بلغ عدد الضحايا من أقربائي، حتى هذه اللحظة، الـ30، كلهم في المقبرة (901)، الرقم الذي سيبقى محفوراً في ذاكرة عائلتنا، فإن تلاشت أسماؤهم من القبور، سنعلم أنهم كلهم هناك، في مقبرة مرتجلة، منحها إيانا غريب، بعد سبعة أيام من الزلزال.
استيقظت سريعاً لاستلام الجثث من البراد، هنا لا يسمح لك بالنوم أكثر من ساعتين، تتبعنا سيارة الـ”كيا” المخصصة عادةً لنقل الفواكه، بعدما وضعنا فيها الجثث متّجهين الى المقبرة الجديدة في “ييلاداغ”، التي تحمل اسم المقبرة (901)، وتبعد من أنطاكيا نحو خمسين كيلومتراً.
هي ليست مقبرة رسميّة. وهب رجل صالح أرضاً زراعية لتكون الملاذ الأخير للسوريين الذين قضوا في الزلزال. كان هذا الخبر من أجمل الأخبار التي سمعتها الأسبوع الماضي، إذ لم أكن أعلم أين سندفن الجثث، فمنذ أسبوع مضى وحتى اليوم أصبح عملي اليومي هو البحث بين الركام خلال النهار، وانتشال الجثث وتجميعها، ونقلها مساءً الى “ييلاداغ “، والاستيقاظ فجراً لدفنها في المقبرة، المفارقة أني تدربت على هذا العمل قبل سنوات، كوني كنت صحافياً مقيما في سوريا، وكان عليّ أن أتعلم كيف أخرج جسداً من تحت الركام.
كنت في اسطنبول حين سمعت خبر الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا في الساعة 4.17 فجراً، لم أكن نائماً حينها، وحاولت مسرعاً التواصل مع من أعرفهم من أقارب وأصدقاء، تابعتُ الأخبار الواردة التي كانت تتوارد سريعاً من مناطق الزلزال، لأن عملي يقتضي ذلك، ولي الكثير من الأهل والأصدقاء الذين يسكنون جنوب البلاد.
حاولت التواصل سريعاً مع الأهل والأصدقاء للاطمئنان عليهم، خلال ساعة من المحاولات لم أتمكن من الوصول الى أحد منهم، لكن تشكلت لدي صورة عن حجم الخسائر والدمار حين بدأت وسائل الإعلام تنشر عدد الضحايا الذين أصبحوا بالآلاف. تجهزت سريعاً مع أخي وابن عمي وخرجنا من اسطنبول قاصدين أنطاكيا. لم تردنا أي معلومات من هناك عن أقاربنا وأهلنا، لم نكن نعلم أن المدينة خرجت عن الخدمة، إذ لا كهرباء أو ماء أو إنترنت.
تمكنا نحو الساعة 12 ظهراً من التواصل مع أول شخص نعرفه يقيم في أنطاكيا، علمنا أنه بخير، لكنه لم يكن يعرف ظروف بقية أفراد العائلة، ورويداً رويداً بدأت المعلومات تتوارد من هناك.
لم يجب أحد من عائلة عمتي حين اتصلنا بهم، لكن ما نعرفه أن عمي وزوجته خرجا من تحت الركام بعد ثماني ساعات، وأخبر الأقارب في أنطاكيا أن ابنه وزوجة ابنه كانا في المنزل، لكنه لم يسمع منهما أي صوت.
يستغرق الطريق من اسطنبول الى أنطاكيا نحو 16 ساعة، لكنه كان أطول بكثير بالنسبة إلي، كانت الظروف الجوية سيئة للغاية، فالثلج يغطي الطرقات ولم نكن نستطيع الإسراع، كنا نحاول البقاء على قيد الحياة كي ننتشل من بقي تحت الركام، ولا نريد أن نتيح الفرصة أمام المزيد من الموت.
كانت الاتصالات التي تأتينا من الناجين في أنطاكيا، تخبرنا بأن المدينة دُمرت بالكامل، لم نكن نتخيّل حجم الدمار، مررنا بأنقرة وأخذنا معنا ما يمكن أخذه، وحملنا ما يمكن حمله معنا ليساعدنا في الطريق من أضنة الى أنطاكيا.
الطريق مغلق تماماً بالسيارات، الازدحام يفوق الوصف، كأنه نزوح جديد من حلب، لكننا وصلنا في النهاية. التقينا بعمي وزوجته وبنت عمي وزوجها مجتمعين في سيارتهم في منطقة بعيدة من الأبنية، اختاروها ليمضوا فيها الأيام المقبلة، لكن لم يتمكن أحد منهم من وصف ما حدث بدقة، كان الجميع عاجزين عن قول كلمة واحدة بحق ما حدث.
حاولنا التوجه الى منازل العائلة في أنطاكيا، كانت الطرقات مغلقة والأبنية مدمّرة ، وكان السير على الأقدام هو الخيار الوحيد. ركنا السيارة وتابعنا الطريق سيراً، تجولنا في أنطاكيا متنقلين بين منازل العائلة إلى حين وصلنا الى منزل عمتي. هناك شاهدنا سيارة ابن عمتي أمام الباب، فعلمنا أن أفراد العائلة لم يغادروا، كون السيارة في مكانها. اتفقنا حينها أن تحمل قبورهم حين ندفنهم رقم “901”، وهو رقم سيارة ابن عمتي نفسه.
أستطيع أن أجزم وأنا أشاهد الخراب، بأن من هم تحت الأنقاض أكثر ممن هم فوقها، لكن لا وقت الآن، عند الوصول إلى أي منزل كنا نصرخ بصوت واحد، هل من أحد يسمعنا. لا جواب. نُردد أسماء أقاربنا واحداً واحداً عند كل منزل، على أمل أن نسمع رداً واحداً على الأقل، لكن هذا ما لم يحدث.
أمضينا ليلتنا الأولى في السيارة، كنت قبلها بيوم من دون نوم أيضاً، نمنا لساعتين بعد طريق سفر طويل جداً، وصباحاً بدأنا العمل بأيدينا في كل منزل، كنا نحاول فتح ثغرة محاولين الوصول إلى من في الداخل، لم تكن الآليات قد وصلت بعد، وفرق الإنقاذ الموجودة كانت تحاول إخلاء المباني التي لم تدمّر بالكامل، لكن لسوء حظنا لم تكن أي من منازل العائلة بهذا الشكل، فجميعها سُويت بالأرض.
لم نستطع في اليوم الأول، أن نحصل على أي دعم أو استخراج أي جثث. جلسنا مساءً مع من بقي من العائلة على قيد الحياة، وأكبرهم عمي الذي بقي ابنه وزوجته وأحفاده تحت الركام، وخرج هو وزوجته. لم تكن هناك أي كلمات مواساة. لم يبك عمي، بل وقف مخاطباً إيانا قائلاً إننا سنعمل على انتشال جميع جثث أفراد العائلة، وسندفنها في مقبرة واحدة بالقرب من بعضها البعض، تقابلها في الطرف السوري قرانا ومناطقنا التي لا تبعد من هذه المدينة أكثر من ثلاثين كيلو متراً.
يُكمل عمي حديثه قائلاً إنه في حال كتب الله لنا العودة الى سوريا يوماً ما، نستطيع زيارتهم متى نشاء، وفي حال كتب لنا الله أن نبقى مشردين ومهجرين، فيمكننا أن نزورهم أيضاً.
لم أكن أدرك حجم الكارثة، وافقنا جميعاً وقلنا حاضر. لم نكن نعلم أن الظروف ستمنعنا حتى من تحقيق هذا الحلم. كنا نتوقع أن نخرجهم خلال يومين أو ثلاثة أيام، لكننا أمضينا ثلاثة أيام حتى استطعنا استخراج الجثة الأولى، وهي جثة ابن عمي، عبد السلام محمود، الرجل الخمسيني الذي عانى ما عاناه تحت الأنقاض، فهو كان دُفن سابقاً تحت الأنقاض في سوريا، لكن حينها تمكّنا من أن نخرجه حياً بعد أن دمّر برميل متفجر منزله في قريتنا الصغيرة في ريف اللاذقية عام 2013. أذكر أن محمود فقد السمع في أذنه اليمنى، لكنه بقي على قيد الحياة، خائفاً من أن يموت تحت الأنقاض، كان كلما اجتمعنا به يحدثنا عن كل ما حدث معه، وكيف قتل البرميل اثنين من أبناء عمي وأصاب آخرين.
كان محمود يحدثنا عن كيفية نقله الى المستشفى، وعن محاولات لاستخراجه من تحت الركام. أعتذر هنا لمحمود، لأننا فشلنا هذه المرة في أنطاكيا، ولم ننجح في إزالة الأنقاض عنه. انتشلنا بعد دقائق جثة زوجته، ابنة عمتي خديجة، كانوا بالقرب من باب المنزل يحاولون الهروب الى الحياة، لكن فشلت محاولتهم. نقلنا محمود وابنة عمي الى براد في “ييلاداغ” على أمل أن ننجح في اليوم التالي في انتشال ما تبقى من جثث تحت الأنقاض.
تفاجأت في اليوم الثاني باتصال من مسؤول البراد يطلب مني الحضور في الحال لاستلام الجثث، إذ لا يسمح لها بالبقاء أكثر من يوم واحد، ويجب أن نخرجها في الحال، فأعدنا هنا ترتيب خطتنا، واتفقنا على أن نقسم اليوم إلى ثلاث مراحل، صباحاً ندفن ما لدينا من جثث، ومن ثم نتجه الى أنطاكيا ظهراً لانتشال ما نستطيع، ومساءاً ننقل ما تجمع إلى البراد.
بلغ عدد الضحايا من أقربائي، حتى هذه اللحظة، الـ30، كلهم في المقبرة (901)، الرقم الذي سيبقى محفوراً في ذاكرة عائلتنا، فإن تلاشت أسماؤهم من القبور، سنعلم أنهم كلهم هناك، في مقبرة مرتجلة، منحها إيانا غريب، بعد سبعة أيام من الزلزال.
*درج