يدرس علماً أو أدباً سوى الرعب والضرب والنهي والأمر في المدرسة، وعرفنا من الصفوف المجاورة، عبر شمِّ بول الشيطان من أذيال الهواء، أنه سيداهم الصف للتفتيش على الكتافيات والشعر والأظافر، التي تطول في غفلة من الزمن، فالمقاتلون في المعركة لا يجدون الوقت لسفاسف الأمور.
شهقت داليا، وانتحبت، فقد نسيت ذلك اليوم المشهود الكتافية، فحانت فرصتي للبرهان على فروسيتي، وهي فروسية لا تداريها فروسية، فمحفوظ، مدرس موتور، يدرِّس الخوف، وينفُر عنه التلاميذ في الشارع كما تنفر الفئران من الهرِّ. كان يعاقب التلميذ الضال، الخاطئ، الخائب عقاباً شديداً، إلا إذا أتاه بسلطان مبين، فيأمره بمد يديه وينهال عليها ضرباً حتى يشتفي ويرتوي من ثأر قديم ، يقفز التلميذ المضروب مع الضربة متراً إلى الأعلى مثل حبة الذرة على النار. في حالات أخرى يعاقب بالفلقة ضرباً على أخمص القدم المرفوعة مثل العلم إلى الأعلى.
واقتحم قاعة الدرس، وتفقد الجند الصغار من عل.
وقررت بلا تردد أن أضحي، فهي فرصتي الذهبية لمدّ الأسباب إلى الأميرة الحسناء، ومددت بالكتافية إلى داليا فاختلسته عن جنب، ورتبتها في عروة كتفها، وصاح الذئب الذي سال لعابه، طالباً كشف اسم الفريسة التي نسيت الكتافية، وهممت بالنهوض، وعدلت ظهري في مرحلة الركوع، ثم وجدت يداً بيضاء طرية، ناعمة، معطرة بعطر الممحاة، من خلفي تمتد إلى كتفي، تزرر الكتافية في لسان كتفي القماشي، وتزم العروة في الزر، كانت يد التلميذة خولة التي ضحت بخاتمها لي كما ضحيت بطوق النجاة لداليا.
اجتاحتني لواعج جياشة، وصاعقة، وغامضة، حالت بينني وبينها أهوال الخوف من الذئب الكاسر. الضرب سوى أنه مؤلم ويدوم ألمه ساعات، فهو مهين، خاصة لمن نال بعض الحظوة والثناء والتصفيق.
زمجر الذئب وسال لعابه، وجال بين الصفين مثل عنترة بن شداد، ووقف عند خولة التي كانت قد وقفت، مقرِّة بذنبها، ولمس كتفها الأعزل، ثم دفعها للخروج إلى منصة العقاب بعصاه. فخرجتْ، وارتقتْ المنصة المرتفعة درجة، ولحق بها وأمرها بمدِّ يدها الطرية، فاستجابت، وضربها ضربة انخلعت لها أفئدتنا الطرية في ذلك الصباح التي غابت عنه الشمس والعصافير.
قفزت خولة مع أول ضربة مثل حبة الذرة المشوية، وومضت راحتها الطرية مثل الشمس في أول الشروق، وصارت تبرد راحتيها بالنفخ عليهما بعد كل ضربة، وطفرت الدموع من عينيها، تتالت الضربات، فلا تسمع لنا همسا أو ركزا، عددنا الضربات، ثلاث، أربع، وأشفقنا من المذبحة، وسقطت خولة في الضربة الخامسة، واكتفى الذئب مضطراً، وتوعّد بالوعيد وحذرنا من إهمال الأوامر، وخرج مزهواً منتصراً.
زحفت خولة إلى مقعدها باكية، شبه راكعة، تنفخ عبثاً على راحتيها زفيرا ساخنا. فتحنا كتبنا من أجل الدرس وجلين، خاشعين، وأنا أحمل العار على كتفي، ولم أجرؤ على إغاثتها، كما أغثتُ داليا. لقد سقطتُ في امتحان الفروسية أيما سقوط، والتفتُّ إلى الخلف وأنا غارق في وحل عاري وطين خيبتي، وكانت ما تزال متكوّرة على نفسها مثل القنفذ، وتجهش بنحيب أخرس، ورأيت أنها جميلة جداً.. رفعتْ رأسها فوجدتها أجمل من داليا، وكنا نسميها “حولا”، وحولتها حولة الحسن، عندما تنظر، يظنُّ الناظر أنها تحاول ضمّ الدنيا كلها بعينها، وضفيرتها طويلة جداً، مثل حبل إلى السماء. هدأ الألم، وكفكفتْ دموعها، وأخرجت كتابها بأسنانها، فما تزال يداها مكلومتين، محمرتين، مضيئتين.
انصرفنا، ووقفتُ أنتظر خروج خولة التي تأخرت قليلاً، مرّتْ داليا من أمامي، ولم أنتبه إليها، كانت قد ماتت في قلبي، لم أعد أراها، حتى أنها لما أعادت لي الكتافية وشكرتني، لم أنظر إليها، ومرّت خولة، فلم أتجرأ، وتركت خاتم الرتبة التي أنقذتني من عقاب عظيم، في جيبي، نظرتُ إليها ونظرتْ إليّ، تلك النظرة التي تنظر بها إلى الدنيا كلها فتزوغ، ولم أقل شيئاً، ومضتْ باسمة.
أنهينا أداء جزية واجبات الإملاء والتدوين الثقيلة في المنازل، واجتمعنا عصراً، وخرج الفريقان من أجل اللعبة الخشنة واحتلال الهضبة. كنا فريقين، خمسة ضد خمسة، وانضم زميلنا “الجبين الأسود” إلى الفريق الخصم، وهو من الصف السادس، عظيم، قوي وشرس.
واستبسلتُ حتى الموت، فمن يسبق إلى الصعود تكون له الغلبة والنصر، واستطعنا قهر جيش الجبين الأسود، وصحتُ بعد النصر: سندفنكم في هذه المقبرة أيها القنافذ. وأنا أتذكر وجه خولة الجميل وضفيرتها الطويلة حتى السماء، وعينها الحولاء التي تنظر بها إلى كل الدنيا، وأخرجت الكتافية من جيبي، وتشممته مثل منديل ويليام ولاس في فلم “القلب الشجاع”، وهتفت لنفسي قبل أقراني: منذ الآن اسم هذه الهضبة يا كلاب: هضبة خولة.
البدايات تشبه النهايات..
كنت أرتجف وأجاهد لكفكفة دموعي، وأنا أتابع شهادة خولة. كانت قد تزوجت، وصارت أمّاً لأربعة أولاد، واعتقلت بتهمة معالجة جرحى المظاهرات، وحُبستْ مع الجثث في قبو مدة أربع سنوات، وكانت تُجلد وتعلق من معصميها عارية، ويغتصب الأطفال أمامها ويقتلون، ولاقت عذاباً أعظم من عذابات المسيح، فالمسيح عذِّب لأيام ثلاث، حسب الرواية المسيحية، والقلب الشجاع لساعة، قُتل بعدها صبرا. حُررتْ في مبادلة مع أسرى من النظام. وكان زوجها قد استشهد، وحرمها أهلها أولادها لأنّ المعتقلة مغتصبة قولاً واحداً. وفي نهاية الشهادة، التي صُورتْ في تركيا، والتي ذكرت فيها أنها نجت من الاغتصاب لأنها أصيبت بأمراض جلدية عجيبة، وقفت الشهيدة وحيدة أمام البحر، جميلة، تنظر إلى الأفق بحولة الحُسن، فيزوغ منها. وكانت ستختم شهادتها؛ فتقول قولاً أخيراً، كلاماً يائساً، ربما شجاعاً، ربما ساخطاً، ربما عاتباً، ربما مهيناً، لكنها نظرت إلينا بتلك النظرة، التي تزوغ فيها الأباطيل، ثم أدارت لنا ظهراً حمل البلاد كلها، ولم يحمهِ أحد.
المصدر : عربي 21