أحمد عبد الحليم: جوابات السجن.. في إمكانية تأريخ المشاعر

0

نعرف أدب السجون، وأدب الرسائل، ولكن في هذا المقال سنلقي الضوء على أدب رسائل السجون، هذه الرسائل الفنية المملوءة بالقيمة اللغوية، وما يزيدها جمالًا شاعريّتها وأحاسيسها وقيمتها بالنسبة للمُرسِل والمُرسَل إليه، فهي الأداة الوحيدة المتبقّية للسجين ومُراسله، التي تُحرره من عالمه المنعزل بالأسوار إلى الأشياء والأجساد التي يُريد ملامستها والتلاقي بها. فمن يُراسل السجين، وعمّا يُحدّثه، وكيف تمثّل جوابات السجين آخر حياةٍ بالنسبة له؟

مَن يُراسل؟

على مرّ الزمن، لا تخلو زنازين مصر والعالم كلّه من السجناء بكافة تنوعاتهم واختلافاتهم الماديّة، التعليمية والاجتماعية. وأُرسل من داخل تلك الزنازين إلى الخارج والعكس، عدد لا يُحصى من الأوراق المكتوبة، المملوءة بفيض لا يُعدّ من المشاعر والأحاسيس والوعود والحكايات والشكاوى والرضى. كل ورقةٍ مهما تنوّع محتواها تمتلك خصوصية لدى كاتبها وقارئها، لا ورقة فوق ورقة، ولا قلم أفضل من قلم. تختلف تلك المراسلات عن غيرها، من المراسلات التي تمّت ونُقلت تحت أدب الرسائل بالرغم من أنّها تُرسل إلى الأصدقاء والأقارب والأحباء، لكونها رسائل مُقيّدة بالأسوار والجدران والقضبان.

ماذا يُرسل؟

يتواصل السجين مع أصدقائه، يحاول إنعاش ذاكرته التي يتمّ مَحوها من خلال السياسات الحياتيّة لدى السلطة العقابية، التي تساعد بفضل الانعزال التام في محو الذاكرة الخارجية، الحياة الإنسانية التي كان يعيشها السجين قبل سِجنه، فيبدأ في كتابة ذكرياته مع أصدقائه، في اللعب والمذاكرة والحكايات الكوميدية بينهم، ويشكرهم على عدم نسيانهم له ووقوفهم بجانبه أو بجانب أسرته في هذه المِحنة.

يحاول أيضًا نقل الصورة التي يراها، التي ما زال لا يُصدقها، ولا خطر في باله يومًا من الأيام أن يعيشها، كما في مراسلات المناضلة العمّالية روزا لوكسمبورغ إلى صديقتها سونيا ليبكنخت في أثناء سجنها بين عاميّ 1914 و1918، حيث حاولت روزا تصوير حياتها الجديدة لسونيا، وصفت لها نومها على فراشٍ كالصخر من شدّة صلابته، وشعورها وكأنها ساكنة داخل قبرٍ، وكيف قضت عيد ميلادها الثالث داخل السجن، وصوت حارس الزنزانة، وبالرغم من قسوة الزنزانة كانت تَشّعر بعذوبةٍ غير مَفهومة. كذلك كل سجين وسجينة يحاولان أن تكون حياتهما الجديدة محل تصوّر لمن لم يعشها.

يُراسل السجين أيضًا أهله، الأمّ والأبّ والأخ والأخت، أو من تبقى له من عائلته ويُحبّ أن يتواصل معهم. يحكي لأمه عن حياته الجديدة، يحاول إيقاف دموعها بأي كلمة، الدموع التي لا تقف إلّا بانتهاء الأسرِ، ويحاول السجين الاعتذار، عن أي شيء، ليس عن كونه فعل شيئًا ما تسبب في سجنه، بل الاعتذار بشكلٍ عام، عن هذا الوجود الذي منح أمّه المشقّة. هناك كلمات أيضًا تُنبّه الأب بألّا يحزن، تشكره على تحمّله محتويات وتكاليف الزيارة من ملبسٍ وطعام، أي كلماتٍ تساعده في فرد ظهره من الانحناء في أثناء الانتظار، أو تكون بمثابة مظلّةٍ من نار الشمس الحارقة لأخٍ أو أختٍ في انتظار طابور تسجيل الزيارة، غير الذكريات الجميلة، والتمنّي مستقبلا بأنّه ستجمعهم ذكرياتٍ أُخرى، فَانتهاء الأسر مهما طال سيأتي.

حاول المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، من خلال رسائله إلى أُمّه وأبيه وزوجته، طمأنتهم بشأن معيشته داخل السجن بين عاميّ 1924 و1937. كما أن رسائل بيجوفيتش إلى ابنته المُلحقة في كتابه “هروبي إلى الحريّة” الذي كتبه بفترة سجنه بين عاميّ 1983 و1988، أوصتها بالانتباه إلى أهميّة تربية الأبناء، وفَضفض لها عن معنى وقيمة الحريّة والحبّ، حيث كتب لها يبدو أنّ الحب يحل كُلّ الألغاز التي تعجز عنها كل العقول في العالم”. وثمة رسائل أُخرى كَتبها السياسي الهندي جواهر لال نهرو إلى ابنته أنديرا حين كان قابعًا في سجنه في عشرينيات القرن الماضي.

أيضًا هناك كلمات الأحبّة. هنا تتداخل جميع المشاعر، الامتنان، الصبر، الرضى، المثابرة، التحدّي، والتمنّي. عامًا بعد عام يغلب الصبر التمنّي، ويصارع الحب ببقائه ضعف ذهاب الزمن. تقول إنّها تنتظر ويُجاوبها من وراء قلبه ألّا تنتظر. سمعنا مؤخرًا عن الأسير الفلسطيني الذي خرج عام 2019 من سجون الاحتلال ليتزوج حبيبته التي انتظرته 16 عامًا، وغير ذلك من القصص حاضرة وتشهد على قيمة الوفاء في الحبّ. 
أيضا دوّن الكاتب المصري مصطفى طيبة مئة رسالة لحبيبته، في أثناء سجنه بين عاميّ 1952 إلى 1964، نُشرت في كتابه أو سيرته السجينيّة المعنونة بـ”رسائل سجين سياسي إلى حبيبته”، حيث راسل حبيبته، وصوّر لها حياته، مشاعره وأفكاره طيلة فترة سجنه. كذلك فإن الكاتب والصحافي المصري، مصطفى أمين، لم تمنعه ويلات العذاب والسجن في عهد عبد الناصر من مراسلة حبيبته والفضفضة والبوح معها، بكل ما يراه ويريد إرساله لها، وقد نشرها بعد خروجه في كتابٍ عنّونه بـ”سنة أولى سجن” عام 1975.

تأريخ المشاعر

لا تذهب تلك المشاعر في الأوراق هباءً بعد قراءتها، بل تُحفظ، يحتفظ بها المُحرَّر في مكانٍ ما، ليكوّن بذلك أرشيفًا من الذاكرة المشاعريّة، يكون شاهدًا على قصة هؤلاء الأشخاص، الأسرى ومُراسليهم، قصة تسجّل، بل وتؤرّخ حتى ولو على المستوى الشخصي والوراثيّ بين العائلة، وبدوره السجين يبدأ في تجميع الرسائل المرسلة له، ويُخرجها لتخزّن في مكانٍ آمن، حيث في زمن آخر يمسك الحفيد أوراقًا باهتة، ويُعرّفها بأنّها أوراق عمرها 100 سنة، كُتبت بواسطة جدّه الأكبر عندما كان سجينًا.

على صعيد آخر فإن جوابات الأسطى حراجي القط وزوجته فاطمة أحمد عبد الغفار، التي ألّفها الشاعر المصري الراحل عبد الرحمن الأبنودي، ونشرها لأول مرّة عام 1969، هي مراسلات متبادلة بين حراجي، العامل الفلاح الذي انتقل إلى أسوان للعمل مع عشرات الآلاف في بناء السد العالي، تاركا زوجته التي تسكُن في جبلاية الفار، القرية الصغيرة القاطنة في مدينة السويس. وهو يحكي لها وتحكي له عن الاشتياق للأرض، البيت، الونس، وعن العمال، البناء، وسير العمل، لتكون تلك الجوابات تأريخًا من الأبنودي لذكريات المعاناة التي شَهدها عمال بناء السد العالي وذووهم.

لا شك في أن جوابات السجن، تلك الأوراق الباهتة، يجب تدوينها، لتخرج من ذاكرة المشاعر الفردية أو الثنائية ولتكون أرشيفًا مشاعريًا لمرحلةٍ ما من تاريخ الإنسانية.

(ضفة ثالثة)