أحمد صلال: حوارات الحب والحرب في رواية “قماش أسود”

0

لا بد من الإشارة بدايةً إلى أن جمالية نص رواية “قماش أسود” للكاتب “المغيرة هويدي”، وأهميته الإبداعية والمعرفية، لا يمكن أن يعطيه حقه أي عمل نقدي محتمل. إذ إنه لا يروي قصة ولا أحداثًا متسلسلة يمكن اختزالها في نص يكتب على هامشها، على غرار ما تقدمه الرواية الكلاسيكية.

ما يشد القارئ إلى “قماش أسود”، إبداع أسلوبها ودقة وسمو معانيها. إذ عمد الكاتب إلى آلية احتساب الأفكار وتكثيفها لتصب في عملها الدلالي، وترك للقارئ فسحة واسعة للتحليل والاستيعاب، ضمن قالب أدبي فني رفيع، جسد فيه كاتب الرواية جمالاً في الأسلوب وعمقاً في المعنى، وجمع بين جاذبية أدب الرواية ومتعة الفلسفة.

لا يسع قارئ رواية “قماش أسود”، إلا أن يجزم بوصول الباحث عن الحرية إلى ضالته المنشودة، بمجرد قراء الرواية، وكذلك الأمر بالنسبة لكل من يتوق إلى جمالية الذوق الأدبي الرفيع والحس الفني الإبداعي.

أهمية الرواية وخصائصها الجمالية، تتجسد في أبداع كاتبها بأساليب الحوار، بدءاً من الفصول الأولى، بحوار بين سيدتين: “آسيا” و”نسرين”. ويزداد الحوار حضورًا مكثفاً وعميقاً، ليهيمن كليًا على النص الروائي.

يعد العمل بحق إغناء للمكتبة العربية، لما يشمله من تميّز في الإبداع الأدبي، كما أنه رواية جديدة تعكس خصائص رواية ما بعد الحداثة، التي تمنح الكاتب حرية التصرف في شكل بناء الرواية وأسلوبها.

إنها السمات التي يحددها النقاد في تجاوز النص الروائي الخيوط حياكة الرواية الكلاسيكية.

حيث تجاوز نصّ الرواية خيوط حياكة النصوص الكلاسيكية، بضرورة وحدة الموضوع، وتسلسل أحداث القصة ضمن بداية ونهاية وعقدة وبطل يصنع أو تصنعه الأحداث، في إطار مراحل زمنية تاريخية خطية.

الإبداع المعرفي للرواية

إن عمق مضامين الرواية يعود إلى اعتماد كاتبها على الموضوعية المعرفية. إذ تستلهم في قالب حواري جذاب -من الفكر الصوفي والفلسفي المعاصر وعلم التحليل النفسي- النقاشات الفكرية الدقيقة التي تدور بين آسيا ونسرين.

هذا، وغلب الفكر الفلسفي الصوفي على معاني الحوار، فكان الكاتب يستجلب منه مقولاته الإشراقية، التي تجرد العشق من معناه الصوفي وتضيف عليه معناه الإنساني، فترد بذلك اعتبار الإنسان وقيمه السامية التي تجد أساسها في مشاعر الود وحب الآخر.

الرواية تتناول موضوع العشق من بعده السيكولوجي وتضعه فوق الزمان والمكان. حيث كشفت عن تهديدات دقيقة ينصهر ضمنها الإلهي مع الإنساني، المقدس مع الدنيوي، بشكل يجعل الحدود تختفي فيما بينهما، فيتحول العشق باعتباره إحساسًا وسموا إنسانيًا إلى تصور عام للحياة والمعيشة تتداخل فيه كل التناقضات: الحب والكره، الحياة والموت، الفناء والخلود، الخير والشر، القسوة والتسامح.

إبداعٌ في الشكل

يتجسد الجانب الإبداعي في الرواية في كونها يسارية، بمفهومها التقليدي، وافتقارها لبطل محدد. لكنها فكرة انبثقت، وبدت في بداياتها الأولى غير محددة المعالم. غير أنها صارت توضح وتكشف عن معناها، كلما ارتقى النقاش في الحوار بين آسيا ونسرين، وهما أهم شخوص الرواية.

أحداث الرواية تجري في مكان محدد، “الزور” في ريف الرقة القابعة آنذاك تحت سلطة “تنظيم الدولة الإسلامية”. وشخصياتها المتمثلة في آسيا ونسرين ومجموعة من الرجال والنساء والأطفال الفارين من المعارك الدائرة بين التنظيم و”قوات سوريا الديمقراطية”.

ومع ذلك، فهي لا تستعرض أحداثًا واقعية أو خيالية على غرار الروايات الكلاسيكية، وإنما تناقش بأسلوب فكري أخاذ فكرة سيطرة تنظيم الدولة على محافظة الرقة. إذ تناقش الرواية الحرب وتعلو بها إلى درجات الفهم والإدراك باستعمال الرموز، وكان أقوى تلك الرموز المرأة وحضورها بوصفها الصوت الراوي والبطل.

جسد الكاتب مفاهيم الحب والحرب للقارئ، وقسّم الحقب الزمنية المعالَجة إلى 28 “نبشًا”، هكذا سمّى الفصول، تقضيها آسيا ونسرين في حوار هادف وشيق، ينتهي كل مرة بتسليط الضوء على مفاهيم كبرى من قبيل الحب والحرية والموت والهروب على وجه التخصيص.

“تحقيب” الكاتب للرواية ليس تحقيباً تاريخياً زمنياً بقدر ما هو “تحقيب” معرفي يحمل تطورًا للأحداث والمعاني وينقل في كل ليلة من الليالي التي تقضيانها آسيا ونسرين في المخيم، مستوى من مستويات الحرب.

عند وضع نقطة نهاية نصه الروائي، ينحّي الكاتب المغيرة الهويدي شخصيته وينهي دوره لصالح القارئ، ليبدأ الأخير في تأمل ذاته وتموقعها بالنسبة إلى مراحل تطور فكرة الحرب.

إن إبداع وجمالية رواية “قماش أسود” -شأن الروايات المبدعة في حقبة ما بعد الحداثة- تَمثّل في إشراك كاتبها المغيرة الهويدي للقارئ، إشراكًا ملهمًا يغريه بإعادة كتابة الرواية، ما يولد إبداعًا جديدًا لدى القارئ، يعد الأسمى بين روايات ما بعد الحداثة.

*تلفزيون سوريا