كنت أخطب هامساً، في أصدقاء عرب وألمان، فقلت:
يا سادة العالم، يا أكثر الناس، مساء الخير، سأبدأ منوصفة وصفها الرئيس الأمريكي لأيام دكتاتورنا الحبيب “المعدودة”، في بداية إقلاع سفينة الثورة على البرّ، وفيها عدة زمنية جديدة لمباراة الطاغية الأبدية، غير الساعة والدقيقة والفيمتو ثانية، هي: “أيام معدودة”، فظنّها شعبنا وعيداً، وخرم الشعب السوري أذنه بانتظار الأقراط الذهبية. لكن وصفة أوباما، التي خدعنا بها، لم تخلُ من صدق لم يقصده، فقد كانت أيامنا السوداء كلها “مع دودة”، كما ذهبت الجملة الساخرة بعد حرف الوصف عن مساره، وتقطيع الوصف من كلمة واحدة بالسكين إلى كلمتين، بينهما منطقة عازلة.
وقلت: إن الشعب السوري، مثل بقية الشعوب العربية، كان معروفاً بقوة الشكيمة (وقد سألني المترجم عن معناها، فقلت العناد، والإباء، والأنفة). حتى إن الشعب السوري، كان أسرع الشعوب طرداً للاستعمار الفرنسي، فقد لبث فينا ربع قرن، وهي مدة قليلة قياساً إلى قرن ونصف، مدة استعماره الجزائر منذ سنة 1830، وكنا نبدّل رؤساءنا كما يبدل المرء جواربه وثيابه الداخلية، بينما نجح الاستعمار “الوطني”، أو المقنّع بالوطنية والحداثة، والمتنكر بالعروبة، في احتلالنا نصف قرن، انتهى إلى دمار شامل للبلاد والعباد، وهو الاحتلال المتمثل في أسرة الأسد، والذي ظهر أنه أقوى من الاستعمار الفرنسي شكيمة (قلت للمترجم بأنها تعني الحديد والبطش).
والسبب في طول عمره هذه المرة، أنه استفاد من علوم ابن خلدون، الذي قال: إن العرب لا يقع لهم ملك إلا بالعصبية أو الدين. وقد جمع بينهما، فنبذ المحتل البعث، أو بدّل ثيابه، وارتدى ثياباً داخلية طائفية، وخارجية قومية واقية من الصدمات والبرد. وأضاف الاستعمار الوطني إلى علوم ابن خلدون العصبية والدين سببا ثالثا، هو الخوف، فعاش طويلاً بالأكاسير الثلاثة، فكان الطغاة الذين سبقوه يقتلون فرداً أو اثنين، فتذعرهم الجريمة، فيهربون، أو يسقطون في المظاهرات، بينما قرر الطاغية الجديد، الطاغية الأب، قتل الشعب بالجملة في حماة وحلب، وفيهم أطفال ونساء، ودمّر أحياءً على رؤوس أصحابها.
أمل الشعب السوري أن تنتهي أيام الأسد الابن في أيام معدودات، فإن لم يمت بالمظاهرات، خجلاً من دماء الضحايا، فسيموت بسبب تعطل حركة الاقتصاد، ومن الإفلاس، لكنه عاش بالمعونات الإيرانية والسلاح الروسي، وتبين أن هذه الدودة الشريطية حية، بل هي ثعبان مبين. والثعبان أطول الكائنات عمراً، لكني سأمضي إلى تأويل آخر لدودة الأسكاريس التي عاشت في جسم سوريا، وأتلفته، وحرصت على تحويل الشعب إلى كائن رخو يشبه الدودة، من غير حول ولا طول.
أيها السادة: إن عرب الجزيرة العربية، لم يكونوا يدينون في ماضيهم لملك أو سلطان، وقد تحولت الخلافة إلى كسروية عضوض في الشام، وما زال في العرب هذا العرق الدساس الرافض للملك، دليل ذلك قولة شكري القوتلي: “سأسلمك شعبا نصفه زعماء ونصفه الآخر أنبياء”. أما عرب الشام، وعرب اليمن، فكانوا ملوكاً تابعين لفارس أو للروم. وربما هذا هو سبب الأزمة الدستورية في التاريخ الإسلامي، التي ما تزال قائمة حتى اليوم، كما يصفها الباحث محمد مختار الشنقيطي.
استفقنا بعد مذبحة الثمانينيات لنجد أنفسنا دوداً، لا نجرؤ على الحركة، ولا على الكلام، مقيدين بالأحكام العرفية وقانون الطوارئ، وقيود الخوف أوثق وأقوى وأشد. وكنا نرى الباطل، فنصفق له، وكأنه بطل لرياضة كمال الأجسام، ونرى الحق فندير له ظهورنا، وكأنه رذيلة، فقد أجبرونا كثيراً على الزحف للاحتفال بانتصار الباطل على الحق في المناسبات الوطنية، ورقصنا، وكان الذي يأمرنا دودة، غير أنه دودة سامة.
وذكرت في خطبتي أنه في أيام الانقلابات، وهي أيام ظلم، كان المخابرات يغيرون على بيوت الناس في الفجر، أما في أيام الدودة الشريطية السامة، فصارت المخابرات تتصل بالمشبوه المطلوب هاتفياً، وهو عادة إنسان يرفض العيش مثل دودة، أو هو دودة تهمّ بالتحول إلى فراشة، فيأتي بنفسه من غير كتيبة دهم، مثل المنوّم مغناطيسياً، فتقص له المخابرات أجنحته، كما في أيام التتار والمغول، عندما كان التتري يوقف الضحية في بغداد عاصمة الخلافة، ويقول له انتظرني حتى أحضر السكين، فيذهب إلى بيته، ويحضر السكين، ويعود، فيجد الضحية في مكانه، فيذبحه. وعندما انطلق قطار الربيع العربي، مجتاحاً دول الجيران؛ تونس وليبيا ومصر، سخر بعض الناشطين من الشعب السوري المكسور، وصدر صوراً للمداجن السورية، والدود.
وضربت بنفسي مثلاً، كنت أحضر المهرجانات الخطابية، فأحاول أن أحرك لساني معترضاً، لكن لساني، وهو أقوى عضلات الإنسان. اللسان هو العضلة التي لا يصيبها تعب، كانت تعصاني، كما في وحول الكوابيس البالعة، ليس في المهرجانات الخطابية فحسب، وهي وقود الطغيان وأعراسه، بل حتى في جلسات الأصدقاء، الذين كان المنافقون منهم يتغزلون بقوة الرئيس، والحق أنه كان قوياً، وقوته من ضعفنا.
كنت مثل غيري من أبناء الشعب، الذي تحول كله إلى ذوي احتياجات خاصة، يحتاج فيها هذا المواطن المشلول، الدودة، إلى مساعدة في الحصول على جرة غاز، أو رغيف خبز، وهي شؤون يومية، أما إذا احتاج إلى أمور أكبر، مثل بناء حائط في بيته، أو غرفة، أو صبة سقف، وليس بيتاً كاملاً، فيحتاج إلى سنين طويلة غير “معدودة”، والزواج صار أشبه بإقامة دولة، فكثر التحرش، وساءت الأخلاق، فطاقة الليبيدو تحتاج إلى تصريف. تحولت الطاقة العقلية إلى طاقة ليبيدو مهدورة في الحلم بالمرأة، ثم كان أن اكتفى الدود بنفسه جنسياً، كما هو حال دودة الأرض.
ثم كانت صيحة أطفال درعا، التي كانت تشبه برقاً نووياً خارقاً ضرب الشعب، فتحوّل كثير من الدود إلى فراشات ملونة، وتحولت بعض الفراشات إلى دبابير، وأخرى إلى جراد، وعقارب، وثعابين كبيرة كالبغال، ودافع الرئيس بشدة عن مثابته الأولى، أن يكون هو الدبور الأقوى بين شعب من الدود، تحفّه دبابير سامة تدافع عنه بشدة، ووقف زعماؤكم (في الغرب) مع الدبور الكبير؛ لأنه يحب الدبابير النادرة، ويهوى الصراع، ويخاف من الفراشات الملونة، وأجنحتهاالجميلة، وعسل النحل الطيب الذي سينافس بضاعته. وإننا، دوداً وفراشات، أكلنا هذه المرة ورقة التوت، التي تستّرت بها الدودة العملاقة، فظهرت عورة النظام أمام العالم، لولا أن الروس والإيرانيين صنعوا له ورقة توت جديدة فولاذية، لستر عورته، بقصة مكافحة الإرهاب، وحاولوا إعادته تنّيناً من جديد، وإعادتنا إلى دود يصنع الحرير وسادةً للتنين، الذي استعان بمليشيات الديدان الدبوسية الطائفية، والديدان السوطية، والديان الحرشفية، وغيرها من الديدان الطفيلية، هذه هي القصة باختصار.
وقلت في شرح معنى “أيام معدودة” ختاماً: إن الزمن مهما طال قصير، وكل آتٍ قريب، ولا غالب إلا الله.
المصدر : عربي 21