لم يكن تيار الواقعية السحرية مجرد تيار أدبي شق نهرًا جديدًا في الكتابة العالمية فحسب، وإنما كان أيضًا ثورة في الكتابة وفي المنظور الفني، كان الطريقة المثلى للنظر إلى داخلنا، واستعارة مفردات ثقافتنا، لإعادة تشييدها بطريقة أكثر صدقًا، من دون التبرؤ من أفكار العامة ومعتقداتهم. ورغم أن خوان رولفو، صاحب “بدرو بارامو”، هو من يُنسب إليه تأسيس التيار الأميركي اللاتيني، إلا أن ثمة اتفاقًا بين النقاد على أن “مئة عام من العزلة” لماركيز هي العمل الممثل لهذا التيار، أكثر حتى من أعمال ماركيز الأخرى.
لكن المسألة لا تنتهي باتفاق. اعتراف ماركيز بأثر “ألف ليلة وليلة” عليه، والأثر العربي الإسلامي الواضح في نتاج بورخس، خاصةً السردي، والهجرات العربية إلى أميركا اللاتينية في القرن التاسع عشر، وتركزها بالتحديد في كولومبيا، والأرجنتين، وتشيلي، كل هذا اقترح افتراضية أخرى عن أصول عربية للواقعية السحرية، وهي أصول نبعت من الحياة والتجربة بقدر ما نبعت من المعتقد الديني نفسه، إذ إن رحلة الإسراء والمعراج ألهمت المعري لكتابة رسالته، التي فتحت الأفق بدورها لـ دانتي أليغيري لكتابة “الكوميديا الإلهية”، الكتاب الذي منح أوروبا رافدًا خياليًا جديدًا سنجد أعمالًا مكتوبة على منواله في ما بعد، مثل “الأربعينية” لخوان غويتيسولو، وتصورات فنية استعارها ماركيز، وبالأكثر خورخي لويس بورخس، حيث الواقع منطقة بين حلم وحلم. لكن الفارق الجوهري، أن الواقعية السحرية اللاتينية، غير أنها ابنة مجتمعها وثقافتها، هي ابنة فقدان الإيمان بالحداثة، وتبنٍ واضح لتيار ما بعد الحداثة، ابنة التمرد على الديكتاتوريات العسكرية، والحرب العالمية الثانية والنازية، وبالتالي ابنة الحقيقة النسبية والاعتراف بهشاشة الإنسان.
لآن، مع صدور أنطولوجيا جديدة في برشلونة، ثمة مقترح جديد بأسبقية كُتّاب من كتالونيا في كتابة الواقعية السحرية، وفي فترة زمنية تسبق الأعمال الأميركية اللاتينية. والأعمال المختارة نُشرت بين عامي 1923 ـ 1945، أي قبل كتابة “مئة عام من العزلة” بـ 44 سنة.
تضم الأنطولوجيا أعمالًا لـ أبل ميستريس (قصة مكتوبة عام 1928)، وبيري كالديرس (1936)، وفرنثيسك ترابال (1938)، وسلبادور إسبيريو (1935)، وجوان أوليفير (1945)، بالإضافة إلى عشرات المؤلفين الكتالونيين الذين تتفق كتابتهم مع هذا التيار، مثل الإيطالي ماسيمو بونتمبيللي، بصفته أحد مؤسسي التيار، ورامون بينيس، الشهير بـ”حكيم كتالونيا”، الذي استشهد به ماركيز في روايته، وقام بدور الجسر بين أوروبا وكولومبيا في الستينيات. هذا على الأقل اقتراح رامون ماس، مؤسس دار “ماليس هيربيس”، وكاتب مقدمة “فكاهيون، مخادعون وكاذبون”.
نقاط الالتقاء بينهما متعددة، بحسب ماس، منها أن الواقعية السحرية الكتالونية اعتنت بالحكايات الشعبية والأغاني والأساطير، حتى لو لم تتخل عن الرواية الكوستومبرية (العاداتية)؛ كذلك المناخ الثقافي لكتالونيا العشرينيات، وانفتاحها الكبير على التجريبية والطليعية، ما تجلى في أعمال فنانين مثل بيكاسو والتكعيبية، وطباعة مجلة 391 الدادائية تحت رئاسة فرانثيس بيكابيا، وقصص جوان سلبات في لا ربيستا، من بين كُتّاب آخرين. كان ثمة حراك وانحياز لما هو فانتازي وطازج.
افتراضية ماس، التي تتلاقى مع افتراضية باحثين آخرين، مثل أنطوني مونيه غوردا، وبيكتور مارتينيث، تتأسس على أن جيلًا من الكتاب الكتالان رأى في مقترحات بونتمبيللي عربة صالحة للصعود إليها، والتعبير عن قلقهم الإبداعي. حينها كان الكاتب الإيطالي قد نشر روايات “الحياة المكثفة” (1920)، و”الحياة المزدحمة” (1921)، وهما عملان سيطر فيهما المفاجئ والغريب على دفات السرد. وفي أحد تصريحات بونتمبيللي قال: “نريد أن نرى الحياة العادية واليومية كمعجزة مغامِرة، كمغامرة مستمرة”. وبداية من عام 1926، ومع قصة “الرياح الطيبة” المنشورة في مجلة أوكثيدنتي، بدأت شهرته في إسبانيا، وفي عام 1935 تُرجمت أعماله للكتالونية.
زار بونتمبيللي العاصمة الكتالونية في هذا العام نفسه، ليروج لكتابه، ويعطي محاضرة عن المسرح. والتقى في برشلونة بـ بينيس، الذي كان يعمل كمؤلف مسرحي في الطليعة، وأسس مركزًا ثقافيًا للطليعة اعتاد ماركيز على زيارته.
بينيس حاضر في الأنطولوجيا بقصتين صدرتا عام 1945، “تتمتع كل واحدة منهما بالموسيقية والحركة، بنثر فريد وأسلوب رشيق، لكنهما عقدتان وشديدتا الأصالة”، بحسب مقدمة ماس، وتتمتعان بحكمة شعبية. ماس يرى أن للقصتين علاقة بـ”مئة عام”، بالإضافة لما سبق، لوجود العوالم اللاواقعية والمشاهد الجريئة والأحداث شديدة الخيالية، لدرجة تهدم القانون الطبيعي.
بحسب كاتب المقدمة، لم يُستأصل أبدًا تيار الواقعية السحرية من الأدب الكتالوني، ويشير إلى كالديرس، كحارس لهذه الجذور، ولا ينفي أن المثقفين، وعالم النشر في الخمسينيات والستينيات، كانوا يحتقرون أي أدب لا يتسق مع الواقعية التاريخية، لكن في السبعينيات كان زهوة الأدب التجريبي الذي تغذى على الخيال كبديل للواقع؛ وهو ما كان موجودًا في كتالونيا منذ عام 1923.
والحقيقة أن الكتاب بطرحه يجعلنا نعيد النظر في جذور الواقعية السحرية، التي وجدت من قبل أن يوجد المصطلح. فإذا كان السرد الأميركي اللاتيني قد حقق انتشارًا في أوروبا لظرف تاريخي هو الحرب العالمية الثانية، وما تبعها من فقدان الثقة في الواقع، والعلم، والفلسفة، كأطواق نجاة للإنسانية المعذبة، وبالتالي كان اللجوء إلى الميتافيزيقي للإجابة عن الأسئلة الكبرى الخاصة بوجودنا، فالسرد الكتالوني ناسب تاريخيًا الحرب العالمية الأولى، التي هزت المواطن الأوروبي بالطريقة نفسها، وجعلته يعيد الأسئلة نفسها. في الحالتين، ثمة إبداع يبتعد عن الواقع بخطوات، أو يعلوه بأمتار، لينظر إليه من مسافة، وفي هذه المسافة يمكن رؤيته بشكل أفضل. لذلك، تتميز كتابات الواقعية السحرية بخروجها عن الواقع المألوف، لتلتقط الغريب والشارد، لا تقصي من الواقع ما لا يناسب الفلسفة المادية، وإنما تعامل الحلم وأحلام اليقظة والأحداث الخارقة والمعتقدات الغريبة كجزء لا يتجزأ من عالم نعيش فيه. لذلك، فإسهامها الأكبر هو التعرف على العالم، وعلى الإنسان، بطريقة مختلفة، من دون التكبر على ما يميز الثقافة المحلية.
وأخيرًا، فإن ماركيز، سواء اطّلع على الأدب الكتالوني، أم لا، وسواء تأثر به، أم لا، يبقى الاسم الأنصع في رسوخ هذا التيار.
(ضفة ثالثة)