أحمد عمر : الأندلس الثالثة

0

كنت أرى ملوك الأندلس في أحلامي، وأجد نفسي راكباً ثَبَج هذا البحر مع عقبة طارق بن زياد في أول الفتح. وكثرت الأحلام، حتى أقضّتْ مضجعي وحرمتني النوم، فلعل سبب ذلك هو سلسلة الهزائم. وكان يظهر لي بين الحين والأخر عبد الرحمن بن معاوية الملّقب بصقر قريش، ويناديني بكنيتي تحبباً، ويدعوني إلى زيارته، وأرى أبا عبد الله الصغير وأعاتبه، وسأعاتبه أكثر بعد أن أرى عجائب الأندلس، لقد تحولت أحلامي إلى مسلسلة طويلة.

وكنت أحلم بتحرير الأندلس الأولى، أندلس الشام الأصلية، وليس الغربية في إسبانيا، من رجس الكفار الروس، وكفار القرداحة، وحتى لا يذهبنَّ خيال القارئ بعيداً، ويتهمني بالتكفير والبال القصير، أبيّن له أن الكفّار هم الزُرّاع، ومصداق ذلك قوله تعالى في سورة الحديد: “كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَراًّ ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً” أي أعجب الزرّاع نباته، فكان أن جمعت أمري بمنعرج اللوى، وقررتُ تلبية دعوات ملوك الأندلس، الذين جعلوا زرع حياتي مصفراً ثم حطاماً من كثرة الإغارة عليها.

العالم المتقدم، بجناحيه الغربي الديمخراطي، والروسي الانحطاطي، ويمكن التبديل بين الأوصاف، فلا جُناح على المبدل، وله أجر غير مجذوذ. كان يعدّ العدّة لذبح إدلب، بعد أن سمن زرعها، وأثمر وأينع. فقررنا النجاة من مشاهد الغزو والقتل، بالهرب إلى ذكريات الأندلس. الأندلس هي شام نُقلت إلى أوربا على جناح عفاريت من الإنس، ينعتون على صفحات التفاصل الاجتماعي الكردية، بشاربي بول البعير. وقد حافظت أوربا على كثير من معالمها، وعلى آثارها بفضل حكمة قادة كفار إسبانيا، أي مزارعيها، أما الشام الأولى، فقد دُمرت بالبراميل، وقبلها بالظلم والعشوائيات والقهر، والقوانين الجائرة، فحرِّقت غوطتها، وجفت أنهارها: بردى والعاصي وبقين.. أما مالم يُدمّر من الآثار بالبراميل، فقد أفسد خلال نصف قرن، أو بيع منه ما غلا ثمنه وخف وزنه، وهرِّب إلى أوربا. الأنهار التي بقيت تجري في سوريا هي أنهار الدم، وجداولها التي يبني عليها العالم المتقدم بجناحيه الديمخراطي والانحطاطي نواعير توليد الطاقة، ومدن الملاهي الناعورية، والقلق الأممي الكاذب.

وافق ستة من الأصحاب السوريين على الرحلة، يشدّنا حنين إلى الشام الثانية كحنين الناقة، ما دمنا قد حرمنا من الأولى، فشددنا الرحال، على خطوط جوية اسمها “راين”، ضيقة المقاعد. أقلعتْ الطائرة قديمة الطراز في موعدها، واستوت على جودي السحاب، ثم انطلقت في سبيلها على جادة ممهدة في السماء، ومضت عجبا، انطلقت مضيفات الطائرة لخدمة الركاب بالمأكولات والمشروبات. أتجنب، وأنا قليل السفر، ثقيل الصبر، الأكل والشرب في الجو، عاملاً بنصيحة سامي الحاج، الذي أُسر سبع سنوات في غوانتانامو، ونقل على طائرة أمريكية، في الامتناع عن الطعام والشراب. سألتني المضيفة عن شرابي وطعامي، فأشرت إليها أني نذرت للرحمن صوما. صديقي نوري طلب ما لذ َّوطاب من الشراب والطعام، فتبين له في ما بعد، ان ضيافة الطائرة غير مجانية، كما في طائرات العالم، فغرِّم بأسعارها الباهظة، وحكى لي بعد النزول على بر الأندلس أن المضيفات تعمدّن نسيان الفكة حتى يغنمنها، ولم يجرؤ أن يقول لهن قولة فاتح ترعة السويس، المشير الزغلولي، مخترع جهاز الكفتة، الذي سبب ضربة في الخصية لترامب: “الفكة دي أنا عايزها”. وسبب سكوت نوري على الفكة أن العربي، ومن في حكمه مثل الكرد والأمازيغ والبربر، يخجل من الحسناوات والقوارير، فقلت له: خطوط راين “هوب هوب” على ما يظهر، وأني كنت أخشى أن تبيع المضيفات العلكة بين الممرات، كما في الكراجات في بلادنا المعطاء مثل الباعة الجوالة.

جلس إلى جانبي في الطائرة ألمانيان، وهما شاب وصديقته، وكان يناوب بين الحين والآخر بين قبلة من ثغرها، وجرعة من علبة العصير، هو إلى جانب النافذة، وهي في الوسط، وأنا على الكرسي القريب من خطوط بائعات العلكة الفاتنات، وهن ذاهبات إلى السبيل لملء الجرار بعصير الغيوم.

الألمان حريصون على متعة السياحة، العطلة مقدسة، وإسبانيا وتركيا من أكثر الدول قصداً للسبيل السياحي، وكان الألماني الشاب قد وشم ساعده بعبارة عربية تقول: “أعط أي فرصة إمكانية تغيير حياتك” بالخط الفارسي، فسألته إن كان يعرف العربية، فنفى، فسألته عن سبب كتاب عبارته الأثيرة بالعربية، فقال إنه يهوى جمال الخط العربي، أخبرته أن العبارة جميلة وسليمة، لكن كان يمكن كتابتها بطريقة أكثر بلاغة وجمالاً وإيجازاً، كأن تقول: غيّر حياتك كل حين، فسألني عن معناها، فترجمتها له بالإنكليزية، فأخبرني بأنها عبارة ألمانية بالأصل، وهي قول سائر. أعدتُ له القول بأن الخط جميل والعبارة طيبة، لكن الحياة فيها مبادئ وأمور تتطلب الثبات لا التغيير، ثم وعظته قائلاً: هل تفكر في الحفاظ على صديقتك، أم سترغب في تغييرها، ففوجئ وهز رأسه، وشكرني. هؤلاء العلوج الكفار، أي الفلاحون، غيّروا، حتى لم يتركوا أمراً ثابتاً في حيواتهم.

بلغنا الأندلس، ونجونا من قصف الطائرات الروسية وبراميل الأسد، ونزلنا من الطائرة، فلفحنا حر شديد، كحر تدمر والحسكة، ثم أخذنا حقائبنا وخرجنا من المطار سربا، فوجدنا أن نساء الإسبان أكثر عرياً من نساء الألمان، فلعل الحر هو السبب، كلهن يرتدين ثياب البحر. فقرر نوري أن يبدّل بثياب البر ثياب البحر، كنا وصلنا إلى الشركة التي اتفقنا معها في ألمانيا على استئجار سيارة، فخلع بنطاله أمام الناس، وظهر بثيابه الداخلية، وهي ثياب بحر أبيض متوسط، بيضاء تسرّ الناظرين، فضحكتْ عليه السائحات، وتبادلن الهمس، مع أن ثيابهن التي تسرّ الناظرين لا تقل عرياً عن ثيابه الداخلية، بخلاف أن ثيابهن غير بيضاء، وهي علامة الداخلية. لم يحفل نوري بهن، وارتدى سروالاً بحرياً قصيراً يسرّ الناظرين، وصار جاهزاً للسباحة، وصيد اللؤلؤ المكنون في بحر الظلمات.

حاول الإسبان الكفار، أي المزارعون، العاملون في شركة تأجير السيارات خداعنا، والاحتيال علينا، وسلبنا بعض المال خارج العقود، باسم التأمين، لكن الساموراي السوري الأول، صاحبنا الذي بايعناه قائداً على فتح الأندلس مرة ثانية، وهو سوري ولد في ألمانيا، ورضع في لندن، وبلغ الفطام في باريس، ونكح في فيينا، كان له بالمرصاد. صورنا السيارة تصويراً دقيقاً، حتى لا يغرمونا بغرامة خدوشها القديمة، والسيارات في إسبانيا لا تنجو من قبلات الجدران وتحرشها، فشوارع أحيائها ضيقة، وكل الأحياء التي زرناها مبنية على المعمار الأندلسي، فعرض الشارع لا يجاوز المترين، لكنها أنيقة ومنسّقة وتسرّ الناظرين.

كانت الرؤى والأحلام هي من أهم محركات التاريخ والأحداث، وذكر المؤرخون أن قسطنطين الوثني رأى صليباً ملتهباً، وهاتفاً يقول له: بهذا تنتصر، فنصّب نفسه رئيساً للكنيسة، واحتفظ بمكانته كرئيس للكهنة الوثنيين، وتحولت أوربا كلها إلى المسيحية، فالناس على دين ملوكهم ولا يزالون. فتْحُ الأندلس بدأ برؤيا رآها النبي عليه الصلاة والسلام: رأيتُ كأنّي في دار عُقبة بن نافع، فأتينا برُطَبٍ أبّر -مُلَقّح- طاب، فأوّلتُها: الرفعة والعافية وإنّ دينَنَا قد طاب لنا”، ففتح بتلك الرؤيا عقبة بن نافع شمال أفريقية وأسس مدينة القيروان، وبلغ البحر، فاخترق بفرسه ماء المحيط، ثم قال: «يا رب لولا هذا البحر لمضيتُ في البلاد مجاهدًا في سبيلك، اللهم اشهد أني قد بلغت المجهود، ولولا هذا البحر لمضيت في البلاد أقاتل مَنْ كفر بك حتى لا يُعبد أحد دونك”.

ورأى طارق بن زياد الرسول عليه الصلاة والسلام، ومعه المهاجرون والأنصار، وقد تقلدوا السيوف وتنكبوا القسي، قال له في الرؤيا: “تقدم لشأنك”، فتقدم، وبدأ فتحها ثغراً فثغراً. وستتكرر الرؤى في الملمات والأحداث الكبرى. وكان عثمان بن عفان أول من فكر في فتح الأندلس، وكان موسى بن نصير والي أفريقيا، قد أرسل يطلب الإذن من الوليد ين عبد الملك لفتح الأندلس، فأمره بأن يرفق بالمسلمين، وأن يختبرها بالسرايا. وهو رفقٌ يذكّر برفق بشار الأسد بفتح المحافظات السورية!

الفرصة حانت عندما أرسل يوليان يستغيث بالمسلمين لنصرته على لزريق ملك القوط، وكان القوط الجرمان والرومان يحتلون إسبانيا، وكان أمراء الإسبان يرسلون أولادهم وبناتهم إلى بلاط الملوك لتعلم الآداب الملكية، فراود لزريق ابنة يوليان عن نفسها، فأبت، فاغتصبها، فشكت أمره إلى أبيها، فحقد يوليان على لزريق (رودريك)، وقرر الانتقام، كما يفعل ملوكنا هذه الأيام، باستنصار كفار أمريكا، أي مزارعيها، على إخوتهم المسلمين، هكذا أمسى يوليان دليلاً لطارق بن زياد، يدلّه على عورات البلاد. وكان يوليان يأمل بأن يكتفي المسلمون بالغنائم، ويعودوا إلى بلادهم، لكنه لم يكن قد سمع بقول الشاعر المتنبي: ومن يجعل الضرغام بازاً لصيده/ تصيده الضرغام فيما تصيدا. وسيكون الضرغام السوري بشار الأسد، وهو ليس بضرغام إلا على شعبه، صيداً لبزاة إيران، أو دببة روسيا، أو ذئاب أمريكا، أو لجميع الغزاة، كما سنرى في قابل الأيام، فري شورتلي. والأيّام بيننا كما ينهي أبو كلبشة – قاتله الله من كذاب أشر – مقالاته، فهو يتحدى فيها كلها القراء، وكأنه كاهن من كهنة الأولمب، ويقرأ كف الغيب.

المصدر : المدن

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here