أحمد طلب الناصر: الشاعر الذي اجترح الثورة ومضى وحيداً.. في ذكرى رياض صالح الحسين

0

عاش في صمت وسكون، وكذلك حين رحل، دون أن يسمع به كثيرون، ودون أن يصنع من سمع به وعرفه من قصة وفاته المبكّرة، ميداناً للنحيب والرثاء وسرد مناقب الفقيد كما جرت العادة.

رحل رياض صالح الحسين منذ 38 عاماً، في العشرين من تشرين الثاني 1982، قبل أن يبلغ الثلاثين بعامٍ ونيّف، لكنه أتمّ أربع مجموعات شعرية تكفينا لنقرّ بأنه صاغ نهجاً جديداً في الشعر الحر ونصوص النثر، وتبوأ من خلالها مرتبة “رائدٍ” بامتياز.

 المعاصرون للشاعر الحسين ممن ربطتهم به علاقة معرفة أو صداقة من داخل الوسط الأدبي، وهم قلّة، والقارئون لنصوصه من خارج دائرة المعرفة الشخصية، يدركون جيداً مدى الخصوصية والاختلاف في شعره، في زمنٍ كانت قصيدة النثر قد أنهَتْ لتوها معركة إثبات الذات، أو كادت، بالرغم من حضور محمد الماغوط وعلي الجندي وفرج بيرقدار وبشير البكر وفايز خضور وفواز القادري وإبراهيم الجرادي ونزيه أبو عفش وكثيرين غيرهم.

عذاب بهيئة إنسان

ولد رياض في مدينة درعا 1954، لكنه ينحدر من بلدة “مارع” بريف حلب الشمالي، وتوفى عام 1982 وعمره 28 عامًا ونيّف.

فقد رياض قدرته على السمع والنطق على إثر جراحةٍ في صغره، حين كان عمره 13 عامًا، ولم يكمل تعليمه. وبينما كان والده موظفًا بسيطًا كان رياض مُطالبًا بالخروج في سنٍ مبكرة لسوق العمل للمساعدة في تدبير النفقات.

غادر بلدته مارع وذهب إلى مدينة حلب. وهناك عمل بشركة النسيج ثم في إحدى المؤسسات الجامعية.

وأورد صديقه الشاعر “منذر المصري” الذي جمع دواوينه وطبعها ضمن مجلد “الأعمال الكاملة” بعد انطلاق الثورة السورية وذلك عام (2012)؛ في مقدمة الأعمال الكاملة كان رياض “يغيظه أن ينتبه أحد ما، من خارج دائرة أصدقائه ومعارفه لإعاقته السمعية والنطقية ويسأله عنها. لم أسمعه يتحدث عن أهله ولا عن دراسته. أمّا مرضه فقد كان يودّ لو يخفيه عن الجميع”.

تعرض رياض لتجربة حبّ قاسية بعد أن هجرته حبيبته، فدخل في نوبة حزن واكتئاب وامتنع فترة عن الطعام. وبعد أن ساءت حالته الصحية تم نقله إلى مشفى “المواساة” في دمشق، ليتوفى خلال وجوده فيها بصورة مفاجئة ومفجعة بعد تعرضه لفشل كلوي.

أحد أصدقائه الذين لازموه خلال وجوده في المشفى، هاشم شفيق، يروي في مقالة كتبها بصحيفة “القدس العربي” تفاصيل محزنة حول ما حدث لرياض بعد دخوله المشفى، فيقول:

“في تلك الأيام العصيبة من معاناة الشاعر المأساوية وهو يواجه مصيره الحزين، انفض الجميع عنه، وخصوصاً الصحاب، وهم كثر ممن كان يلتقيهم يومياً في مقهى “اللاتيرنا” و”الهافانا” و”الروضة”، أو في حانة “الريّس” و”فريدي” أو في غرفة الشاعر “بندر عبد الحميد”.

تهرّب الكل تقريباً لحظة سقوطه، حتى أهله لم أرَ واحداً منهم، والأصدقاء الذين كتبوا عنه فيما بعد بحس الخبير والعارف بتفاصيل تلك الأيام واللحظات الأخيرة للشاعر، حتى المرأة التي كان يحبها لم تأت لرؤيته. لقد كان وحيداً في سريره كالسياب في لحظة سقوطه، كرامبو أثناء عودته إلى شارفيل ودخوله المستشفى وحيداً ما خلا شقيقته إيزابيل”.

ثورة الحسين

“خراب الدورة الدموية” و”أساطير يومية” و”بسيط كالماء واضح كطلقة مسدس” و”وعلٌ في الغابة”؛ هي مجموعات/ دواوين الحسين الأربعة التي تُشعِرُنا في تناولها لجوانب الحياة السريعة التي عاشها الشاعر، المريض والحزين والفقير والغاضب، والعاشق، بأن ثمّة طوفان قادم، وأن ثورة تختبئ داخل كلماته لن تلبث إلا أن تتجسّد وتعلن عن نفسها.

استطاع الحسين، بكلماته البسيطة والناعمة، الدخول دون تكلّف إلى مشاعر وأحاسيس، بل وإلى ذاكرة من قرأ سطوره. ومن صور تلك البساطة ما كتبه في توصيف نفسه بديوانه الأول “خراب الدورة الدموية/ 1979” حين يقول:

“كئيبًا ومنفتحًا كالبحر، أقف لأحدِّثكم عن البحر

مستاءً وحزينًا من الدنيا، أقف لأحدِّثكم عن الدنيا

متماسكًا وصلبًا ومستمرًّا كالنهر، أقف لأحدِّثكم عن النهر”.

أو في نصّ آخر يحاكي صراعه مع الموت:

“أمس لم يسأل عني أحد

زارني الموت ولم يكن على الرفّ قهوة

 ولأن الموت يحب القهوة مثل جميع الناس

فلقد قلب شفتيه وصفق الباب وراءه

ومضى في قطار العتمة”

وفي القصيدة التي عنونها بـ “الرجل السيّئ” حين تنبأ فيها بنهايته القريبة والمفجعة:

“أنا الرجل السيئ

كان عليّ أن أموت صغيرًا

قبل أن أعرف المناجم والدروب

المرأة التي تغسل يديها بالعطور

والملك الذي يزيّن رأسه بالجماجم”

وبتلك اللغة الانسيابية و”البسيطة كالماء” استطاع الحسين أن يتنبأ أيضاً بثورة السوريين بصورة أوضح من “طلقة مسدس”. فيخاطب في البدء بلاده، “سوريا القاسية”:

“يا سوريا القاسية

كمشرط في يد جرَّاح

نحن أبناؤك الطيِّبون

الذين أكلنا خبزك وزيتونك وسياطك

أبدًا سنقودك إلى الينابيع

أبدًا سنجفِّف دمك بأصابعنا الخضراء

ودموعك بشفاهنا اليابسة

أبدًا سنشقّ أمامك الدروب

ولن نتركك تضيعين يا سوريا

كأغنية في صحراء”

وليصل في نهاية المطاف إلى عرض كل ما من شأنه أن يعلن الانفجار وثورة الإنسان:

منذ أن ولدت بلا وطن

ومنذ أن أصبح الوطن قبرًا

ومنذ أن أصبح القبر كتابًا

ومنذ أن أصبح الكتاب معتقلاً

ومنذ أن أصبح المعتقل حلمًا

ومنذ أن أصبح الحلم وطنًا

بحثت عن غرفة صغيرة وضيِّقة

أستطيع فيها التنفُّس بحريَّة”

كلمة بحقّ رياض

في وصف رياض صالح الحسين، يرغب الشاعر “محمد خالد الشاكر” الذي عشق منذ صغره تجربة رياض ولغته وحفظ نصوصه عن ظهر قلب، أن يتحدث عنه لموقع تلفزيون سوريا في ذكرى وفاته.

يقول الشاكر: “رياض صورة حية لسيرة حصان جموح رفض أن يؤطر في إسطبلات التهميش التي يعاني منها المثقف العربي في وطنه فآثر أن يغادر أصمّ أبكم مع القصيدة التي أذهلنا بها أكثر من ذهولنا المبكر برحيله.

هو شاعر غير مقونن، لذلك ارتعش وحيداً في المشفى كارتعاش التويج إذا بكى، فتساقط ندى، مازال يعرش على شغاف القلوب.

قصة رياض هي أكبر من سيرة  شاعر، وأنقى وأعمق من قصائد تتدوالها العاشقات، أو تصدح بها منابر القصيد والتصفيق، فرياض أسفار وطن مركوز في خاصرته قصص المهمشين والبسطاء والفقراء، التي تراكمت بعد موته انفجارات مدوية لمجتمعات المخاطر التي استشرفها رياض وعشناها نحن.

رياض العشريني، النديّ، الذي آثر أن ينفجر لوحده، إذ كيف لشاعر لم يتجاوز عقده الثالث أن يغتال قصائده بغير روحه وأحلامه؟ عاش رياض مؤطراً بغمام الشعر فلم تنل منه وحول العمر مثلما نالت منا.

رياض فارس مسكون بوطنه، وبطالته، ومعاناته اليومية مع الفاقة والتهميش والطموح والكبت. لذلك  قرر أن يغفو كـ “وعل في الغابة” دون سابق إنذار، تاركاً أنهاره دون سدود، فسنواته القصيرة العجاف حالت دون قوننة جريانه الجموح. وحده الموت استطاع أن يقونن محاولاته الغزيرة في الشعر، والقصة القصيرة، وقصص الأطفال، والمقالة الصحفية، والنقد الأدبي.

 في ذكرى رحيلك أيها المنسي العظيم، مازلنا ننتظر زماناً يليق بك. نحلم بوطن تنتصب فيه قامات من يشبهوك من المرميين على أرصفة الحلم، تماماً كما تنصب قامات بوشكين وكافكا وشيلر، وهم يذكّرون الأجيال بقصص القهر والكبت والإقصاء والخلود”.

رياض.. نحن

رياض صالح الحسين، باختصار، هو قصصنا وتفاصيلنا اليومية، مع فارق وحيد أنه كان ندياً أكثر منا نحن الذين هجرنا الشعر. ورياض الشاعر الذي اتقن مهمة الشعر والشعراء في هتك ما كان يحجبنا عن القادم، واستشراف ثورتنا القادمة، كالبلابل والطيور التي تستشعر الزلزال

سريعاً، كغيابه، ألقى رياض عناوين مجموعاته الشعرية في وجه هذا العالم فعرفناه أكثر وأكثر بعد موته البهي.

غادرنا رياض يغالبه زحامنا وارتباكنا، تاركاً تفاصيل “أساطيرنا اليومية”  تنخر في ” خراب دورتنا الدموية”، فكان وحده الـ “بسيط كالماء.. والواضح كطلقة مسدس”. الوحيد الذي ضج بحالنا وحاله كـ “وعل في غابة”، ثائراً على شقاء طول الأمل، الذي ما انفك  يصلبنا على ناصية هذا الحلم.

*تلفزيون سوريا

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here